حب في خريف العمر
طارق احمد السلطاني
حب في خريف العمر
بعد مرور شهر من ملازمته الفراش أثر مرض مفاجئ ألم به ، خرج أيوب من الدار وهو يلقي نظرة انبهار إلى الشمس الساطعة في نهار بغدادي جميل ، يتملكه شعور انتشاء بالحرية اللامحدودة .
واصل التنزه سيرا على قدميه على طول الطريق المحاذي لنهر دجلة الخالد قادته قدماه نحو الغابة القريبة من شاطئ النهر ، الغابة التي يطلق عليها البغداديون اسم زور ، تلك الكلمة المشتقة من كلمة ZOO الإنكليزية والتي معناها حديقة الحيوان حيث إن هذه الغابة القريبة من النهر كانت مأوى للعديد من الثعالب التي تسمى أيضا اسم (( واوية وهي جمع لكلمة واوي )) حتى أن بعض النسوة في الماضي كن يطلقن هذا الاسم على المواليد من الذكور لاعتقادهن أن هذا الاسم الغريب يبعد عن ولدها شر الحسد أو المرض أو الموت .
اعتدل أيوب في جلسته على المقعد الخشبي بجوار الجذع الكبير تحت الشجرة الفارعة ، ينظر إلى النهر الذي تجري مياهه ببطء ، تتساقط وريقات من الشجرة الضخمة في ذلك الصباح الخريفي ، كأنها وريقات تين في أواخر الخريف .
فجأة ! سمع صوت توقف سيارة صالون على الطريق المحاذي للنهر ، ألتفت إلى الوراء ، فوجئ بامرأة تهبط من مركبتها وتسير بين الأشجار . أدار نظراته نحو الأرض ، فقد بلغ من رقة شعوره أن أحس بأن مجرد اختلاس النظرات إلى عقبي الفتاة وهي تسير أمامه وترفع طرف ثوبها اتقاء الأوحال هو فسق وانتهاك لطهارة الفتاة . كما أنها قد تثير لديه الغريزة الجنسية عند رؤيته المرأة وهي ترفع ذيل ثوبها إلى الأعلى لتكشف عن
جزء أو كل جسدها الأنثوي ، العاري ، المثير للشهوة الحيوانية لدى الرجل. راح ظلها يغيب وراء أشجار الغابة .
استغرب الأمر حين حال وقوفها قبالته مستندة إلى شجرة كبيرة تتأمل الكون الصامت من حولها .
* * *
كانت أوراق الخريف الذهبية تتساقط بوفرة من موجات سريعة متتابعة .
اسند ظهره إلى ظهر المقعد ، رفع يده إلى رأسه مفكرا لحظة ، شأن الرجل الذي أضناه السير الطويل أو أمضته الذكريات المؤلمة !
أخذ يهمس إلى نفسه باستغراب قائلا :
- من تكون هذه المرأة ؟ ! ازداد في النظر إليها ، أخذ يرتعش ، يحاول أن يجري حوارا صغيرا ، إذ كان عذبا لهما كليهما أن ينظر أحدهما إلى الأخر وقد كان ألما محيرا ومنكمشا ذلك الذي أجبرا نفسيهما على تحمله لبرهة قصيرة . أه ! لقد تذكرتها الآن ! أنها مديحة زميلتي في كلية الصيدلة قبل ثلاثين سنة مضت ، فهي ذات حيوية فائضة وجمال غريب جداً ومواهب فنية . كنت مأخوذا بمظهرها وجمالها وحديثها والابتسامة التي لا تفارق شفتيها . رغم أنها أمامي الآن ، لكنني أرى أن هناك جسرا طويلا بيني وبينها ومن الصعوبة عليَّ عبور هذا الجسر وليس في وسعي أن أحلل السبب الكافي وراء ذلك ؟ !
أخذ يهمس إلى نفسه قائلا :
- مديحة . عشقت صورتك الحسنة ، اشتهاكِ قلبي يوم رؤيتكِ أول مرة ، أصبت بسهم حبك القاتل ، الطاهر ، العفيف ، المتميز بكونه فضيلة إلى اكتمال شخصينا وتعليمنا وثقافتنا .
