النزعة الإنسانية في شعر جماعة أبولُّو
خليل حمد / الكاميرون
النزعة الإنسانية في شعر جماعة أبولُّو
تشيع النزعة الإنسانية واضحة جدا في شعر أبولّو، حيث نجد شعراءها قد "التفتوا إلى تصوير البؤس وإبراز بعض الجوانب المظلمة في المجتمع، وتلك رسالة إصلاحية ترتفع بالشعر عند دعاة "الفنّ للحياة" إلى درجة عالية ومنزلة سامية، إذ إن الشاعر في نظرهم لم يعد ذلك الإنسان المنعزل عن مشكلات بيئته وعصره، وقد أخذ هؤلاء الشعراء يسهمون في معالجة مشكلات مجتمعهم معالجة سديدة، ووسعوا في أشعارهم مظاهر البؤس والحرمان فضربوا بذلك على الأوتار الحساسة في النفس البشرية فانبعثت منها الألحان المؤلمة، الراثية التي ملأت الأكوان من حولهم بعبق كان له أثر السحر في نفوس اليتامى والثكالى والبائسين والمحرومين" (فشوان،بدون:220-221) ، وكثيرا ما تختلط هذه الموضوعات بعواطفهم الخاصة، أو بالأحرى، أن الموضوعات كهذه هي التي تؤدي بهم إلى الرجوع إلى نفوسهم والانطواء حول ما فيها من العواطف والأحاسيس.
والقصائد التي يمكن أن نلمس في طياتها نزعات إنسانية وقومية ووطنية في شعر الجماعة لا تكاد تحصى عددا، وكل شعراء الجماعة –دون استثناء- قد نزعوا هذه النزعات بشكل متفاوت، ولعل أكثر من جال في هذا المجال بشعره من هؤلاء الشعراء محمود حسن إسماعيل في دواوينه الريفية مثل "أغاني الكوخ" و "هكذا أغني" في هذين الديوانين نجد عددا من القصائد التي تناولت معاناة إنسانية، وعلى وجه الخصوص ما يعانيه الفلاح في الأرياف، فمثلا في "أغاني الكوخ" استوحى الشاعر قصائده من عويل السواقي وهي تذرف حسرة الإنسان لتراب الكوخ ومن إطراق الوجوه الطينية التي طحنت إباءها مسيرةُ الظلم على أيامها الصابرة، وجرعتها غفلة الرق وطمأنينة الهوان، ومن الضجر القانت الذي أخنى على كاهل الفلاح بألفة القهر والفقر وقناعة الحرمان، ومن أعماق ليل هذا الشجن المخنوق الأوار في صدر القرية نزح مع الشاعر من قريته في صعيد مصر ناي أخرس الغناء، ولم يكد ينشق لهاث المدينة حتى هزجت ناره بهذه الأنغام إلى حملتها أوراق هذا الديوان (فشوان،بدون:229) .
وهذه المعاني نفسها هي التي نجدها في عدد من قصائد ديوانه "هكذا أغني"، ومن بينها على سبيل المثال قصيدته "دمغة بغي" التي أن أخر الحديث عنها إلى حين التطبيق، لكن التي نود التمثيل في الديوان نفسه، وقد تجلت فيها –رغم قصرها- بعض معاناة الفلاح المصري في ريف الصعيد، يقول فيها:
أترى أنت على الأفق لهيب أم دخان!
أم جراح الكوخ سجاها من البؤس الزمان؟
أم دموع الشاء والرعيان أذراها الهوان؟
أو شجون الفأس أبلاها الضنى والجدثان؟
أم هي القرية لم يخفق لبلواها حنان؟
زفرت في الجو ثكلى لم يصادرها الحنان!
فهي جرح ودخان الكوخ بالشكوى لسان (الأعمال الكاملة،332) .
يتخيّل الشاعر قريته بعد خروجه منها، كأنه يتطلع إليها ولا يكاد يتبينها، بل تتراءى له من الأفق البعيد وكأنها لهيب أم دخان أم شيء يشبه الاثنين معا. وهي قرية بائسة لكن تعاقب الأيام والليالي قد غطى على هذا البؤس، حتى المواشي ظلت تزرف الدموع جراء شعورها بالهوان، حيث تحولت الأحزان إلى أمراض؛ وهي قرية قد تركت منسية ولم يعد يعطف عليها أحد، لكنها ما زالت تشتكي ما تعانيه بلسان حالها المتمثل في ما يبدو من بؤس الفقر وما يعلو سماءها من أدخنة الأكواخ. هكذا صور لنا الشاعر تلك المعاناة الإنسانية في هذه القصيدة القصيرة.
