لنغني عراقيا للحياة وليس الوجود فقط
هيفاء زنگنة
لنغني عراقيا للحياة وليس الوجود فقط
بعد زوال تأثير مُخدر فوز فريق كرة القدم العراقي ببطولة خليجي 25، والاحتفاء بتنظيمه في مدينة البصرة المعطاء، وبعد رحيل الضيوف الأعزاء من دول الخليج العربي إلى ديارهم، وبعد خفوت مشاعر الفرح الجماعي الذي عاشه العراقيون، على مدى أسبوع، بعد طول انتظار، وعلى أمل شحن جسد الأمة بالطاقة للعمل على استعادة العافية، وحالما تم إغلاق بوابات ملعب جذع النخلة، تسلل الواقع العراقي، عائدا بتفاصيله المريرة، ليحتل مكانته المعتادة.
عاد الواقع ليغرز سهامه في أجساد المواطنين، وليطّلع عليه العالم الخارجي من خلال عدد من التقارير السنوية لمنظمات حقوقية دولية ومحلية قامت بتوثيق الحال لعام 2021 – 2022. صدرت التقارير في الأسابيع الأخيرة من الشهر الحالي، وبعضها صدر أثناء بطولة خليجي 25 فلم تحظ بالتغطية الإعلامية المطلوبة إزاء التحشيد الإعلامي والترويجي الذي رافق منافسات كرة القدم.
من بين التقارير الدولية التي صدرت تقرير «منظمة العفو الدولية» و«هيومان رايتس ووتش» وتقرير «بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق» (يونامي). عراقيا، أصدرت لجنة حقوق الإنسان في» هيئة علماء المسلمين» تقريرها السنوي وكذلك «منظمة حمورابي». وقد توخت المنظمات تقسيم تقاريرها بشكل يكاد يكون متشابها في منهجيته العلمية، للتحقيق في الانتهاكات الجسيمة، وتوثيقها، وتحديد المسؤولين عنها، استنادا إلى شهادات الضحايا وذويهم ومقابلات مع مسؤولين حكوميين وممثلي منظمات المجتمع المدني بالإضافة إلى الاحصائيات المتوفرة حكوميا.
تتفق المنظمات والهيئات المذكورة صاحبة التقارير، وعلى الرغم من اختلاف مسمياتها وتوجهاتها، حول مسؤولية الحكومة العراقية كما قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني عن الحالة الكارثية التي يعيشها البلد، بعد مرور عقدين على غزوه. فتحت عنوان «التعذيب وانتهاكات المحاكمة العادلة وعقوبة الإعدام» تذكر «هيومان رايتس ووتش» إن استخدام التعذيب لايزال منتشرا في نظام العدالة الجنائية، لانتزاع الاعترافات. ورغم الانتهاكات الجسيمة للإجراءات القانونية الواجبة في المحاكمات، نفذت السلطات 19 إعداما على الأقل.
وحسب بيان صادر عن وزارة العدل في سبتمبر/أيلول، تحتجز السلطات نحو 50 ألف شخص للاشتباه بصلاتهم بالإرهاب، حُكم على أكثر من نصفهم بالإعدام. وتم اعتقال العديد من المتهمين لأن أسماءهم وردت في قوائم للمطلوبين مشكوك في دقتها أو لأنهم أفراد من عائلات المشتبه بهم المدرجة أسماؤهم.
بالنسبة إلى حق التظاهر، تقاعست الحكومة عن الوفاء بوعودها بمحاسبة المسؤولين عن الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القضاء للمتظاهرين والنشطاء والصحافيين وغيرهم ممن ينتقد الجماعات السياسية والمسلحة في البلاد علنا. وخلص تقرير لـ «بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق» (يونامي) إلى أنه لا يبدو أن أيا من الاعتقالات العديدة المتعلقة بعمليات القتل المستهدف قد تجاوز مرحلة التحقيق. كما أن أيا من الاعتقالات لم يفض إلى توجيه أي تهمة.