انطلقت في النظر إليكِ وأنت تلقين شعرا غنائيا في حفل التخرج من الجامعة ، انك تتمتعين بحنجرة غريدة ، وهذه الرنة في نبرة صوتك يكشف انك من النساء الموهوبات وتمتلكين صوتا ساحراً ! سهرت الليالي التي تردد صدى صوتك الشجي وأنتِ تغنين شعرا ، لقد زهدت في النوم زهدي في اليقظة ، حرمتيني لذة الرقاد منذ أمد بعيد ، وعندما تعود ذكرى صوتك الجميل إلى أذناي أكون بين الحلم والتأمل .
أتذكرين يا مديحة أيام لقاءاتنا في نادي الكلية ، وكيف كانت تدور بيننا أحاديث حلوة وجميلة ونحن نتبادل النظرات والابتسامات ونحن نشعر بفرح غامر . حتى أن صديقتك وفاء التي كانت تنظر إلينا بحسد واضح يوم قالت:
- أنكما منسجمان أشد الانسجام ، حتى أن ذوقكما في الأكل والملابس متشابه وواحد . وانك رددت عليها بسرعة وعصبية قائلة :
- أتمنى لك أن تعثري عن ذلك الصديق الإنسان الذي تنسجمين معه مثلنا ؟! نهضت وفاء من المائدة بانزعاج من كلام مديحة . أما مديحة فقد رفعت نظارة القراءة المعلقة فوق كقلادة فوق رقبتها ، ثبتتها فوق أرنبة أنفها لتواصل القراءة .
* * *
قبل انتهاء المرحلة الجامعية فكرت أن أخطو الخطوة الأولى نحو مفاتحتك بالزواج ، فأنت المرأة التي كنت أحلم بلقائها في الليل وأبحث عنها في النهار ! إنها المرأة التي كنت أبحث عنها طوال حياتي فهي زوجة وجسد راقص قويم ، قلب نابض بالحياة ، روح مملوءة بالحب والتفاؤل وآمال بعيدة المدى ، روح طاهرة بيضاء ذات وجه صبوح صاف من النمش والبثرات .
وجها مبتسما ضاحكا مشرقٌ لكل الإنسانية قلب مفتوح للحب والوفاء . أتذكرين يوم كنت ترتدين ملابس الملائكة البيضاء ، تزايد حبي لكِ بسرعة البرق ! عشقتكِ بجنون مراهق ! يوم بدأتِ الحديث معي قائلة :
- أيوب . أنني معك . أشجعك على تنفيذ مشروعك . ثم ألتفت إلى صديقتك وفاء وقلت لها :
- وفاء اسبقيني إلى المكتبة وسوف ألحق بكِ بعد قليل .
بقينا وحدنا . انتهزت الفرصة وقلت لكِ :
- مديحة . أحب أن أهديكِ قميصا .
رديتِ عليَّ بغنج ودلال وقلت :
- أحب القميص المصنوع من قماش الحرير الفاتح الألوان وعلى أن يكون مستوردا من الخارج .
* * *
بعد مرور أيام قليلة انقطعت مديحة عن حضور المحاضرات بصورة مفاجئة ! أخذت أكتب إليها المحاضرات اليومية بصورة منتظمة وبخط واضح حتى تكون جاهزة لاجتياز الامتحان النهائي دون أية عقبات عن غيابها . لا تفارق خياله وهي تقرأ ما كتب إليها ، فهي تسيطر على روح البسمة والضحك والحركة والإنسانية والتي هي من الأساسيات التي تتصف بها المرأة .
حقا أنها امرأة ينجذب إليها الطير المحلق في السماء ، يحبها ، يعشقها ، يتمنى أن تصيده ، أن تمسك به ، أن تسجنه داخل قفص تعلقه قبالتها ، ليقضي بقية عمره القصير مستمتعا في النظر إليها .
أه يا مديحة ! كيف كنا نتحدث ، نطلق النكت والمزاح البريء المضحك ،
نغوص في بحر الحياة الهائج ! نصطدم بموجاته العاتية ! كنا نقول سوية : لا أمل في النجاة ؟ !
