برلمان الخاسرين واعادة عجلة الزمن الى "سانت ليغو" سئ الصيت
د أكرم عبدالرزاق المشهداني
برلمان الخاسرين واعادة عجلة الزمن الى "سانت ليغو" سئ الصيت
منذ تأسيس النظام السياسي الجديد الذي أعقب احتلال العراق 2003، بدا البرلمان العراقي مُغلَقاً أمام المرشّحين المستقلين والأحزاب والقوى السياسية الصغيرة، نتيجةً للأنظمة والقوانين الانتخابية التي اعتُمِدَت خلال الانتخابات الماضية، والتي مكّنت الأحزابَ والتحالفاتِ الكبيرةَ من الفوز على حساب المرشحين المستقلَين، والقوى والأحزابِ الخارجة عن دوائر النخب السياسية المُعتادة. وبعد أن قطع العراق شوطاً كبيراً عبر احتجاجات عارمة سادت أرجاء البلاد في خريف 2019، ضد القانون الانتخابي المجحف، تقف البلاد اليوم مجددا أمام طريق لتغيير قانون الانتخابات، حيث تحركت السلطتان التنفيذية والتشريعية لتمرير تعديل جديد يتخوّف كثيرون من إمكانية تسببه في إلغاء المكتسبات الجماهيرية التشرينية التي تحققت فيما يخص طبيعة الدوائر الانتخابية وقانون احتساب الأصوات.
فبعد ان أقرَّ مجلس النواب العراقي رقم 9 لسنة 2019 استجابة لمطالب احتجاجية لثوار تشرين والذي جاء مغايراً لما تم اعتماده في الانتخابات التشريعية الأربعة التي سبقته، وبموجب القانون الجديد تم تقسيم البلاد إلى 83 دائرة انتخابية على عدد مقاعد "كوتا" النساء في مجلس النواب، والذي يُلزم الدستور بحصولهنّ على 25% من المقاعد النيابية البالغ عددها 329 مقعداً، وبحسب مضامين ذلك القانون يعد تحولاً في عملية حساب الأصوات والفوز للمرشحين؛ إذ إنه يُحدد الفائز بأعلى الأصوات بدلاً من اعتماد طرق حسابية معقدة تجعل دخول المستقلين إلى مجلس النواب مُهمة شبه مستحيلة. كما أن الأصوات باتت بالتعديل المذكور تذهب مباشرةً إلى المرشح (بدلا من القائمة كما كان الحال في القوانين الانتخابية السابقة)، ولا يوزع الفائض منها بارادة زعيم الكتلة على مرشحين في حزبٍ ما، أو القائمة الانتخابية ذاتها، الأمر الذي سهّل صعود نواب يمثلون أحزابهم وليس جمهورهم.، وصعود نواب لم يحوزوا الا اصواتا قليلة.
وجاء إقرار قانون 2019 تحت ضغط الشارع العراقي الذي شهد تظاهرات هي الأوسع والابرز في تاريخ العراق الحديث، والتي طالبت بإصلاح سياسي واقتصادي شامل. وكانت من أبرز مطالب المتظاهرين الأساسية، سنُّ قانون عادل للانتخابات، يخفّف من احتكار الأحزاب المشاركة في السلطة المقاعد النيابية، ويسمح بدخول مستقلين وأحزاب صغيرة وحديثة النشأة إلى مجلس النواب. وقد عجّل دعم المرجع الأعلى للشيعة، علي السيستاني، التظاهرات ومطالبها، في إقرار القانون بشكله الحالي. لكن اتّضح أن القانون جاء ليُراعي نفوذ عدد من القوى السياسيّة، ويضمنَ فوزها ايضاً في الانتخابات المُقبلة.
لقد كانت القوانين المعتمدة في الانتخابات التشريعية قبل 2019 تعتمد نظام "سانت ليغو"، الخاص بحساب أصوات الفائزين وفق تقسيمات 1.6 أو 1.7 أو 1.9، وهو ما صعّب المهمة أمام وصول الأحزاب والكيانات الصغيرة، وسمح ببقاء القوى التقليدية الكبيرة في صدارة المشهد الانتخابي طيلة الانتخابات التشريعية الأربعة الماضي الذي سبق انتخابات تشرين الأول 2021.
وجاءت انعكاسات ذلك القانون في الانتخابات التشريعية المبكرة؛ حيث أسهمت في وصول العديد من الكيانات والشخصيات المستقلة بأوزان نيابية غير مسبوقة، مقارنة بالتجارب السابقة مع تسجيل تراجع كبير للقوى الإسلامية، خصوصاً الشيعية منها (المقربة من إيران)، وهذا ما أثار أزمة كبيرة امتدت طوال عام مع الفائز الأكبر، التيار الصدري الذي حصد 73 مقعداً قبل أن يقرر الانسحاب.
