ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ في ذكراها الخامسة والستين .. مالها وما عليها
د. سعد ناجي جواد*
ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ في ذكراها الخامسة والستين.. مالها وما عليها
تمر اليوم ذكرى قيام ثورة 1958 التي أنهت النظام الملكي في العراق وبدأت المسيرة الجمهورية. هذه الثورة التي حصلت على تأييد شعبي غير مسبوق لا يمكن تفسيره سوى بانه مثل عدم رضى واسع عن النظام الملكي. ورغم مرور كل هذه السنين الطويلة مازال الجدل يدور حولها بين مؤيد ومختلف. ابتداءا يمكن القول ان اهم ما يميز الجدل حولها، (خاصة بالنسبة للمنتقدين)، انه في الغالب يأخذ شكلا عاطفيا، ويمثل ظاهرة تعرف (بالحنين الى الماضي)، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين لم يعيشوا الفترة المعنية او الذين تضرروا من زوالها. وكذلك بسبب ان اغلب الانظمة التي جاءت بعد النظام الملكي تسببت بكوارث للعراق. أضف الى ذلك ان رفض ذلك التغيير لم يكن غير مبررا تماما خاصة وان بدايته اصطبغت بالكثير من الدم، وصاحبها أحداث أليمة وغير انسانية بل وبشعة ولم تكن مطلوبة. والأكثر ايلاما فيها انها اودت بحياة ملك شاب(23 سنة)كان ما يزال في مقتبل عمره، ولم تسجل عليه اية جريمة تستوجب هذا القتل. والأبشع ان جريمة ذلك اليوم طالت كل نساء العائلة المالكة، ومن كافة الإعمار، اللواتي خرجن مع المرحوم الملك فيصل الثاني وهن يحملن نسخ من القران الكريم، واحداهن كانت تضعه فوق راْسه.
المحاججة الاولى التي يتمسك بها معارضو الثورة (الانقلاب بالنسبة لهم) ان العراق الملكي كان قد بدا خطوات مهمة في مجال التنمية وتسخير موارد البلاد لبناء مشاريع كبيرة لا زالت تخدم العراق لهذا اليوم، ويؤكدون لو ان تلك المسيرة قد استمرت لاصبح العراق من اكثر الدول المتطورة في المنطقة، وهو كان اصلا في تلك الفترة اكثر تطورا وتقدما من كل دول المنطقة، وهذا راي صحيح ١٠٠٪. كما انهم يضيفون ان النظام الملكي اعتمد الكفاءة في شغل المناصب العامة، واتسم بالهدوء والاستقرار والأمن، وهذا الكلام صحيح جدا ايضا. ولكن اصحاب هذا الرأي يغفلون أموراً كثيرة يمكن اعتبارها اهم أسباب التغيير. اول هذه الاسباب هي الحالة الاقتصادية والفرق بين الاغنياء والفقراء، وتنمر النظام الاقطاعي وشموله برعاية الحكومة انذاك. ثانيا اصرار الطبقة الحاكمة، وخاصة المرحومين توري السعيد والأمير عبد الإله الوصي على العرش، على البقاء في الحكم وعدم السماح لوجوه جديدة بالوصول اليه او المشاركة فيه، بل لم يسمح الاثنان حتى للملك الشاب بان ياخذ دوره، وهذان الأمران هما ما ادراكهما المرحوم الملك حسين في الاْردن منذ مقتبل عمره واستطاع ان ينجو بالحكم عن طريق التغيير المستمر في الوجوه التي يعهد لها برئاسة الوزارة او الوزراء. ثالثا وهو الأهم ان كل من نوري السعيد وعبد الاله أصرا على التعامل بالدم مع معارضيهم، (تنفيذا لرغبات بريطانية)، وبالتالي فان عمليات إعدام أولئك المعارضين وتعليق جثثهم في الأماكن العامة، أوغرت قلوب معارضي النظام الملكي بالحقد والرغبة في الانتقام لأرواح رموز وطنية حتى لم تكن تعمل اصلا على ازالة النظام الملكي. رابعا هو اصرار الشخصين، وبالذات نوري السعيد على منع الأحزاب المعارضة من الوصول الى البرلمان عن طريق الانتخابات حتى وان كانت بسيطة، وذلك عن طريق تزوير الانتخابات او الغائها اذا تطلب الامر. الظاهرة الظريفة فيما يخص اصحاب الرأي الذين يحنون الى الملكية انهم من اكثر المعجبين بأغاني وفن المطرب العراقي الساخر والذكي المرحوم عزيز علي ويتداولون أغانيه بصورة مكثفة، وجميعها في حقيقتها هي نقد لاذع للأوضاع والماسي التي كانت تحصل في ظل النظام الملكي.
