الموازنة العراقية الجديدة وهدر اموال الاجيال القادمة
د. سعد ناجي جواد*
الموازنة العراقية الجديدة وهدر اموال الاجيال القادمة
اخيرا مرر البرلمان الموازنة الاضخم في تاريخ العراق التي تبلغ 152.1 مليار دولار، والتي ظلت، كما في كل عام، تراوح في مكانها لشهور عدة.
ـ اول ما يلفت النظر في هذه الموازنة، ولكي تتلافى الحكومات المتعاقبة مشكلة اقرار الميزانية في كل عام، وفي ظاهرة غريبة اخرى تضاف الى الحالات الاعتباطية السابقة في وضع الموازنات، والى ابواب الهدر الكبيرة والعجيبة التي احتوتها، تم اعتماد الموازنة هذه المرة لمدة ثلاث سنوات قادمة، اي ان نفس الموازنة ستكرر للسنتين القادمتين. بكلمة اخرى ان مجلس النواب الحالي، او القادم سوف لن يكون مطالبا باقرار موازنة جديدة! وان ابواب الفساد ستبقى مشرعة لسنوات ثلاث، وكالعادة فان العراقيين سوف لن يتمكنوا من الاطلاع على الحسابات الختامية لكل سنة. علما بان وزارة المالية لم تجر اية حسابات ختامية للموازنات السابقة منذ عام 2010، ولم يتم تدقيق الحسابات الختامية لأية وزارة من الوزارات بعد انتهاء مدتها. وهذه كارثة اخرى تضاف الى الكوارث التي صاحبت اقرار الموازنات السابقة.
ـ ثانيا: ان واضعي هذه الموازنة اقروا ابتداءا ان فيها مجالا كبيرا للعجز يقدر بأكثر من 30%، (الموازنة 152.1 مليار دولار، والعجز 49.3 مليار دولار، محتسبة على سعر 70 دولار لبرميل النفط). بكلمة اخرى ان هبوط سعر برميل النفط الى 60 دولار او اقل سيشكل كارثة للاقتصاد العراقي.
ثالثا. المادة الاكثر خطورة وايلاما للنفس هي تلك التي تحدثت بصورة سريعة عن (اطفاء السلف الحكومية) منذ عام 2003 ولحد الان. قد تبدو هذه المادة عابرة وغير مهمة، الا ان اي شخص يمتلك القليل من الوعي سيكتشف ان هذه المادة اذا ما تم تطبيقها فانها ستعني شطب ما بين مائة وخمسون الى مائتي مليار دولار (علما بانه لا توجد ارقام دقيقة لهذه السلف وان هناك من يؤكد بانها اكبر من ذلك بكثير). وهي سلف كانت قد دفعت الى وزارات ومسؤولين كبار واحزاب بحجة اقامة مشاريع، وان هذا المشاريع لم تنجز ولم يتم اعادة هذه السلف. ان اجراء مقارنة سريعة وبسيطة بين تفكير واضعي الموازنة العراقية وتفكير نظرائهم في دول الخليج العربي تكشف الفارق بين من يضع مصلحة البلاد نصب عينيه وضميره، وبين من يحاول ابتداع الاساليب لسرقة اموال الاجيال القادمة. فمثلا قامت دول الخليج كافة منذ القرن الماضي بتأسيس صناديق سيادية للاجيال القادمة تحسبا لنضوب الثروة النفطية، واودعت كل دولة في الصندوق الخاص بها ابتداءا مبلغ مائتي مليار دولار ضمانا لمستقبل الاجيال. (طبعا هذه المبالغ قد زادت منذ ذلك الحين. فأصول الصندوق الكويتي تبلغ الان 708$ مليار ويتفوق عليه جهاز ابو ظبي للاستثمار (709$ مليار)، وحل صندوق الاستثمارات السعودية ثالثا (607$ مليار) اما جهاز قطر للاستثمار فيحتوي على 461$ مليار دولارا). ويكفي مقارنة موجودات هذه الصناديق بما ما سيتم شطبه او اطفاءه (حسب التعبير الذي ورد في الموازنة الجديدة)، واذا ما اضفنا لهذا الرقم ما تم تبديده منذ بداية الاحتلال والى حد الان على يد الحكومات الفاسدة (حوالي ترليون دولار، باعتراف نائب رئيس وزراء سابق)، او الفشل في استرداد المليارات المنهوبة والمهربة في سرقة القرن، يتضح ان العراق كان بامكانه انشاء صندوق استثمار للأجيال القادمة يوازي الصناديق الخليجية. علما بان ايرادات العراق النفطية منذ 2003 بلغت ترليون وثلاثمائة وعشرة مليارات. ولا يدخل ضمن هذه الارقام المليارات التي تأتي كمساعدات دولية او موارد المنافذ الحدودية التي تذهب هي واثمان النفط المهرب يوميا الى جيوب الاحزاب المتنفذة.