من قصائد أبولّو التي تناولت مثل هذه المعاناة "الحسناء البائسة" لشاعرة الجماعة جميلة العلائلي، من ديوانها "صدى أحلامي"، والتي تكشف عن تجربة مثيرة للشفقة؛ قد صدرت القصيدة عن تجربة استمدتها الشاعرة من واقع الحياة، وذلك عندما تأثرت بحالة فتاة مسكينة حزينة لقيتها تنتقل وحيدة في الطريق، تائهة جراء ما حملت في قلبها من أوقار الحزن والكآبة.
وقد تصدّرت الشاعرة هذه القصيدة بالحديث عن تلك الفتاة وعن علاقة القصيدة بها، إذ تقول (العلائلي،بدون:23) : "لقيتها في الخلاء تسير وحدها كالشريدة، وفي هدوء تتساقط من عينيها دموع الحزن الدفين، ولما ترفقت بها عن رغبتي في مساعدتها لأسرى عن نفسها حدثتني حديث نفسها المغبونة، وشرحت لي قصة حظها العاثر، فإليها أهدي هذه القصيدة لأنها منها:
إيه فتاتي! كنت عنوان الطهارة والسناء
تهدين أحلى البرء للقلب المضرج بالشقاء
ما للزمان قسى عليك وأنت في ذكر أمين
بين الرفاق وبين أهلك والأقارب تنعمين؟
يا هل ترى جف المعين من القلوب الراحمة
أم هل ترى ملئ المعين من القلوب الظالمة
كم من صديق كان يرجى ثم خانك ذا الصديق
من بعد أن كانت صداقته وصحبته طول الطريق
قد أعلن الدهر خفاياه فأضحى في افتضاح
يا بئس من أودعت سرك في حماه المستباح
***
إن الحياة ضنينة بالخير يا هذي الفتاة
بحر تعكر بالخلائق، رجع لجته الشكاة
وعلى شواطئه القلوب تئن من جرح أليم
تبكي العيون بكاء قلب خانه الحظ الوسيم
والعض يمضي فوق الأرض في لهوٍ طليق
والبعض يهزج عند زهر الروض باللحن الجميل
والبعض لا يرجو سوى ري يميت به الغليل
وإذا السحاب وقد تلبد بالغيوم وبالرعود
والقدر بفتح جوفه والبيت يقذف للوقود
والدهر يسخر والرجال كأنهم رسل الحمام
والمد يطغى فوق شطآن الحياة والانتقام
قد رأينا في هذه القصيدة المقطعية الواضحة الألفاظ والعبارات، المتماسكة الأجزاء، كيف استطاعت الشاعرة بمقدرتها الفنية أن تعطينا هذه الصورة الإبداعية التي استمدتها من واقع دنيا الناس، وقد رأينا كيف حملت الشاعرة المجتمع وفساد الزمن –على رأيها- مسئولية ما أصاب هذه الفتاة المسكينة البائسة:
كم من صديق كان يرجى ثم خانك ذا الصديق
من بعد ما صادقته وصحبته طول الطريق
إن الحياة ضنينة بالخير يا هذي الفتاة
بحر تعكر بالخلائق، رجع لجته الشكاة.
ولمحمود علي طه في ديوانه "أفراخ الوادي" قصيدة بعنوان: "الموسيقية العمياء" التي صور فيها هذه الموسيقية ومعاناتها لعاهة العمى، وهو بحق موقف إنساني جسده الشاعر من خلال تصويره الفني الرائع لتجربته (ضيف،2003م:139) . كان الشاعر يترد على "أقتيا" أحد مطاعم القاهرة الشهير بموسيقاها شتاء عام 1935م، حيث شاهد فتاة ألمانية تعزف على القيثارة وهي عمياء، وكانت تترأس فرقة موسيقية، وكانت على جانب من الرقة والجمال، فلا يخيل لمن يراها تأثر شديد التأثر بهذا الموقف وأوحى إليه جمالها الجريح بهذه القصيدة المقطعية (طه،2004م:178) ، التي جلبنا منها هذه الأبيات:
إذا ما طاف بالأرض *** شعاع الكوكب الفضي
إذا ما أتت الريح *** وحاش البرق بالومض
إذا ما فتح الفجر *** عيون النرجس الغض
بكيت لزهرة تبكي *** بدمع غير مرفض
***
رواها الدهر لم تسعد *** من الإشراق باللمح
على جفنين ظمآنين *** للأنداء والصبح
أمهد النور ما لليل *** قد لفظ في جنح
أضيء في خاطر الدنيا *** ووار سناك في جرحى!