كنا نتوصل إلى حقيقة أننا موتى نعيش بين الأحياء ! أننا موتى يحيون أيامهم ولياليهم بحزن ومضض بين الأحياء !
* * *
هل رحلت مديحة ؟ هل تزوجت ؟ هل هي مريضة طريحة الفراش ؟ أرجوك يا وفاء أخبريني عن سبب انقطاعها عن الدراسة ؟
- لست أدري . أيوب إذا كنت تريد أن تقطع الشك باليقين فأسرع بالذهاب إلى بيتها واسأل عنها ؟ ! الواقع أنك طيب القلب . كريم الخلق . سريع المغفرة .
* * *
صعدت الدموع من قلبي إلى عيني يوم حضرت مديحة إلى الكلية ؟ ! فوجهها شاحب مائل إلى السواد ! كمن حلت بها نكبة أو مفاجئة أو مصيبة كبرى ؟ ! يبدو للعيان وبصورة ظاهرة نصف وجهها العلوي قد تعرض لضربات قوية أو أنها لطمت على وجهها بقوة شديدة ؟ !
أخذت عيونهما النرجسية تتحدثان بكل رقة وأمل وحب كامن في قلبيهما .
* * *
حال انتهاء حفل التخرج الجامعي . تفرق الطلبة للدوام والاستقرار في أماكن متفرقة ومتباعدة ! فقد رحلت مديحة عن بغداد لتباشر عملها في مدينة البصرة .
أما أيوب فقد غير مهنة الصيدلة إلى أعمال التجارة في المواد الزراعية والأسمدة والمواد الكيماوية لمكافحة الآفات الزراعية . تزوج من امرأة تصغره في السن لكنها عصبية المزاج سليطة اللسان ، تحملها من أجل الثلاثة ، فقد خلفت له أنثى واحدة وذكرين كانوا القيد الحديدي في بقائه العيش مع زوجته وعدم الانفصال عنها . بعد أن فقد مديحة ، نصفه الثاني ، تلك المرأة التي تزوره في أحلامه كل ليلة ، كبر وكبرت معه ، صورتها وأنوثتها ، وها هي الآن ، وفي خريف عمره يعثر عليها ، شعر أنه قد ولد من جديد ، فهذه مديحة تقف أمامه ، أنه يوم عظيم ، يوم اللقاء والحب والموت سوية ! رغم كيد العذَّال والحاسدين إنها امرأة جميلة شقراء ، طويلة ، رشيقة القوام ، لا . لا إنها ليست امرأة فحسب بل هي زوجة وأم وجسد وقلب وعقل وروح للرجل ! فهي لا زالت تمتلك جمال غارب يرف على وجهها ، وذاب صوتها الرخيم في ضبابية الخريف . إن البحث عنكِ منذ سنين طويلة ، والجري وراء وهم تحقق بعد طول رجاء هو أول وأهم أسباب مرضي !
* * *
روح الخريف توقد تنانير المشاعر الغامضة والتصالب العنيف بين الموت والحياة .
غمر السرور نفس مديحة حين عرفت الشخص الجالس على المسطبة زميلها أيام الكلية أيوب .
عادت بها الذكريات إلى أيام الكلية ، وكيف كانت تنتابه حالات الغضب والعصبية عندما يراها تلعب الكرة الطائرة مع الطلبة الآخرين .
وهي تقول له :
- إنني سعيدة جدا ، انك تشعر بالغيرة ، إذن فأنت تحب !
احتقنت وجنتاها ، أحست بنسيم الحب يداعب قلبها ، وينثر عبيره المسكر في خلايا جسدها ليضفي على أحاسيسها نشوة عارمة . لم تستطع مقاومة مشاعرها الإنسانية نحوه .
مشيتُ نحو أيوب ببطء ، وفي هذه الغابة التي تحجب عيون العذُّال والفضوليين جذبها إليه ، أخذ يشد صدرها إلى جسده بقوة ، ويشبك أصابعه في الشعر الأشقر الذهبي الكثيف الذي ينساب فوق ثوبها الأزرق حتى يلامس ردفيها . ثم يُقَّبل خدها بينما تشيح به عنه ، ثم تنتشي مترنحة بين ذراعيه . بدأت نيران القبلات الحارة تهفت رويداً ... رويداً .