فيما يخص النظام الجمهوري، فلقد انقلب الناس ايضا بين مؤيد له، وكانوا غالبية في البداية، وقلة ناقمة عليه، وفي احيان كثيرة بصورة عاطفية. هناك حقائق يجب ان تثبت بعد هذه الفترة الطويلة. ابتداءا فان مجموعة الضباط الأحرار التي خططت للثورة او الانقلاب لم يكن يجمعها، باستثناء الرغبة في إسقاط النظام الملكي (والتخلص من الكبار الثلاثة)، على حد تعبيرهم (الملك والوصي ونوري السعيد)، اي رابط اخر. وهذا الهدف الأخير (قتل الثلاثة) كان قاسما مشتركا ولم يعترض عليه احد من بينهم، مهما اشيع وقيل فيما بعد من قبل بعضهم كنوع من التخلص من وخز الضمير، او للتنصل من جريمة قتل الملك بالذات. ثانيا ان الحركة لم تكن لتنجح لولا اندفاع او شجاعة او تهور، سمها ما شئت، المرحوم عبد السلام عارف. وكل الآخرين لم يمتلكوا جرأته على القيام بمثل هذا العمل الضخم وبقوات قليلة جدا. (الطريف ان عبد السلام بعد ان قام بذلك العمل الكبير وجد نفسه بعد شهرين ونصف تقريبا، محكوما بالإعدام من قبل الأشخاص الذين أوصلهم للحكم، وفي زنزانة منفردة بتهمة التآمر على قلب النظام!). رابعا ان المرحوم الزعيم عبد الكريم قاسم بدا بداية جيدة عندما اعتمد مبدأ الكفاءة في اختيار وزارته الاولى، وفي هامش الحرية الذي وفره للأحزاب والصحافة. واكتسب شعبية كبيرة غير مسبوقة، وخاصة من قبل الفقراء والكادحين، الذين اعتبروه منهم ومحققا لأمانيهم. ولكن اعتماده على الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني والسماح لهم بارتكاب جرائم كبيرة أفقده تأييد التيار القومي، ثم بسبب نهجه سياسة فردية تركه اتباع الحزب الديمقراطي الكردستاني، ثم العديد من قيادات الحزب الشيوعي، ناهيك عن فقدانه لتأييد الأحزاب الاخرى، وخاصة حزب البعث الذي وصل الامر به لكي ينفذ عملية جريئة لاغتياله وسط شارع الرشيد في بغداد. كما لا يمكن لاحد ان ينكر ان قاسم بدا حملة مشاريع كبرى، كان أهمها مشاريع الإسكان لذوي الدخل المحدود، وهذا ما زاد من شعبيته بين الفقراء. طبعا الكثير من مؤيديه يتحدثون عن نزاهته وعفته وانه مات ولم يكن يملك دارا للسكن وكان يعيش في ما يعرف بالعراق ب (مشتمل) وهي دار صغيرة ملحقة بدار اكبر، كانت مملوكة للدولة، وظل فيها حتى مقتله. وهذه حقيقة معروفة، ولكن للحقيقة وللتاريخ فان صفة النزاهة هذه لم تكن حكرا على عبد الكريم قاسم فقط، وإنما كانت صفة عامة اتصف بها كل ضباط ورجالات الحكومة في تلك الفترة.
مؤيدو قاسم يهملون الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها، والتي تمثلت في إعدام رفاقه الضباط، ومن بينهم من كان مؤسسا للحركة وضمه اليها، والسكوت عن المذابح التي جرت في الموصل وكركوك، وتفشي ظاهرة السحل في كل المدن العراقية، والفشل في القضاء على التمرد الذي بداءه رؤساء العشائر الكردية من الاقطاعيين ضد قانون الإصلاح الزراعي، وفشله في التعامل مع المشكلة الكردية بوسائل سلمية بعد ان تضخمت واخذت صبغة حركة قومية، واصراره على استعمال الجيش في عمليات غير حاسمة، حتى اتهم بانه أراد فقط ان يبعد الجيش عن العاصمة لكي لا ينقلب عليه، وبانه لم يكن يهتم بمسالة القضاء على الحركات المسلحة.
