جريمة حلّ القوات المسلحة العراقية في ذكراها العشرين
د. صبحي ناظم توفيق
عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ22 مايس 2023
جريمة حلّ القوات المسلحة العراقية في ذكراها العشرين
تمهيد
في هذا اليوم المشؤوم 23 مايس على عراقنا الحبيب، تحلّ الذكرى السنوية العشرون لحل الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والإستخباراتية والمخابراتية العراقية بقرار أمضى عليه "بول بريمر" الحاكم الإداري لسلطة الإحتلال سيء الصيت يوم 23 مايس 2003، والذي نتج عنه إنعدام الأمن والأمان في عموم البلاد، وإبقاء الحدود مع دول الجوار سائبة يجول عبرها مُهرِّبو كل شيء على هواهم آناء الليل وأطراف النهار بلا رقيب وحسيب، وسريان الفساد والسرقات في مؤسسات الدولة بمئات المليارات من الدولارات، وشيوع جرائم الترهيب والقتل والإغتيالات وإلإشتباكات بين الميليشيات المنفلتة وأولاد العشائر المسلّحين، ونزولاً إلى إنتشار المخدرات بين طبقات المجتمع نزولاً لمستويات مرعبة وسط الشباب وطلاب المدارس،
لقد إعتمدتُ في إعداد هذه المقالة على محاضرة ألقيتُها أمام جمع كبير من الحضور وسط ندوة أقامتها "جمعية رعاية المحاربين وأُسَرِهِم" في "بغداد" عام 2005 بمناسبة الذكرى السنوية الثانية للقرار، وذلك لتشخيص السلبيات والكوارث التي أفرزها القرار الأمريكي لحلّ وزارة الدفاع والقوات المسلحة وعموم الأجهزة الأمنية العراقية والدوائر والمؤسسات العليا.
طروحات منطقية لم يأخذ بها قادة الغزو
في هذا الشأن أستذكر حقيقة مفادها أن العديد من البحوث الرصينة التي تعمّقتُ في طروحاتها قُبَيلَ الغزو، خلال عملي خبيراً ستراتيجياً لدى "مركز الدراسات الدولية/جامعة بغداد" قبل أسابيع من بدء الغزو الأمريكي-البريطاني لوطني الحبيب، تلك التي أعَدّتـْها مراكز ومعاهد بحوث ودراسات سياسية وستراتيجية ومخابراتية رصينة ذات مستويات رفيعة قبل أن ترفعها أمام أنظار صانعي القرار في "واشنطن"، فقد تَلَوتُ في متونها جميعاً وجهات نظر متباينة حول كيفية إدارة الحرب على العراق وإسقاط نظامه السياسي، وأساليب كيفية إدارة حكمه من بعد ذلك.
تباينت تلكم المراكز في وجهات نظرها بشأن الغزو ومخاطره ومدى نجاحه وإحتمالات إخفاقه... ولكن مُعِدّو تلك الدراسات كانوا متّفقين عموماً لدى عرض مقترحاتهم وتوصياتهم أمام أصحاب القرار على مسلكَين رئيسَين إعتبروهما في غاية الأهمية ومن الوجوب تحقيقهما على أرض العراق فور إنهيار نظامه السياسي:-
الأول:- أن تحمل القوات الغازية على ظهورها حكومة وطنية عراقية -ولو كانت ضعيفة- تُناط إليها إدارة العراق.
والثاني:- أن تبقى القوات المسلحة العراقية على حالها، بعد تطهيرها من كبار القادة والعناصر الخطرة، كي لا يحدث إنفلات أمني قد يودي بهذا البلد الى عواقب لا تعرف نتائجها.
لكن المستغرب أن أسوأ وجهات النظر وأردأ الرؤى وأعظمها إجراماً وحرقاً وقتلاً بالجملة في الحرب الوشيكة والغزو غير المبرّر للعراق وتدمير قواته المسلّحة وبناه التحتية، أُخِذَت بها وطـُبِّقـَت في معظمها، لكن النقطتان الخطيرتان اللتان خصَّـتا أمن العراق ومستقبله القريب أُبْعِدَتا عن التنفيذ... فلا حكومة عراقية حُمِلَت على الأكتاف، ولا قوات مسلحة عراقية وأجهزة أمنية بقيت في أرض الواقع.