ـ ثالثا: بدلا من ان تعتمد الدولة سياسة ترشيد الجهاز الاداري (حوالي سبعة ملايين موظف ما عدا موظفي اقليم كردستان، (الذين لا يعرف عددهم الحقيقي)، في حين ان هذا العدد لم يكن يتجاوز المليون قبل عام 2003) والذي يستهلك نصف الموازنة كرواتب، وبدلا من ان تعمل على تحويل جيوش الموظفين الهائلة غير المنتجة الى مجالات اخرى مثل الصناعة، عن طريق اعادة تأهيل المصانع التي اوقفت بعد الاحتلال، والزراعة عن طريق الاكثار من الاراضي الزراعية، او مشاريع البناء، نجد ان الموازنة تتحدث عن استحداث درجات وظيفية جديدة مما يعني زيادات جديدة في عدد الموظفين الذين هم بالأساس يشكلون بطالة مقنعة.
ـ رابعا: ورغم الوفرة المالية التي تمتع بها العراق بسبب ارتفاع الموارد النفطية، وبدلا من وضع خطة محكمة لتسديد القروض الداخلية والخارجية السابقة، فتحت الموازنة باب الاقتراض على مصراعيه، (اكثر من 30 باب او فقرة تبيح الاقتراض للجهات المعنية).
كما ضاعفت الموازنة من مخصصات الحشد الشعبي وافراده، على الرغم من الادعاءات بانه سيتم العمل على دمج هذه الفصائل في القوات المسلحة لغرض ضبط تصرفاتها التي خرجت عن السيطرة في كثير من المناطق. .
ـ خامسا: خصصت الموازنة مبالغ هائلة للرئاسات الثلاثة ومجلس القضاء الاعلى، قسم كبير منها وضع تحت بند (مصاريف نثرية) ولمن لا يعرف هذا التعبير فانها تعني مبالغ مخصصة للشاي والقهوة والمرطبات والبسكويت وايفادات وخلافه. فلقد خصص مجلس النواب لنفسه مبلغ 418 مليار دينار (حوالي 300 مليون دولار) لهذا الباب سنويا، وتم تخصيص مبلغ 714 مليار دينار (حوالي 500 مليون دولار) لمجلس القضاء الاعلى لنفس الغرض، اما مخصصات رئاسة الجمهورية ومجلس الوزاراء فلم يتم نشر الارقام الخاصة بها، وهي هائلة ايضا. هناك اصوات تحدثت عن ضئالة المبالغ المخصصة لوزارتي الصحة (17 مليار دولار) والزراعة (15 مليار دولار)، في حين ان دولا عديدة استطاعت باقل من هذه المبالغ ان توفر خدمات معقولة لمواطنيها بوجود ادارات مقتدرة وكفؤة.