هبت عاصفة خفيفة في هذا الجو الخريفي المتقلب في بغداد بين آونة وأخرى ؟ ! جلسا جنبا إلى جنب فوق المقعد الخشبي . نشوة غريبة تلفهما ، تحت ظلال أوراق الخريف التي تتساقط فوق رأسيهما دون انقطاع .
ابتسم أيوب وسألها بدهشة :
- حدثيني عن حياتك العائلية ؟
- كانت أول صدمة أواجهها ، الاختيار الصعب بين الحب الكامن في قلبي والزواج الذي تم بسرعة تنفيذا لرغبة أهلي بعد أن تقدم أحد الضباط العسكريين لخطبتي .
أثناء الاحتفال في اليوم السابع لزفافنا وردت برقية طُلب فيها من زوجي أن يقطع إجازته ويلتحق بجبهة القتال في الجنوب فورا لتحرير الفاو من الغزاة اعداء الانسانية . وتنفيذا للأوامر العسكرية غادر الدار في تلك الليلة .
والصدمة الثانية سماعي نبأ استشهاد زوجي في المواقع الأمامية من أجل
تحرير أرض العراق ، أرض الفاو العزيزة على قلب كل عراقي وطني شريف .
حصلت على الموافقة لانتقالي إلى وظيفة جديدة ببغداد . ضاعفت جهودي بالعلم لتخطي هذه المصيبة التي حلت بي . فقد قمت بافتتاح صيدلية على حسابي الخاص إضافة إلى المواظبة على دوامي نهارا في أحدى مؤسسات استيراد وتسويق الأدوية الحكومية .
* * *
بعد مرور ثلاثة أشهر وقعت طريحة الفراش أُعاني الأم شديدة في الرأس والبطن مع تقيؤ بين ساعة وأخرى !! وبعد نقلي إلى المستشفى تبين إنني حامل وأُعاني من فترة الوِحام !
شعرت بفرح عظيم يوم ثمرة زواجي . فقد رُزقت بطفلة جميلة أسميتها
(( زمن )) . كرست معظم أموالي وأيامي في تربيتها والاعتناء بها سبعة عشر ربيعا . زمن أصبحت شابة جميلة ، نضجت وكبرت بسرعة مما دفع الكثير من الشباب إلى التقدم لخطبتها . وهذا ما دفعني إلى تزويجها قبل ثلاثة أسابيع الى شاب من عائلة غنية ومثقفة لا يزيدها عمرا بأكثر من خمس سنوات . فهذه سُنَّة الحياة فوق الأرض . وها أنت تراني أعي وحيدة بين جدران بيتي الذي بنيته بأموالي وشقائي ودمي !
- الحقيقة يا مديحة أني كنت أحيانا كثيرة أفكر فيكِ . لا أريد أن تمضي الحياة بدونك ... أريد أن أمسك يدكِ كما أمسكها الآن . بحثت عنكِ في كل مكان فوق الأرض . سكنتِ شبحا داخل قلبي وعقلي وروحي ! فبعد سياحة طويلة في أعماق العقل الإنساني رأيتكِ سجينة في زنزانة خلف أسوار عالية صُنعت من زجاج مقاوم للرصاص .
كنا نتبادل النظرات والقبلات الهامسة والزجاج يفصل شفاهنا الملتهبة . كنت أصرخ عاليا ، أقطع حبال الصمت ، أحطم هذه الأسوار الزجاجية العالية التي تفصلنا وتبعدنا وتحطم حبنا الخالد . أناشدكِ . أحبكِ . تعالي ، حطمي كل هذه القيود ، حطمي هذا الزجاج الذي يفرقنا . هذه الأسوار التي حرمتنا لذة اللقاء ، حرمتنا من دنيا الحب ، حرمتنا حلاوة العناق ، والقبل ، والحب الحقيقي .
- لا . لا يا أيوب لا تفكر إنني امرأة تغير حياتها معجزة الحب !