أخطاء لا تُغتَفَر سبقت قرار الغزو
لقد إقترفت قيادة التحالف المناهض للعراق وسلطة الإدارة المؤقتة معاً جملة أخطاء لا يُصَدّق أن تقدِم عليها دولة عظمى وسواها من دون تعمّد وسبق ترصّد وإصرار.
ولدى إستذكاري لها تقفز إلى ذهني يوم إلتحقتُ برتبة "نقيب" تلميذاً في "كلية الأركان العراقية" في نيسان/1973حيث تلقينا دروساً في (واجبات الأركان) خلال الأسابيع الأولى، نصّت إحدى مفرداتها:-
((تشكِّل قيادة الفرقة "حكومة عسكرية للشؤون المدنية" حال دخول تشكيلاتها ووحداتها أية مدينة، سواء أكانت في أرض العدو، أم هي متمردة على سلطة الدولة))
وكان وجوباً علينا أن ندرخ إجراءات هذه الحكومة المُفتَرَضة، والتي تبدأ بحظر التجوال وإعلان الأحكام العرفية فوراً، وإستدعاء قادة العدو السياسيّين والعسكريّين والإداريين للتوقيع على وثائق إستسلام أصولية ولو توجَّبَ ذلك إستخدام السلاح، وإجبارهم على إصدار الأوامر إلى مرؤوسيهم لتسليم أسلحتهم إلى مواقع مُحددة وفقاً لمنهج زمنيّ، وفرض الحِفاظ على مؤسّسات الدولة ومُحتوياتها، وإصدار أوامر جازمة لمسؤولي الأجهزة الأمنية وأفراها للإلتحاق بمراكزهم، وإلى الأطّباء ومنتسبي المستشفيات وموظّفي الدوائر الخدميّة ومحطّات الوقود والمخابز لتأمين المتطلبات اليومية لمواطني المدينة المحتلّة، وذلك قبل تشخيص المُسيئين والمشكوك في ولاءاتهم إبتغاء حجزهم أو تقييد حريّاتهم.
ولمّا لم يتّخذ الأمريكيون والبريطانيون أياً من تلك الخطوات، ويفترض أنهم أصحاب خبرات متوارثة في إحتلال أقطار وإسقاط حكومات، فقد إستغربنا-نحن ضباط الأركان السابقون- من هذا التصرف المُريب، والذي تمخّض عنه فقدان الأمن والأمان في بلد كان -حسب وصف المحتلّين- يتحكم به نظام طالما وصفوه دكتاتورياً وشمولياً لا يعرف الرحمة.
فهل يُعقَل أن "واشنطن" لم تُخطّط لِما بعد إحتلال العراق كما يزعم البعض؟! وأن "البنتاغون" أو الخارجيّة الأمريكيّة لا تدركان هذه الأمور!! وهل أن القادة الأمريكيين لم يتلقوا دروساً مشابهة لمحاضرات الضباط العراقيين في كلية أركانهم المتواضعة؟! وكيف يدير القادة الأمريكيّون العشرات من القواعد الضخمة في العالم لحماية مصالح دولتهم العظمى والغرب وسواهما، إن هُمْ ليسوا على دراية بمثل هذه الأمور المبدئية والأساسية؟؟!!
أخطاء أنكى وأمَرّ لحقت القرار
أما الأخطاء المتلاحقة اللاحقة، فكانت نتائجها أنكى وأمرّ من سابقاتها ممّا أكسب المحتلّين مئات الآلاف من الخصوم المقتدرين على إستخدام السلاح، بعد أن قُطِعَ عليهم مصدر رزقهم، ناهيك عن إستشعارهم بالإهانة، ناهيكم عن عدم إتخاذ أية خطوات جدية لسحب الأسلحة المتنوعة من بين أيدي الذين ثبت أنهم إصطحبوها أو سرقوها وخبأوها.