وترى المنظمات الحقوقية أن الحكومة العراقية تمارس عقابا جماعيا ضد النازحين قسرا من مناطق معينة. فبينما أغلقت 16 مخيما نهاية عام 2021، تركت ما لا يقل عن 34,801 نازح دون تأكيدات بأنهم يستطيعون العودة إلى ديارهم بأمان، أو الحصول على مأوى آمن آخر، أو الحصول على خدمات ميسورة التكلفة. كان العديد من العائلات النازحة تعيلها نساء نزحت بسبب القتال بين داعش والجيش العراقي بين 2014 إلى 2017، وصُنِّف العديد من هذه العائلات على أنها منتمية إلى داعش، ليُحرم أفرادها وبضمنهم الأطفال من الوثائق المدنية. كما منعت حكومة إقليم كردستان آلاف العرب من العودة إلى ديارهم في قرى في ناحية ربيعة وقضاء الحمدانية، وهي مناطق طردت قوات حكومة الإقليم داعش منها عام 2014 وفرضت سيطرتها على الأراضي، لكنها سمحت لقرويين أكراد محليين بالعودة إلى المناطق نفسها، ضمن مخطط التغيير الديموغرافي المتزامن مع إصرار الميليشيات على استمرار حملات التطهير الطائفي حسب تقرير» هيئة علماء المسلمين» الذي تضمن إحصاءات تتعلق بأحد عشر محورًا تشمل قضايا الفوضى الأمنيةِ، وارتفاعَ معدلاتِ الجريمة، وتجذرَ الفساد في جميع الدوائر الحكومية. ويتطرق التقرير إلى وضع المرأة والطفل المتميز باستمرار تعرض هاتين الفئتين للخطف والاستغلال والاتجار بالبشر، وقدرت إحصاءات حجم عمالة الأطفال في العراق بنحو مليون طفل، وعلاقته المباشرة بجرائم الاتجار بالبشر، حيث تم تسجيل فقدان 450 طفلاً خلال العام 2022 في عمليات الاتجار بالبشر. مع العلم أن هناك خمسة ملايين يتيم، وأربعة ملايين ونصف مليون طفل ترزح عائلاتهم تحت خط الفقر، وسط زيادة نسب البطالة وانعدام الأمن الغذائي وانتشار الأمية. وما يزال لدى العراق أكبر عدد من الحالات الموثقة للاختفاء القسري في العالم، إذ تجاوز عدد ضحايا الاختفاء القسري بعد 2014 حوالي 55 ألف شخص، ما يزال مصيرهم مجهولاً من دون أي تحرك رسمي يُذكر لمعالجة هذا الملف المعلق منذ سنين.
ماذا عن موقف الدول التي غزت العراق وأحد ذرائعها أن يتمتع الشعب بحقوق الإنسان؟
لنترك الإجابة لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» في تقريرها الذي يلخص الموقف بقولها: « بعد عقدين من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للعراق في مارس / آذار 2003، استمرت الجهات الفاعلة الدولية في التورط في انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد». ومن بين الأمثلة العديدة التي تذكرها المنظمة اكتشاف صحيفة « نيويورك تايمز» أثناء فحصها سجلات البنتاغون الخاصة،
في ديسمبر 2021، أن قصف الجيش الأمريكي للعراق في قتاله ضد داعش أدى إلى «قتل آلاف المدنيين، كثير منهم أطفال «. يتطابق التقرير مع نتائج سابقة لـ للمنظمة أثبتت «إخفاق الولايات المتحدة في اتخاذ احتياطات كافية لتجنيب المدنيين القتل أثناء قصف أهداف داعش المزعومة».
هل من تغيير متوقع من هذه التقارير على كثرتها ومصداقيتها عن واقع المواطنين؟ ليس للمنظمات المُصّدرة لهذه التقارير القدرة على التدخل المباشر لإحداث أي تغيير، مهما كانت انتهاكات حقوق الإنسان جسيمة وأبناء الشعب يعيشونها يوميا، إلا أنها توفر المعلومات الموثقة بمنهجية علمية لتكون أداة بيد المواطنين الراغبين بالتغيير. ومن يدري، فقد تجتمع آلاف الجماهير التي شجعت الفريق العراقي، منشدة «موطني» لتقول نريد وطنا نتمتع فيه بحق الحياة وليس الوجود فقط.