تضخم ظاهرة الفساد في العراق. هل الدين مسؤول عن ذلك؟ وما علاقة الآذان بهذه الظاهرة؟ وماهي الدول الاكثر التزاما بالمبادئ الاسلامية؟
د. سعد ناجي جواد
تضخم ظاهرة الفساد في العراق. هل الدين مسؤول عن ذلك؟ وما علاقة الآذان بهذه الظاهرة؟ وماهي الدول الاكثر التزاما بالمبادئ الاسلامية؟
الحديث عن الفساد والنهب المنظم للاموال العامة وواردات الدولة في العراق حديث طويل ومحزن ويدمي القلب قبل العين، والاكثر ايلاما انه لا يوجد ما يدلل على قرب نهايته، وعمليات السرقة ليست فقط مستمرة ولكنها تتصاعد بشكل رهيب وغير معقول او مسبوق، والارقام التي تذكر تجعل المرء يعتقد انه يسمع قصصا خيالية، ثم تاتي الوثائق لتثبت صحة الاتهامات. وربما تكون هذه الحقيقة هي ما يصيب الناس بشيء من الياس والذي يقود الى الايمان شيئا فشيئا بان الحالة اصبحت ميؤس منها، او غير قابلة للاصلاح. وهذه القناعة تتاكد يوما بعد يوم لعدم وجود احكام رادعة او عقوبات تناسب هذه الجرائم ولا توجد سلطة تنفيذية او تشريعية مهتمة بهذه الكارثة، لسبب بسيط هو ان اغلب اطراف هذه السلطات مشتركة في هذه الظاهرة.
الارقام والحقائق التي تنشر يوميا عن هذه الحالة تجعل المتلقي في حيرة من امره، هل صحيح ان الجشع وصل بالناس الى هذا الحد؟ نفي ثمانينات القرن الماضي كتب الصحفيين الانكليز عن حالة مشابه سادت متمثلة بعمليات الحصول على عمولات من صفقات الاسلحة والنفط يقول، ان الجميل في هذه العمليات انك يكفي ان تفعلها مرة واحدة وتغتني وتعيش مرفها باقي حياتك، ( the beauty of it is you only have to do it once).الا ان هذه المقولة لم تعد تنطبق على الفاسدين في العراق، لان الفاسدين مستمرين في نهبهم لموارد الدولة منذ عام 2003 ولحد الان، مع ظهور نماذج جديدة لا تقل جشعا. الامر الصادم اكثر ان من يمارس عمليات النهب المنظم في غالبيتهم يدعون التدين والتمسك بالدين والصوم والصلاة، هذه الحالة جعلت شاعرا شعبيا عراقيا يطلق اهزوجة شعبية معبرة قال فيها:
اذا كلها (كل الناس) تحج وتصلي وتصوم
چا (اذا) هذا الفساد منين ياكوم (ياقوم).
ما يجري في العراق ذكرنيبمقولة وقصة لعالمين عربيين جليلين. الاول هو الشيخ محمد عبده، احد ابرز ائمة الاسلام الاصلاحيين (توفي عام 1905) والذي نقل عنه بعد زيارته لباريس عام 1881 انه قال (وجدت اسلاما ولم اجد مسلمين، وفي بلادنا يوجد مسلمين ولم اجد اسلاما). والثانية قصة رواها الدكتور علي الوردي احد ابرز علماء الاجتماع في التاريخ العربي المعاصر (توفي عام 1982) حيث قال انه عندما كان يدرس في الولايات المتحدة الامريكية استطاع ان يقيم علاقات طيبة مع اغلب عوائل المنطقة التي سكن فيها اثناء دراسته، الا انه استغرب لحالة امراة مسنة كانت تعامل وكانها منبوذة من كل الحي. وانه حاول ان يتقرب منها، ووجد انها قد سُرت بسلامه عليها وباحاديثه المقتضبة معها، الا انه تفاجأ ان ابناء الحي قد غضبوا منه، ولما اراد معرفة السبب قالوا له كي تكلم هذه المراءة، هذه انسانة غير شريفة، انها بدون شرف. وتعجب ان يكون هذا تقييم مجتمع كان يجده لا يعير اهتماما لمسائل الشرف والعفة حسب ما كان يفهمه عن الشرف والعفة استنادا الى ثقافته الشرقية، والتي تتعلق (بالحفاظ على ما بين الرجلين)، الا انهم صححوا له فكرته بالقول ان هذه المراءة كانت اثناء الحرب العالمية لاتلتزم بقيود التعتيم اثناء الغارات المعادية ولا في فترة الترشيد في استخدام الطاقة، وبفعلها ذلك اثبتت انها ليس غير شريفة، وكذلك ليس لها غيرة وطنية، ولهذا هي منبوذة من الحي كله.
وبعد كل هذه السنين لازالت المقولتين ساريتي المفعول وتنطبق على مايجري، وخاصة في الدول والمجتمعات التي تحكم من قبل الاحزاب الدينية/ الطائفية، او ممن يدعون الدين ويدعون اتباع السنة النبوية الشريفة او نهج ال البيت الاطهار او السلف الصالح.الملفت للنظر، علما بانه وحسب دراسة نشرت قبل فترة عن الدول الاكثر التزاما بمباديء الاسلام النصية جاء ترتيب الدول على النحو التالي: ايرلندا، الدانمارك، لوكسمبرج، السويد والنرويج. اما اول دولة عربية اسلامية فلقد جاءت في الترتيب 91 من القائمة.