الملاحظة الاخرى ان قاسم بدا يتحول الى الفردية بعد عام من وصوله للحكم، وانتهى الامر بنظامه ان يكون معزولا وعلاقاته الدبلوماسية مقطوعة، او شبه مقطوعة مع اغلب الدول العربية. ابتداءا من مصر (الجمهورية العربية المتحدة) وانتهاءا بلبنان، بسبب اعتراف الاخير بدولة الكويت عندما استقلت عام 1961. وهذا الإجراء شمل ايضا كل دولة فعلت ذلك. وللإنصاف ايضا ان من بادر الى توتير العلاقة بين العراق ومصر لم يكن قاسم لوحده عندما رفض فكرة الانضمام للوحدة التي كانت تضم مصر وسوريا انذاك، وبتأثير كبير من الحرب الشيوعي، وبسبب رغبته في التمسك بالحكم، وإنما لعبت قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، مع الاسف الشديد، دورا في ذلك، في وقت كان يمكنها ان تحتوي ذلك الخلاف نظرا لاهمية العراق في تلك الفترة في الجبهة المناهضة للاستعمار، والذي اثبته قاسم من خلال إنهاء النفوذ البريطاني واخراج العراق من حلف بغداد ودعمه الكبير للثورة الجزائرية انذاك. اما الدور الاسوأ في توتر العلاقة بين العراق ومصر فلقد لعبه الاعلام المصري، وخاصة إذاعة صوت العرب التي لم تترك اسلوبا او مثلبة او كذبة الا ونشرتها للتأليب على نظام عبد الكريم قاسم وعليه شخصيا.
في نهاية المطاف اصبح عبد الكريم قاسم ونظامه معزولين داخليا وخارجيا، وفي الأشهر الاخيرة من حكمه عجز حتى عن ايجاد بدلاء للوزراء الذين كانوا يقدمون استقالاتهم الواحد تلو الاخر، وأصبح كل واحد من الوزراء الباقين في حكومته يدير اكثر من وزارة وكالة، وكانت طريقة تعامله مع الوزراء سببا في سعيهم للاستقالة، (مثلا كان يجتمع معهم بعد الثانية عشرة ليلا وحتى الصباح في جلسات لم يكونوا يسمعوا فيها غير حديثه او اخر خطاباته المطولة).
وتبقي نقطة مهمة تستحق الإشارة. يحلو للبعض اتهام الثورة بانها من (صنع الإنكليز) حسب التعبير العراقي الدارج. وهذه التهمة لم يظهر من وثائق وادلة ما يؤيدها بعد كل هذه السنين. لكن ما يمكن تأكيده ان نظام قاسم تعرض بصورة غير مباشرة لمؤامرة بريطانية-أمريكية واضحة قادتها شركات النفط، وتمثلت في دعم الاعمال المسلحة في شمال العراق وتمويل الحركات المعارضة للنظام الجمهوري الاول. وذلك لسببين: الاول قرار رقم 80 التاريخي الذي أنهى حرية الشركات النفطية الأجنبية في التنقيب على النفط في كل أنحاء العراق، وحصرها في الحقول التي كانت تعمل فيها فقط، وهذا نتج عنه حرمان الشركات من حقول نفطية عملاقة، وثانياً مطالبته بالكويت ومحاولته ضمها للعراق، مما أضاف تخوفا اخر من مخططاته التي تضر بالمصالح البريطانية والأمريكية.
في الخلاصة النهائية ان فترة حكم عبد الكريم قاسم مثلت نموذجا لفشل الانظمة العسكرية، حتى وان حققت بعض الانجازات، وانه هو شخصيا اضاع فرصة ذهبية لتحقيق ديمقراطية، او نوع بسيط منها، لو انه قام، كما وعد، بإعادة الجيش الى ثكناته وتسليم الحكم لجبهة الاتحاد الوطني التي كانت تشمل كل الأحزاب السياسية الوطنية انذاك، والتي كانت تمثل معارضة مدنية وشعبية للنظام الملكي. او لو انه أنهى بسرعة (الفترة الانتقالية)، التي أعلن بانها ستكون الأقصر في التاريخ، والتي بالنتيجة استمرت طوال فترة حكمه، وأجرى انتخابات نزيهة. او لو انه شكل حزبا سياسيا لنفسه يضم العدد الهائل من مناصريه لكي ينقل البلاد الى حكم مدني. لكنه للأسف لم يفعل ذلك وترك الباب مفتوحا للمغامرين من الضباط والمنافسين لكي يُدخِلوا العراق في دوامة الانقلابات العسكرية، ولتكون نهايته كنهاية معارضيه، القتل وبصورة بشعة.
في الختام، ومهما كان التقييم لذلك الحدث التاريخي، وسواء كنا معه او ضده، الا انه من المؤكد فان تاريخ 14 تموز سيبقى يمثل فشل الانظمة التي شكلتها الدول الاستعمارية من ناحية، ومن ناحية اخرى سيبقى يؤرخ لبداية العنف، ومحاولات الوصول للسلطة بالقوة، والأخطر فان الحدث اشر بداية مرحلة استسهال القتل والاغتيالات واستباحة الدم العراقي من قبل كل الاطراف، حزبية كانت ام عسكرية، رسمية او معارضة، وهي الحالة التي فتحت مجرى الدم العراقي الذي مازال مستمرا الى يومنا هذا.
*كاتب واكاديمي عراقي