***
وخلى أدمع الفجر *** تقبل مغرب الفجر
ولا تبكي على يومك *** أو تأسى على الأمس
إليك الكون فاشتفي *** جمال الكون باللمس
خذي الأزهار في كفك *** فالأشواك في نفسي! (طه،2004م:178-179) .
وقد وقف الشاعر حيال تلك الفتاة الضريرة، ويشاركها مأساتها، ويحاول التخفيف عنها، فيبكي لبكائها ويشدو لها أشعاره المحملة بخواطره التي تنبعث منها الألحان والعطور، علها تجد في ذلك العزاء، وتتجدد آمالها في الحياة، وتكف عن الأنين والبكاء، لكن الشاعر لم يقتصر في خياله على هذا الإطار، بل خرج منه "ليحلق في الأجواء السحرية، ويطوف حول الكون، ويتجول بين مجالي الطبيعة ومشاهد الكون، واصفا ما حلا له من مشاهد كونية ومناظر طبيعية، في ألفاظ وعبارات جميلة، صاغها في تراكيب بديعة، تنتشر الأحلام وتشع الأضواء والألوان الهارية الساحرة، فكان من هذا الوصف تلك الصور الخلابة التي زينت القصيدة، وأضفت عليها جمالا وبهجة ونضارة تنبعث مما جمعته هذه الصور من عناصر اللون والصوت والحركة" (أبو الرب،بدون:160) .
ولعل من أوضح التعليقات على هذه القصيدة من جانبها الشكلي واهتمام الشاعر بالألفاظ الخلابة والعبارات الساحرة أكثر من اهتمامه بالفكر والمعنى، تعليق الدكتور شوقي ضيف بقوله: "واضح أن علي محمود طه يفرط في استخدام الألفاظ ذات البريق والألوان السحرية العجيبة بحيث لا يبقى في القصيدة مجال للتعبير عن فكر أو شعور، وارجع إلى القصيدة وحاول أن تتبيّن شخصية تلك الموسيقية العمياء، فإنك لن تستطيع أن نرى شيئا إلا ألفاظا أو صورا لفظية جميلة، قد حشدت حشدا من الطبيعة لتكسب لوحة الشاعر ألوانا زاهية.
وبعد ذلك لا تعبر اللوحة عن جانب واضح في الموسيقية العمياء، لا جانب إنساني ولا جانب نفسي، وهذا هو معنى ما نقوله من أنه لا يوجد في شعره أي شعور كامل لا في الكون ولا في الإنسان، وكان من المعقول أن يقف عند مشكلتها، ويجعلها المحور الذي تدور عليه القصيدة محاولا أن يبتدع بعض الأفكار، ويخلق بعض المعاني، وبذلك يترك لنا شيئا من ذهنه وروحه" (ضيف،2003م:210-211) ؛ ولكان قد ظهر لنا هذا النص الشعري بروعته الفنية المبتغاة نقديا، لو جعلها رمزا للإنسان المصاب وتحلق بها في عالم الخيال والادعاء، أو تعمق بها داخل النفس الإنسانية ليجد لهذه المصيبة تفسيرا فنيا؛ "وكان يستطيع أن يحلق فوق هذا الجمود النفسي، وأن يدعي لها أبصارا بباصرتها لا بالعين، فما فقدته قد استكملته بموهبتها الفنية" (ضيف،2003م:211) ، ومن ثَمَّ يستطيع الشاعر أن يقنع المتلقي من خلال تبريره الفنيّ بأن ما أصاب هذه الموسيقية ما هو إلا ثمن لتلك الموهبة الفنية التي امتازت بها.