- لم يحدث لحظة أن أحسست وأنت إلى جانبي بان هذه هي الروح العظيمة التي كنت أبحث عنها . إنني أدين لك بأجمل الذكريات في أعوامي التي تنضب سريعا . يكفيني فقط أن أعيش من أجلكِ في عالم الذكرى . إن ذكرياتي معك هو الشيء الوحيد الذي يمنع أيام شبابي الأخيرة من أن تغوص في الظلام . وهو ظلام بات يرقد على قيد خطوة .
- سوف أحتفظ بذكراك . أن القلب العجوز لا يحتاج إلا للقليل ليبقى على قيد الحياة . وان رأيي قد استقر على أن من الأفضل للمرء أن يبحث عن سحر الرومانتيكية في الحب العميق الثابت وليس في النزوات السريعة الزوال .
- انكِ لا تعرفين أكثر من أيِّ إنسان أخر أن حبكِ لا يزال يشتعل في قلبي ! فلا يدهشكِ هذا الاستشهاد المرح يا مديحة . فأن حبكِ فتح قلبي لأنواع من العواطف النبيلة لم يكن لي بها عهد من قبل .
- إني مستمتعة بحديثك جدا . أعرف انك رجلٌ يعشق فيَّ النواحي الحسية أكثر مما يعشق جسدي .
خُيِّل إلى أيوب أن يجد في ذلك لذة وارتياحا فرد عليها قائلا :
- من واجب الرجل أن يحترم المرأة ... أو إن هذا على الأقل من مبدأي .
- لقد سردتُ إليك قصة حياتي المؤثرة ، دون أن أغير منها كلمة واحدة .
- مديحة . بحثت عنك طيلة عمري ، وفي هذا اليوم العظيم فرحت كثيرا ... يوم رأيتكِ . قبل أن أموت . قبل أن تفارقني هذه الحياة الآيلة للزوال .
تعالي نهدم قبر حبنا الذي دُفن في زمن ضائع . تعالي نتصدى لكل عواصف الخريف . تعالي نتبادل القبل الحارة ، عاشق ومعشوقته نعيش بجسد واحد ... تعالي أدخلي معي في أعماق هذا النعش الخشبي الذي صنعته يداي منذ زمن بعيد . تعالي نطرد هذه السموم المطمورة في أعماق جسدينا . تعالي نهرب من عذاب الحياة تعالي نطير بنعشنا إلى أعالي السماء .
حبيبتي : أنتِ الثريا ، كيف يدفنون الثريا تحت الثرى ؟ !
حبيبتي : الحب حقيقة بين المرأة والرجل . الحب ليس حراما بين المرأة والرجل . الحب نظرات وعناق وقُبل ليس إلا ...
- حبيبي أيوب : انك رجل حسي محب للشعر والمرح . لا تنسي إننا في فصل الخريف من السنة ، وإننا في خريف العمر من الحياة .
- لا . لا يا مديحة نحن لسنا في خريف العمر ! فقد اعاد لقاؤنا اليوم ربيع الحياة ، ربيع الورد ، ربيع الحب الدائم الناصع البياض . سنبقى يحب أحدنا الآخر إلى يوم فناء الأجساد . يوم عودتنا إلى بطن الأم الكبرى ... الأرض . أخذت مديحة تهمس في داخلها قائلة :
ما دام أيوب متزوج ولديه زوجه وأولاد فليس من حقي أن أبادله أيّ نوع من الحب ، وأن أخلاقي وثقافتي تحتم عليَّ نسيانه ، ويتوجب طي صفحة الماضي وعدم التفكير بهذا الحب نهائيا في المستقبل .
استأذنت الذهاب . سارا على مهل نحو الطريق العام . كانت أوراق الخريف الميتة تصدر من تحت أقدامهما صوتا ناعما كالحرير . وذكر هذا الصوت – الهامس الحزين – أيوب بنزهته الأولى التي قام بها في العام الماضي مع صديقه عبد تحت هذه الأشجار ذاتها .
حانت ساعة الفراق والوداع . اختنقت الآهات والحسرات في الصدور . تفجرت العيون بالدموع الصامتة الغزيرة .
حال وصولها إلى السيارة عرضت عليه مديحة أن توصله إلى بيته ، لكن أيوب ردَّ عليها قائلا :
- شكرا يا مديحة . بيتي على بضع خطوات من الغابة . مع السلامة .
- مع السلامة يا أيوب .