وكانت حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني التي نالت الثقة في تشرين الأول 2022، وضعت في منهاجها الوزاري تعديل قانون الانتخابات بإعداد مسودة خاصة بذلك وإرسالها إلى البرلمان لأجل التصويت على بنودها.
المشروع الجديد
ومع وصول مشروع قانون التعديل الجديد إلى البرلمان بغرض مناقشته وعرضه على القراءة الاولى ومن ثم التصويت، تبدي أوساط سياسية وجماهيرية احتجاجاً كبيراً على تمرير هذا التعديل الذي يتضمن إلغاء الدوائر المتعددة والعودة إلى نظام "سانت ليغو"، وفق تقسيماته الإحصائية. وقد نقل مقربون من زعيم التيار الصدري حذروا سابقاً من مغبة التلاعب بقانون الانتخابات ومحاولة العودة إلى التشريعات القديمة الخاصة بذلك التشريع ما قبل خريف 2019.
واكدت "حركة امتداد" أن الشارع الاحتجاجي غير مقتنع بالرجوع إلى المربع الأول؛ إذ إن قانون سانت ليغو يعتمد على تمكين الكيانات التقليدية ذات السلطة والقدرة المالية على حساب القوى الصاعدة، واكدت ان تمرير هذا القانون سيكون أمام المستقلين عقبة كبيرة في تحقيق المنافسة والفوز، باعتبار أن ذلك التعديل سيعطي الأولوية للأحزاب النافذة ذات المكتسبات المالية الكبيرة، ويبدو أن التعديل الجديد سيمرر، سواء رفض أو قبل من المعارضين كون أن هناك إرادة للقوى الكبيرة النافذة التي تدير الدولة ولها الحظوظ الكبرى في البرلمان.
ويرى مراقبون أنه بات من الصعب الحشد الجماهيري الاحتجاجي ضد ذلك في الوقت الحاضر، كون الكثير من النشطاء قد لجأوا إلى الهجرة من البلاد، وتركوا النشاط لضمان سلامتهم خوفاً من التصفية، كما أن كثيرين فقدوا الأمل بوجود تغيير في ظل الأدوات الاحتجاجية السلمية. ويتخوف آخرون من أن يكون ما يحصل الآن حلقة من سلسلة طويلة وممتدة ضمن برنامج ممنهج لتكميم الافواه والحريات ومصادرة حق التظاهر وبما يضمن وجود القوى الكبيرة في المشهد السياسي المقبل".
غياب الرقابة الدولية وعدم اعتماد البيومترية:
إنَّ العودة إلى نظام الدائرة الواحدة وطريقة سانت ليغو، هو تراجع كبير في الآلية الديمقراطية، كونه يعيدنا إلى هيمنة زعيم الحزب، وهذا لا يتوافق مع التمثيل الحقيقي للجمهور. ويرى كثيرون أن تمرير هذا القانون سيؤدي إلى تفجر غضب التيار الصدري والشارع التشريني بشكل عام، خصوصاً أن إصرار تلك القوى على تمرير التعديل يرسخ القناعة بأنه من المستحيل تحقيق عملية إصلاح في العملية السياسية في ظل وجود هذه الزعامات المستندة في نفوذها لامتلاكها الميليشيات المسلحة.
كما ان مشروع القانون الجديد لا يُلزم باستخدام البطاقة البايومترية التي تحدّ من التزوير وتمنع التصويت بالإنابة. وهذا يعني أن هناك فئات واسعة من الناخبين ستصوّت من خلال البطاقة الإلكترونيّة، والتي كانت سبباً رئيسياً في عمليّات التزوير خلال انتخابات عام 2018. ويُردّد نوّاب أن بعض القوى السياسية تمتلك ما بين 3 و4 ملايين بطاقة إلكترونية لاستعمالها في يوم الاقتراع، ما يعني أن واحدة من أكبر عمليات التزوير قد تحصل في الانتخابات المرتقبة. كما يُعتبر استخدام المال السياسي واستغلال الموارد الرسميّة للدولة وتقديم الرشاوى للناخبين، من أكثر الطُرق الشائعة للتأثير على الناخبين طوال الأعوام الماضيّة في العراق. ولا يبدو أن هناك تغييراً سيحصل في الانتخابات المُقبلة على هذا الصعيد.
وقد يَحُدّ "الإشراف الدولي" على الانتخابات، الذي يطالب به المتظاهرون، من تأثير كل الأدوات غير القانونية على سير عمليّة الترشيح والاقتراع، وفي وقت لاحق، على النتائج؛ إلا أن قبول الحكومة والبرلمان العراقيين بالإشراف الدولي مُستَبعَدٌ جدا في ظلّ الرفض الواسع له من قبل القوى التي تتقاسم السلطة في العراق.