ثم جاء تشكيل "مجلس حكم مؤقت" على أسس عرقيّة وطائفية ومذهبية، وتعيين الأغلبية العظمى من أعضائه ممن كانوا مقيمين خارج العراق لعقود من الزمن، حيث لم يستطع معظمهم أن يتفهّم واقع العراقيين وبالأخصّ خلال الأعوام العشرة الأخيرة من العهد السابق.
مجلس الحكم الذي شكّله الإحتلال ليحقق نظاماً عرقيّاً- طائفيّاً- مذهبيّاً وتبع ذلك تشكيل "هيأة إجتثاث البعث" المجرمة بحق العراق، وإتخذت قرارات على شكل عقوبات جماعية حيال الملايين من العراقيين الذين كانوا قد اُضطُرّوا للإنتماء إلى صفوف ذلك الحزب... ثم إلغوا جميع دوائر الدولة العليا وصادروا ممتلكاتها لصالح الساسة الفاسدين مقابل أثمان بخسة، وإعتبروا منتسبيها مطرودين من الخدمة بلا حقوق ولا رواتب تقاعدية.
وجاءت خطوة تشكيل "الشرطة العراقية" بلملمة أشخاص من الشارع العراقي، ومن دون تحقيق هوية، وأخفقوا في تسليحهم وتجهيزهم بمعدات مقتدرة يمكن أن يتفوّقوا بها حتى على ما لدى الجُناة والعابثين... وماطَلوا في إعادة تشكيل بضع وحدات للجيش الجديد من الصفر، وشكّلوا أول أفواجه على أسس غير مدروسة وبرواتب بخسة وبأسلحة بسيطة.
ولم تكترث الإدارة الأمريكية بظاهرة البطالة التي عمَّت الشارع العراقي، في حين منحت أعضاء مجلس الحكم وكبار المسؤولين الجدد رواتب ومخصصات تبلغ بضعة آلاف من الدولارات، حتى تساءل المواطن العراقي عن ماهية الفرق بين ترف مسؤولي النظام السابق ورموز العراق الجديد... وأُهمِلت معضلات الكهرباء، المجاري، الشوارع، وحتى المحروقات التي تضاعفت أثمانها في السوق السوداء إلى أضعاف أسعارها الرسمية.
وقد شابت العنجهية جنود الإحتلال في دورياتهم ومداهماتهم للبيوت، وثبتت بحقهم سرقة الأموال والذهب من البيوت، وكذلك المال العام من المؤسسات الحكومية وأمام الأنظار دون أن يجرأ أحد مسؤولي العراق (الجديد) إتخاذ أي إجراء بحقهم... ولم يتخذوا خطوات جادة للسيطرة على التسلّل والتهريب وضبط الحدود، أو إعادة تشكيل قوات الحدود العراقية بإستدعاء منتسبيها السابقين ليرابطوا في مئات المراكز الحدودية السائبة.
وقد سمحوا لزعماء الأحزاب وكبار إداريّي العراق (الجديد) أن يستحوذوا على قصور فارهة تركها قادة النظام السابق وأقرباؤهم فإتخذوها مساكن لشخوصهم ومكاتب لأحزابهم ومراتع لراحتهم وإستجمامهم ولياليهم الحمراء الباذخة، ما أثار إرهاصات مشهودة لدى عموم العراقيين.
وقد حصروا مفهوم "الأمن" في مجرد الحفاظ على قيادات وأفراد قوات التحالف وكبار مسؤولين العراق، وملأوا الشوارع بجدران كونكريتية مزعجة، وقطعوا الجسور، وإعتبروا أجزاء مهمة من بغداد والعديد من المدن الكبرى مناطق محرّمة على عموم العراقيين.
وفشلوا كذلك في إعداد دستور إنتقالي للبلاد، وفرضوا عوضاً عنه "قانون إدارة الدولة المؤقت"، ما أفسح أكثر من مرتعٍ خصب لصراع عنيف على السلطة في أي ظرف سانح... وقد أمضىالمدير الإداري لسلطة الائتلاف والرئيس الدوري لمجلس الحكم بعد محادثة قصيرة على إتفاقية غير واضحة المعالم تقضي بنقل السلطة إلى حكومة عراقية مؤقتة، ومن دون تهيئة أرضية ملائمة لهذه الخطوة الخطيرة والحساسة.