لحد الان نجد ان اغلب قادة واتباع هذه الاحزاب والحركات التي تدعي التدين بعيدين كل البعد عن مباديء الاسلام السامية ، او بصورة ادق لا علاقة لهم بها. ولحد الان نجد قادة واتباع هذه الحركات، لا بل غالبية لا يستهان بها من ابناء المجتمعات الاسلامية، يعتبرون الشرف هو فقط ما يتعلق بالجنس. وعندهم ان الاهم في الاسلام هو ان يصلي المرء ويصوم ويقرأ القران ويلطم ويبكي ويمزق ثيابه حزنا على ائمة اطهار ضربوا اروع الامثلة في البطولة والعفة والنزاهة والايثار ونكران الذات، وتركوا الدنيا بدون ان تتلوث ايديهم بالسحت الحرام. كما انهم لا يزالون قادرين على ان يبرروا سرقاتهم وجرائمهم باقوال دينية، بينما في الغرب فان الغالبية العظمى من الناس، وخاصة الموظفين والعمال والذين يتبوأون مناصب قيادية، لا يسرقون ويتفانون في اداء واجباتهم في الاعمال التي تناط بهم، ويحافظون على المال العام والممتلكات العامة، ويحرصون على احترام ساعات العمل ويحترمون الناس الاخرين الذين يتعاملون معهم. والظاهرة الاسوأ في مجتمعاتنا هي انه لاتزال هناك نسبة عالية من الناس تطبل وتزمر وتنافق للسارق وللفاسد وتمجد به وتعيد انتخابه وتعلن انها مستعدة لان تضحي بنفسها من اجل عودة هذه النماذج للحكم. وبالتاكيد فان الجهل الذي يعيش فيه هولاء الافراد والجماعات يعمي بصيرتهم عن حقيقةً هولاء الاشخاص الذين يتكالبون على تمجيدهم، ولا يجدون فيهم اشخاصا عديمي الشرف والغيرة الوطنية ولا يتحلون بمباديء الاسلام السامية.
بعد الاحتلال دخل العامل الطائفي المقيت ليلعب دوره في دعم الفاسدين. حدثني صديق عن موقف ابناء عشيرة كانت معروفة بمواقفها الوطنية انهم قالوا ردا على انتقادهم على انتخاب نفس الفاسد في كل مرة، انهم قالوا ان هذا الشخص هو افضل من غيره من الطائفة الاخرى حتى وان كان ذلك الشخص نزيها. على الجانب الاخر ظهر احد المعممين على شاشات التلفاز وقال لمستمعيه، الذين كانوا يملأون المكان الذي كان يلقي فيه موعظته، (يا اخوان طالما ان هذه الحكومة حققت لنا بث الاذان الذي يخصنا من الاذاعة والتلفزيون، فلا تعترضوا عليها، واتركوا الحديث عن فساد وسرقات اطرافها، واحذروا ان تساهموا في قلب هذا النظام والذي قد ينتج عنه وصول من يمنع بث الاذان الذي يخص طائفتنا).
في سيرة السلف الصالح، وفي رواية تاريخية قديمة قيل انه عندما بويع المنصور للخلافة سال معمر حكيم (مقاتل بن سليمان)ان يعظه، فرد مقاتل: من ما قرات او من ما رايت، قال الخليفة مما رايت، فاجاب مقاتل عندما توفي الخليفة عمر بن عبدالله العزيز ترك احد عشر ولدا وثمانية عشر دينارا، صُرِفَ منها تسع على تكفينه وقبره ووزعت التسعة الباقي على اولاده، وعندما سئل ماذا تركت لابناءك قال : تركت لهم تقوى الله ، فان كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين وان كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى. وان هشام بن عبد الملك انجب احد عشر ولدا وعندما مات ترك لكل واحد منهم الف الف دينار، (اي مليون). ثم اردف مقاتل، (والله يا امير المومنين شاهدت احد ابناء عمر بن عبد العزيز يتصدق في يوم واحد بمائة فرس للجهاد في سبيل الله ووجدت احد ابناء هشام يتسول في الشوارع).
التاريخ مليء بالعبر، وان من بين هذا العبر مقولة (ما طار طير وارتفع الا كما طار وقع)، و (الكفن ليس له جيوب)، و (بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين)، وان طغاة كثيرون اكتنزوا من السحت الحرام ما لا يعد ولا يحصى، وكان لهم من القوة والنفوذ ما لم يكن يجاريه فيهم احد ثم ماتوا ولم يجدوا قبرا ياويهم، في وقت ظلت قبور الصالحين والعفيفين منارات تهتدي بها الناس.
لا يمكن اصلاح النظرة الى الشرف الا من خلال امرين، الاول التركيز على التعليم والثقافة وبناء الاجيال التي تفهم معاني هذه الكلمة بصورة صحيحة. اجيال تتعلم ان الشرف لا يشترى بالمال، وان الاحترام لا يشترى بالسحت الحرام او بالقتل والترويع، والثاني اصلاح القضاء لكي يكون السيف المسلط على رقاب الفاسدين والقتلة وغير الشرفاء. قضاء وطني وشريف قولا وعملا. وحتى يتم اصلاح هاتين المؤسستين (التعليم والقضاء) فلا يرجون احد اصلاح ما فسد في المجتمع او رفاها اقتصاديا يعم على العراقيين جميعا.