لكن! مع كل ما قيل من خروج خيال الشاعر إلى ساحات بعيدة عن الباعث الأساسي للقصيدة، فإن هذه "الصورة اللفظية تجسد موقف الشاعر من مأساة هذه الفتاة العمياء، وإحساسها بمعنى الفقد. ويلقى القارئ عاطفة الشاعر من خلال سلسة من الصور التي تقوم على الحركة واللون والصوت، ونقشع الظلام أمام انبثاق النور، فشعاع الكوكب الفضيّ (القمر) يطوف، وومض البرق يجيش، والفجر يفتح عيون النرجس، وهذه العناصر تعمق الإحساس بمأساة الفتاة، هذه المأساة التي تتمثل في فقد البصر وعدم القدرة على اكتشاف حركة الأشياء" (أبو الرب،بدون:161) ، وتنقلات الأحياء وإشاراتها، مما جعل هذه الصورة الشعرية مؤثرة تأثيرا كبيرا على المتلقي، وذلك بالرغم من وجود هذه السطحية المتمثلة في تجاوز الشاعر مأساة العمي مع صاحبتها دون تناول فنيّ مقنع، بل ترك المأساة كما هي طالبا من صاحبتها أن تتأمل جمال الكون باللمس (ضيف،2003م:211) ، وأن تجمع الأزهار التي لا ترينها لا بالعين الواقعية ولا بالعين المفترضة فنيا، ثم طلب منها أن تشاركه الشوق حالة حملها باكة الزهور، وذلك في قوله:
إليك الكون فاشتفي *** جمال الكون باللمس
خذي الأزهار في كفك *** فالأشواك في نفسي!
وهذه السطحية هي التي تشير إلى أن الشاعر لم تتأثر بتجربته تأثرا نفسيا، وذلك بالرغم مما نرى في القصيدة من ارتفاع مستوى العاطفة. و "مما يشر إلى عاطفة الشاعر الإنسانية ومشاركته الوجدانية لهذه الفتاة في مأساتها أنه اختار مادة صوره في المقطوعة الأولى من الليل، مع أن شعاع الشمس يطوف كما يطوف شعاع القمر، وما ذلك إلا لأن صورة الليل توحي بمعنى الظلام الذي تعيش فيه الفتاة، وحين يضيف الشاعر إلى الصورة عنصر آخر من العناصر يتمثل في الصورة، يأتي بالريح، وهي من عناصر الطبيعة، ويجعها تئن، وكأنه يريد بذلك أن يشارك هذه الفتاة من خلال مشاركة هذا العنصر الطبيعي في الأنين الذي يشيع في الموسيقى التي تعزفها، وحين يفتح الفجر عيون النرجس، دون أن يستطيع الشاعر أن يفعل شيئا لهذه الفتاة –الزهرة التي تغمض عيونها إلى الأبد- يبكي لبكائها، فهي تبكي بغير دموع بكاء تسكبه في ألحانها الشجية. ويشاركها الشاعر أشجانها، ويحاول التحفيف عنها فيما ينقله إليها في المقطوعتين الثانية والثالثة من مشاهد طبيعية زاخرة بالحيوية والنضارة والجمال والحركة والعطور والألوان والألحان" (أبو الرب،بدون:161) ؛ ومن هنا نستطيع أن نربط هذه القصيدة ربطا وثيقا بالموضوع الذي هو سبب ذكرها هنا، وهو البعد الإنساني في شعر جماعة أبولّو.
القصائد التي تناولت معاناة إنسانية لا تكاد تحصى في شعر أبولّو، وما جلبناه إلى هنا يعد أبسط تمثيل لهذه النزعة الإنسانية في شعر الجماعة، "بهذا ندرك أن شعراء أبولّو قد أسهموا بنصيب وفير في الشعر ذي الاتجاه الإنساني، ولم يتخلف واحد منهم تقريبا عن الإسهام في هذا اللون بالنصيب الذي يجعلنا نحتفي به، وننزله من نفوسنا المنزلة التي يستحقها أو تزيد" (فشوان،بدون:232) ؛ وهذه الجماعة رومانسية بلا منازع، والمعاناة الإنسانية مجال من أهم المجالات التي يزخر بها الإبداع الرومانسي؛ ولذا ليس من الغريب ولا من قبيل الصدفة أن نجد قصائد إنسانية منتشرة في شعر الجماعة.
-------------------------------
- فشوان، محمد سعد، شعر جماعة أبولو:220-221
- المرجع السابق:229، بتصرف يسير
- الأعمال الكاملة، المجلد الأول:332
- العلائلي، جميلة (بدون)، ديوان صدى أحلامي، دار التعاون:23
- ضيف، شوقي (2003م)، الأدب العربي المعاصر في مصر، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الثامنة:139
- طه، علي محمود (2004م)، مقدمة القصيدة، دار العودة:178، بتصرف يسير
- المرجع السابق:178-179
- أبو الرب، مرجع سبق ذكره:160، بتصرف
- ضيف، شوقي، مرجع سبق ذكره:210-211
- المرجع السابق:211
- أبو الرب، مرجع سبق ذكره:161
- ضيف، شوقي، مرجع سبق ذكره:211
- أبو الرب، مرجع سبق ذكره:161
- قشوان، محمد سعد، مرجع سبق ذكره:232