ولذلك إعتبر 99% من العراقيين قذف الصحافي "منتظر الزيدي" رأس الرئيس "جورج بوش" بحذائه يوم 14/12/2008 تفريغاً للبعض من مشاعرهم وتعبيراً لمكنوناتهم حيال الإدارة الأمريكية، كونها حققت وفقاً لمآربها "دولة عراق اللادولة" بمرتكزات عوجاء خاوية، وأحرقته وأمعنت في تدميره ومحو حضارته، وأقحمت الإرهاب في ربوعه بغية إبعاد مخاطر التطرف والإرهاب الدولي عن العالم الغربي، ما جعل العراق بعيداً عن أن تقوم له قائمة لعقود قادمة.
لحظة إستهداف رأس الرئيس بوش بحذاء
على ماذا تعتمد ستراتيجية الدولة؟؟
ومن البديهي أن أية دولة في العالم تستند في إدارة شؤونها وتسيير ستراتيجياتها على مرتكزَين أساسَين لا ثالث لهما، أولهما الوسائل الدبلوماسية، وثانيهما القدرات العسكرية، إذْ ينبغي موازنتهما وإستثمارهما على أفضل وجه وتحقيق التناغم فيما بينهما لإستحصال الأهداف التي تضعها القيادة العليا للدولة نصب عينيها.
فالوسائل الدبلوماسية يفترض أن تُسَيِّر أمور البلاد في ظروف السلم وتحاول بشتى الوسائل إبعادها عن الحرب، مستثمرة مؤسسات ودوائر وزارة الخارجية على وجه الخصوص، إضافة لما هو متاح من أدوات إقتصادية وعلمية وثقافية وإجتماعية وفقاً لمعاهدات وأحلاف ومواثيق وإتفاقيات وبروتوكولات.
لكن الدولة يجب أن توفّر تحت إيديها إلى جانب كل ذلك أدوات مسلحة مقتدرة تقف ظهيراً للحفاظ على كل الوطن وما يحتويه، وبمثابة عصا غليظة ومرفوعة ومتهيئة إن حصل طارئ، وتكون قادرة على الردع والدفاع عن الأرض والضرع والسماء والماء والتعرض حيال الخصم، والإستباق بالتوغل في أعماقه ونقل الصراع المسلّح إلى بقاعه وإبعاد الصراع المسلّح من ربوع الوطن.
ما تمخّض عنه القرار
لذلك تمخّض عن القرار الأمريكي بحلّ القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية فقدان تلك الأداة الرادعة داخل الوطن والحفاظ على حدوده، حيث عمّت الفوضى وشاعت أعمال نهب مؤسسات الدولة ومنشآتها العديدة قبل أن يُُحرَق معظمها من دون تمييز، فيما تعرّضت الدوائر الخدمية الى السرقة وأعمال التدمير والتخريب والحرق بهمجية غير مسبوقة... وإنعدم الأمن والأمان وطفحت الأعمال المسلحة ضدّ الدولة، إلى جانب عمليات ارهابية مروّعة أرعب المواطن العراقي فلم يعد مطمئنّ البال على ذاته وأفراد عائلته حتى في مسكنه على مدار الساعة.
وسابت حدود العراق الدولية مع ست دول مجاورة، فتدفّقت عناصر مسلّحة نحو الداخل، ليس للجهاد المزعوم الذي أعلنوه فحسب، إنّما لتصفية حسابات كانت مدفونة حيال الأمريكيين والبريطانيين وعساكر آخرين من جنسيات متعددة إنضموا إليهم كجزء متمم للتحالف الذي إعتبر العراق بلداً محتلاً بقرار أصدره مجلس الأمن الدولي بضغط مشهود من "واشنطن ولندن" يوم 1 مايس 2003... كما نُقِلَت الأسلحة والأعتدة والمفرقعات شديدة الإنفجار من مستودعاتها ومخازنها الضخمة التابعة للجيش المنحل والمنتشرة في جميع أنحاء العراق وخُبِّئت داخل "بغداد" وضواحيها والمدن الكبرى والبلدات والقرى والبراري والبساتين والكهوف، وأُستخدمت ضد العراق (الجديد) ومؤسساته وعلى القائمين الجدد على إدارته.
