الجسر العتيق بالموصل.. تاريخ حافِل بالأَحْداث- الجزء الثالث
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الجسر العتيق بالموصل.. تاريخ حافِل بالأَحْداث- الجزء الثالث
الجسر العتيق ليس هو مجرد جسر يربط الجانب الشرقي من الموصل بجانبها الغربي، بل هو نموذج للإبداع العراقي بالكفاءة وجودة العمل وبحيث بقى هذا الجسر صامدا على مدى قرن من الزمان وقد صمد ولم يتأثر بالظروف العاتية الكثيرة التي مرّت به من فيضانات وحروب، كما نُقلت على هذا الجسر معدات ثقيلة في ظروف خاصة.
لقد تعرّفتُ في مطلع الثمانيات بالأخ المهندس الكهربائي باسل الفخري الذي كان يدرس الدكتوراه في جامعة مانشستر، وهو نجل المهندس الرائد فخري جميل الفخري (1908ـ1995) الذي على يديه تم تشيد الجسر العتيق بالموصل ومشاريع أخرى رائدة في العراق.
يقول الدكتور باسل الفخري: " في أحد الأيام اتصل بي طاهر توفيق العاني الذي كان محافظا لنينوى في الثمانينيات ليستفسر من الوالد عن الجسر العتيق بعد أن قاوم أعتى الفيضانات، حيث كان الخوف سائدا من عدم صمود الجسور الحديثة! وبعد أن عرف أنه والدي؛ ولكونه كان وزيرا للصناعة والمعادن فتعرّف بي عند افتتاحه مراكز السيطرة على الكهرباء. لقد أعلمته الطرق والجسور في محافظة نينوى عندما كان محافظا أن والدي هو الذي على يديه تم إنشاء الجسر العتيق. وقد طلب الوزير رقم تلفون والدي واتصل به، وقد أجابه والدي بأن جميع التفاصيل والمعلومات موجودة لدى دائرة الطرق والجسور".
اقتراح لم يتحقق في وقته:
تذكر المهندسة هناء جوزيف أنه سنة ١٩٧١ كان في جامعة الموصل أستاذ مصري متميز في الهندسة المدنية (الهندسة الوصفية) هو الأستاذ يوسف نيقولا.. ونتيجة للزخم المروري الشديد على الجسر العتيق فقد قدّم الأستاذ نيقولا دراسة ونشرها في مجلة جامعة الموصل آنذاك ومفادها أن الجسر العتيق يمكن أن يُنشأ فوقه طابق ثاني لمرور السيارات. وبهذه الطريقة يمكن الانتقال بين الساحلين الأيمن والأيسر من المدينة بمسارين وباتجاهين متعاكسين، وبحيث يكون الطابق السفلي مخصصا للانتقال من الساحل الأيمن إلى الأيسر ويكون الطابق العلوي مخصصا لمرور السيارات من الأيسر إلى الأيمن.
ومما يؤسف له أن الأستاذ يوسف نيقولا توفى في الموصل في صيف تلك السنة ١٩٧١ نتيجة لحادث مروري مروّع في طريق المجموعة الثقافية وبجوار بوابة المسقى في مدينة نينوى الآثارية وقد نقل جثمانه إلى مصر.
وجدير بالملاحظة أنه يجري حاليا تنفيذ فكرة الأستاذ يوسف نيقولا بعد أكثر من نصف قرن بطريقة أخرى، حيث تم إنشاء ممر ثاني بجوار الجسر العتيق مؤخرا، وقد لاقى هذا الفعل بعض الانتقادات.
القناطر الحجرية:
لقد شُيد أيمن الموصل على ربوة مرتفعة، اما الضفة اليسرى فهي عبارة عن سهل منبسط يمتد حتى خرائب نينوى او ما يسمى (بتل قوينجق)، ولهذا كان ذلك الجانب معرضا دائما لخطر الفيضان.
لقد باشرت الدولة العثمانية بإنشاء جسر سنة 1854 وهو عبارة عن مجموعة قناطر تتصل مع بعضها ليمتد إلى منطقة مرتفعة في الجانب الأيسر. وقد وصل طول القناطر الى حدود كيلومتر واحد وبعرض 8 أمتار، وبارتفاع 10 أمتار. وقد رُبط من الطرف الثاني لذلك الجسر جسر خشبي عائم يصله بالجانب الأيمن من المدينة.
وبعد إنشاء الجسر العتيق سنة 1934 بقيت القناطر الحجرية على حالتها، حيث كانت تبعد عن الجسر قرابة 500 متر، وقد تم هدم هذه القناطر فيما بعد لأن بقاءها في وسط النهر خلال موسم الفيضان يعيق جريان المياه ويلحق الضرر بسلامة الجسر العتيق.
في السنة التالية من تشييد الجسر العتيق، تعرض هذا الجسر إلى اختبار وامتحان عسير. ففي سنة 1935 حدث فيضان هائل لم يسبق أن شاهد أهل الموصل مثله منذ زمن بعيد حتى أن الماء صعدت إلى أعلى الجسر العتيق، ومع هذا لم يتعرض الجسر إلى أي ضرر، وقد طغت المياه على الضفة اليسرى من النهر وأغرقتها وقطع طرق المواصلات.
ونتيجة لذلك قامت مديرية الأشغال العامة بإنشاء قناطر حجرية على مجرى نهر الخوصر الذي يبعد عن مدخل الجسر حوالي مائة وخمسين مترا، ثم قامت بتعلية الطريق بين الجسر وبين تلك القناطر. كما قامت مديرية الري العامة بإنشاء سدة على ضفة نهر الخوصر منعا لتدفق المياه.
فيضان 1963:
في سنة 1963 حدث ارتفاع كبير في منسوب نهر دجلة، ووصلت موجات المياه إلى حافة السدة العليا، ووضع الجيش في حالة إنذار، وقام الجيش وطلبة المدارس بوضع أكياس الرمل على حافة السدة العليا.
لقد حدثت حالة إرباك شديدة عند الناس، وكانت الناس تراقب وضع المياه من خلال راديو إذاعة بغداد أولا بأول، وقامت الإذاعة تبث الأناشيد الوطنية وتتخللها البيانات الرسمية المتعلقة بالفيضان.
وفجأة قُطع البث وأعلن المذيع أن مناسيب المياه سيرتفع في الموصل 60 مترا وطلب من الناس الابتعاد عن النهر!! فساد ارتباك شديد بين الناس وأصبحت حائرة لا تعلم ماذا تصنع. وبعد قليل استدرك المذيع الموقف وذكر أن ذلك الخبر كان خطئاً واعتذر.
وأتذكر في ذلك الفيضان ذهبتُ إلى السدّة في منطقة الدندان القريبة من الدواسة، وكانت أمواج النهر تجتاز السدة أحياننا.. وقد اغرق ذلك الفيضان منطقة الفيصلية وأحياء المالية والضباط في الساحل الأيسر، وغطى مساحات واسعة ووصل الماء الى منطقة النبي يونس عليه السلام ومنطقة المجموعة الثقافية.
[size=32]وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.[/size]