استمر الجدل حول الموازنة وقتا طويلا جرت فيه مناوشات ومنابزات واتهامات متبادلة كثيرة، حاول من خلالها كل طرف ان يثبت (حرصه على المال العام واتهام الطرف الاخر بتبديده). نواب الاحزاب الشيعية اتهموا الاحزاب الكردية بمحاولة الاستئثار بنسبة كبيرة من موارد الدولة وبعدم دفع اثمان ما قاموا ويقومون بتصديره من النفط الخام من حقول كركوك والاقليم. علما بان قادة هذه الاحزاب هم انفسهم ذهبوا الى اربيل واعطوا السيد مسعود البرازاني التنازلات تلو التنازلات من اجل ان يدعم تشكيل حكومة جديد من الاحزاب التي فشلت في الانتخابات، وهيمنت على البرلمان بصورة غير شرعية، وهذه قصة تمت مناقشتها في مقال سابق (راي اليوم 2022/6/25). بدوره اتهم قادة الاقليم ونوابهم الاحزاب الشيعية بالتنصل عن ما تم الاتفاق عليه، وبخيانة العهد والتراجع عن الالتزامات التي قدموها للسيد مسعود البرازاني من اجل تمرير حكومة السيد محمد شياع السوداني. وظل النقاش على المادة التي تتحدث عن مستحقات الاقليم وطريقة معالجة المستحقات المترتبة عليه مستمرا لاسابيع كثيرة اعاقت تمرير الموازنة. بدورهم حاول نواب من الاكراد اثارة مسالة السرقات الكبيرة التي تحدث والتي تُتَهم بعض قيادات الاحزاب الشيعية بالتورط فيها والتستر عليها. المهم ان كل هذه المنازبزات انتهت باقرار الموازنة، لسبب بسيط هو ان الاطراف المختلفة جميعا وجدت ان هناك ضرورة لاقرارها، ليس حبا بمصلحة الشعب العراقي ولكن لانهم يعلمون ان فيها مجالات واسعة وجديدة لاستمرار النهب المنظم للموارد والاموال العراقية. وهذه المسالة تذكرنا بالاختلافات الكبيرة التي حصلت بعد الانتخابات الاخيرة والفشل في عقد جلسة لمجلس النواب لاختيار حكومة جديدة، لكن المجلس سرعان ما التئم بكافة اعضائه ليمرر خطة (الامن الغذائي الطارئة) بمبلغ 26 مليار دولار (لتوفير المواد الغذائية للمواطنين!)، والتي انتهت بتقاسم الاحزاب المتنفذة هذا المبلغ الكبير وتبخره وسط شحة المواد الغذائية وارتفاع اسعارها بشكل كبير.
لا يخطا من يقول ان الفساد في العراق غير مسبوق ولا يوجد له مثيل في العالم، او من يقول ان العراق الحديث لم يشهد مثيله منذ ان اعلن كدولة بحدودها الحالية في عام 1920. هذا لا يعني ان العقود والانظمة السابقة لم يكن فيها فاسدون، ولكن الفرق الاساسي ان عدد الفاسدين كان محدودا اولا وان اغلب اجهزة الدولة كانت تقف بوجه الفساد وتحاربه وتقسوا على الفاسدين مهما كانت مكانتهم، والاهم ان من كانت تثبت عليه تهمة الفساد كان في الغالب ينبذ من قبل شريحة كبيرة من المجتمع. اما الان فان الفاسدين هو وجوه المجتمع. والاهم انه لم يحدث ان وصل الفساد في العراق الى الهرم الحاكم، من قمته الى قاعدته، ويشمل ذلك الاجهزة المسؤولة عن محاربة الفساد. ولم يحدث ان وقفت الدولة بكل مؤسساتها الرسمية ليس فقط عاجزة عن ايقاف عجلة الفساد وانما ايضا عاجزة عن محاسبة الفاسدين او ملاحقتهم، بل ان هناك من اطراف السلطة من يعمل على حماية الفاسدين وتهريبهم من السجون، ولم يحدث أن كانت الغالبية العظمى من الفاسدين هم من موظفي الدولة الكبار او الشخصيات المسؤولة.
ان فساد وسوء ادارة عشرون عاما جعلت العراق يصبح نموذجا شاذا وغريبا بين دول العالم. فهو البلد الوحيد الذي يسبح على بحر من النفط، ومدخوله الشهري منه يصل الى عشرة مليارات دولار او اكثر، لكن نسبة الاشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر وصلت الى 40%، وهو البلد الوحيد الذي يوجد لديه فائض مالي يقدر بمائة مليار دولار، وتقوم الدولة بضخ اكثر من مائتي مليون دولار يوميا عن طريق مزاد البنك المركزي، (الذي يشكل بحد ذاته فساد كبير)، ومع ذلك تنهار قيمة الدينار العراقي يوما بعد يوم.
لابد من اصلاح مالي شامل يقوم به خبراء ماليون متخصصون، ولابد من خطة اقتصادية واضحة تعيد ترتيب سبل الاستفادة من الموارد المالية العراقية. ولابد من اجهزة حكومية نزيهة تطبق هذه الاصلاحات وتضع مافيات الفساد خلف القضبان، وبعكس ذلك سيستمر نزيف الموارد المالية العراقية وذهابها لجيوب السُرّاق الذين يقومون بتهريبها الى الخارج وخاصة الدول المجاورة، وفي حالات عديدة يقومون بإقراض الدولة قسم من الاموال التي يسرقونها!
*كاتب واكاديمي عراقي