في حين لم تعد دول الجوار -التي لم تكن على وئام مع "العراق"- تخشى سطوته وهيبته المعروفة إقليمياً، بل أن بلاد الرافدين أُخرِجَت من موازنات الإستراتيجيات المعتمدة في "الشرق الأوسط"، فإندفع الجميع للتدخل المفضوح في شؤونه الداخلية، داعمين العمليات المسلحة في بقاعه من أجل تصفية حسابات قديمة ومستحدثة، فضلاً عن أغراض مستقبلية عديدة.
وتحول العراق بين عشية وضحاها -وأكبر الظن وفقاً لتخطيط مُبَيّت- إلى جبهة صراع ومواجهات مسلّحة في أرضه وعلى حساب مواطنيه مع ما يسمّى بـ"الأرهاب العالمي" بغية إستبعاد المخاطر على الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وعموم العالم الغربي، وإنبثقت عصابات جرائم منظمة وإرهاب بثت الرعب وسط مراتع خصبة قتلاً وخطفاً وإبتزازاً وأخذ ثارات شخصية وعشائرية وتهريب مخدرات وأسلحة يتم تداولها أمام الأنظار، صاحبتها صولات وجولات لأناس ساقطين وأولاد شوارع في طول "بلاد ما بين النهرَين" المعروفة بحضاراتها العريقة وعرضها، وتدفّق عناصر من مخابرات البعض من الدول ذات الأهداف المغرضة وتمركزوا في "العراق" ليؤدوا أدواراً خبيثة للحيلولة دون إستقراره.
التأثيرات الإقتصادية
وتمخّض قرار حلّ القوات المسلحة العراقية عن تأثيرات إقتصادية ترهق إقتصاد عموم الدولة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر... فبعد أن كانت تلكم القوات -بجميع مستلزماتها- قد كلّفت موازنات "العراق" لعشرات العقود من القرن العشرين -بدءاً من عام (1921)- ترليونات الدنانير (وقتما كان الدينار العراقي الواحد يعادل 3،13 دولاراً) لتمسي بين عشيّة وضحاها -بجملة قياداتها وتشكيلاتها ووحداتها وأسلحتها ومعسكراتها ومستودعاتها وقواعدها المادية والتدريبية ومؤسساتها العلمية والخدمية- هباء منثوراً، لأن إعادة التأسيس ((المفترض)) لهذه القوات وبُناها التحتية تتطلب جهوداً مضنية ووقتاً ثميناً ومئات المليارات من الدولارات، ليس لتعود الى سابق عهدها وماضيها المعروف، بل لمجرّد أن تقف على قدميها بعض الشيء في ظروف دولة يمكن وصفها بالمنهارة في أكثر من منحىً وبـ"اللادولة" في حقيقتها.
وقد مُحيَ ما كان قد تبقّى من منشآت التصنيع العسكري العديدة والمقتدرة التي كانت تحقق للقوات المسلحة العديد من إحتياجاتها الأساسية والإعتماد على نفسها والإكتفاء الذاتي من دون إستيرادها من الخارج، فضلاً عن إمكانات الإفادة من منتجاتها في المجالات المدنية والسوق المحلّية وخدمة الوطن والمواطن.
ولقد هُرِّبَت المواد المدمرة والأنقاض المحتوية على معادن ثمينة، ناهيك عن الآثار التي لا تقدّر بثمن، إلى الخارج وبين المحافظات مقابل مبالغ بخسة ومهينة أُنزِلَت في جيوب قادة الإحتلال وعملائهم وكبار القادة السياسيين للعراق الجديد.
ونُقِلَت رؤوس الأموال المرصودة من دون رقيب أو حسيب وهُرِّبَت إلى حسابات الفاسدين لدى الدول التي كانوا لاجئين فيها وقد إحتضنتهم وأفراد عوائلهم الذين لا يرتضون العودة إلى وطنهم الأصل، بل لا يعتبرونه وطناً.
