الأيام الفلسطينية (50)
مذكرات فلسطيني عاش أكثر من تسعين سنة
بعد أن وصل جمال عبد الناصر إلى رئاسة جمهورية مصر العربية أخذت الجماهير الفلسطينية تنادي بحياته على أمل أن يكون الرجل الذي يحطم دولة الصهاينة ويعيد الجزء المحتل من فلسطين إلى دنيا العرب ويعود عرب الأرض المحتلة إلى بيوتهم وأملاكهم التي نزحوا عنها بسبب قيام دولة الصهاينة بموجب قرار التقسيم الصادر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1947، ولتعلق عرب فلسطين بجمال عبد الناصر أخذ البعض منهم يضع صوره في أعز مكان في البيت، ولما كنت من بين الذين أحبوا عبد الناصر وضعت صورته في مكان بارز من صالون منزلي المطل على بناء كلية النجاح، ومن النجاح كانت المظاهرات تنطلق. وصدفة نظم طلاب النجاح مع طلاب الثانويات والمدارس الأخرى مظاهرة تأييد لعبد الناصر على إثر خلاف وقع بين الحكومتين المصرية والأردنية، مما جعل الجيش الأردني يتدخل. وبينما كانت إحدى الدوريات تتجول في الشارع القريب من منزلي رأى أحد أفراد الدورية صورة عبد الناصر معلقة في صدر غرفة الاستقبال، فحضر لانتزاعها مع رفيق له، وقرع الباب. خرجت لاستطلاع الأمر، فوجدت الجنديين اللذين طلبا مني نزع الصورة عن الجدار ومرافقتهما إلى دائرة الشرطة، وقد لبيت الطلب. أنزلت الصورة عن الحائط،، واعتذرت عن مرافقتهما بسبب الوقت حيث كان الناس ما زالوا نياما، ومركز الشرطة ما زال خاليا. قبلا اعتذاري على أن يعودا ظهرا، وطلبا مني الاحتفاظ بالصورة لحين عودتهما. أخذت الصورة، وأغلقت الباب. وظهرا عادا إليّ، وطلبا الصورة والذهاب معهما إلى المركزي كما وعدتهما، فكان جوابي أنني مزقت الصورة ولا حاجة بي للذهاب إلى البوليس، وأتبعت قولي هذا بدعوتهما إلى الدخول، فلبيا الدعوة، ودخلا. قدمت لهما شيئا باردا حيث كان الفصل صيفا، وخلال وجودهما داخل المنزل طلبا مني ألا أقول إنهما وجدا عندي صورة جمال عبد الناصر لأن لديهما تعليمات تقضي بنزع صور جمال عبد الناصر، وإلقاء القبض على صاحب المنزل الذي يعلق في بيته صورا لزعيم مصر. وبعد هذه الحادثة بيوم واحد دعاني محافظ المنطقة، وطلب مني تشكيل وفد من اللاجئين الذين كنت أتكلم باسمهم، وأتوجه إلى عمان لتأييد الملك الحسين. وفعلا شكلت وفدا كبيرا، وقابلنا الملك، وأيدناه، ولكن ما فعلته كان أعظم، وكان أعمق سياسيا، وعروبيا، ووطنيا، فقد جعلت شخصا بسيطا يلقي كلمة التأييد التي كتبتها بيدي، وكانت خالية من الشتائم حيث كانت لغة الشتائم هي السائدة بين القاهرة وعمان، وكانت مليئة بعبارات الحض على التآخي بين الرئيس جمال عبد الناصر والملك الحسين، ونابضة بكلمات الالتحام والالتئام بين الأردن ومصر. ولم تمض إلا أسابيع قليلة حتى أرسل الملك الحسين رسالة أخاء إلى الرئيس عبد الناصر، فكان جواب عبد الناصر كما أذكر جيدا فيه هذه العبارة "ما شككت يوما في وطنية جلالتكم، وأنا وأنت نسير على درب واحد وأيدينا متشابكة وخطانا ثابتة والشعوب العربية من ورائنا تهتف: لا تنسوا فلسطين"...
أمين القاسم