وأُعْتـُدِيَ -وفقاً لتخطيط متقن وتنفيذ بارع- على المنشآت الإقتصادية والحيوية التابعة للدولة والمشاريع المهمة التي كانت تحت الإنجاز وإقتحمها المسلّحون التابعون لأحزاب سياسية غارقة بالفساد عنوة أو قصفوها، وفجّروا أنابيب النفط الخام وضربوا صهاريجه وصادروا مئات الشاحنات العملاقة المحمّلة والمستودعات الممتلئة بالمواد ونهبوا أبراج نقل الطاقة الكهربائية في وضح النهار بسبب إنعدام إمكانات الدولة على تأمين سلامتها.
النتائج الإجتماعية
وتفشت آفة البطالة، وتحوّل مئات الآلاف ممن كانوا يخدمون في صفوف القوات المسلحة ودوائر الأجهزة الأمنية المتنوعة ومنشآت التصنيع العسكري إلى مجرد أناس يذرعون الشوارع محرومين من لقمة العيش، فأُضطرّ العديد منهم للإنخراط في صفوف القائمين بالعمليات المسلحة، أو باتوا أفراداً ضمن عصابات، أو أمسوا يستخدمون السلاح مستهدفين الحصول على لقمة العيش، او الثراء بالسحت الحرام... فيما هاجر ملايين العراقيين تحت ظلال الظروف الأمنية أو الإقتصادية، وإضطروا للعمل غير اللائق في أقطار طالما إقتاتت من فُتات موائد العراقيين وأموالهم طيلة عقود مضت، وإنضموا إلى (4) ملايين كان قد تركوا الوطن في عهد النظام السابق من دون أن يعود معظمهم إلى "العراق الجديد" رغم مزاعم السياسيين والمستفيدين الجدد وأكاذيبهم... بينما إضطر العديد من ذوي الفكر الثاقب والإختصاصات الدقيقة والشهادات العالية والخبرات الوفيرة إلى ترك الوطن ليفيدوا دولاً أخرى.
ونضيف لكل ما أوردناه تلك الإرهاصات النفسية والأمراض العقلية التي سادت عموم العراقيين، وعلى وجه الخصوص النساء والاطفال والصبيان، جراء التفجيرات والعبوات الناسفة والسيارات الملغومة، وسيول الدماء وتهرّؤ الاجساد وتناثر الجماجم أمام ناظرَيهم.
سقوط هيبة الدولة
وتضاءلت الثقة بالدولة وإنهارت هيبتها جراء الآمال الوردية والوعود الخلاّبة بشأن الإستقرار والعمران والديمقراطية الكاذبة والتعددية الدستورية والحرية المزعومة والفيدرالية والأجندات المزعومة والتطوّر الموعود، وإنعدم إحترام القانون مصحوباً بإنفلات أخلاقي غير مسبوق في تأريخ البلاد، لمحدودية إمكانات الأدوات المتوفرة لدى السلطتين التنفيذية والقضائية، ناهيكم عن الفساد المخبوء تحت عباءات الذين يزعمون كونهم ممثلي الشعب تحت قبّة البرلمان، وهم على يقين أنهم أتوا بإقتراعات مزوّرة عن طريق سلاح الأحزاب والمال الذي سرقه الساسة من الموازنات العامة وأموال الشعب العراقي، ما تسبّب في تفاقم الفسادَين الإداري والمالي وإستغلال النفوذ وإستثمار المناصب بشكل مشهود ومظاهر الرشوة والإختلاس وسرقة المال العام... وتحوّل العديد من حثالات المجتمع -جراء السرقات والنهب والسلب- الى شخوص ذوي ثراءٍ فاحش، مستغلّين أموالهم في أمور مخجلة وساقطة لتسيير مصالحهم وترغيب المواطنين وترهيبهم، ما جعل العديد منهم سادة الشارع العراقي واللاعبين في سلطاته الأربع (وليس الثلاث كما يُشاع) من دون منازع.