حناني ميــــــا الإدارة العامة
معلومات إضافية
الأوسمة : المشاركات : 24065 نقاط : 219369 التقييم : 15 العمر : 82
| موضوع: دراسة معزّزة بوثائق تنشر لأول مرة الحدود بين العراق والكويت.. رؤية سياسية قانونية مصطفى كامل الخميس 24 أغسطس 2023 - 1:45 | |
| [rtl]دراسة معزّزة بوثائق تنشر لأول مرة[/rtl] [rtl]الحدود بين العراق والكويت.. رؤية سياسية قانونية[/rtl] [rtl]مصطفى كامل[/rtl] بدءاً لابد من تسجيل مجموعة من الملاحظات تكون بمثابة المفاتيح التي لا تجوز كتابة المقال دون تثبيتها أولاً، واستحضارها عند القارئ بعمقٍ ثانيا. وهذه الملاحظات المفاتيح هي:
[list=color:rgb(30,30,30)]- ليس من مهام هذا المقال البحث في قضية انتماء الكويت إلى العراق، فهذه قضية محسومة جغرافياً، ومحسومة تاريخياً، لكنها ليست محسومة سياسياً ولا قانونيا.
- كما ليس من مهامه الحديث عن تفاصيل ما حدث يوم الثاني من شهرآب عام 1990 ولا عن تقييم ذلك الحدث، فقد اعتبره العراق خطأً واعتذر عنه وعمّا رافقه رسميا.
- إن عدم الحديث عمّا جرى يوم الثاني من آب لا يعفينا من ضرورة القول إنه "كان خطأ عراقياً رداً على أخطاء كويتية" بمعنى أن تاريخ العلاقات بين الكويت والعراق لم يبدأ يومها بل أن هناك الكثير مما سبقه ويجب أن يكون كل ذلك في الحسبان عند مناقشة حدث الثاني من آب وتوابعه، وقد دفع العراق أثماناً باهظة على هذا الخطأ، أثماناً باهظة من دمائه وأمواله ومن فرص نهضته وتطوره وغير ذلك كثير.
- إن الأخطاء الأقدم تاريخياً أولى بالمعالجة حتى لا تتراكم عليها أحداث تُحيلها إلى كوارث تصعب معالجتها فيما بعد أو تكون المعالجة بتكاليفٍ جسيمة.
- إن هدف المقال بالدرجة الأساس تثبيت وتوضيح حقوق العراق أمام شعبه، وأمام أي منصف، لتكون حاضرة أمامهم بما يمكّنهم من الدفاع عنها الآن، وعند أي محاولة لاسترداد تلك الحقوق عندما يتعافى العراق ويستردُّ أهله قرارهم، إذ ليس بين المتحكّمين بهذا البلد في هذا الوقت من هو حريصٌ على حقوقه والدفاع عن مصالحه.
والآن إلى التفاصيل: في كل مرة تثور فيها قضية ترسيم الحدود بين العراق والكويت تظهر لدينا ثلاث وثائق ينحصر الحديث فيها، وهذه الوثائق هي ما سنناقشه بموضوعية بالغة، قدر الإمكان، اليوم. لابد أن يكون واضحاً أن الكويت في العهد العثماني كانت مشيخة يدير شؤونها المحلية شيخ، معيّن كموظف حكومي في ولاية البصرة، محصورة داخل سورٍ طيني وهي مثبّتة في السجلات العثمانية على هذا النحو، وهي، كما كل الإقليم المحيط بها، بقعة جغرافية تتبع ولاية البصرة العثمانية، التي تشكّل واحدة من ثلاث ولايات عثمانية تمثل كيان العراق، ثم تأسست منها دولة العراق بسقوط الدولة العثمانية. ولأكثر من اثنان و ستون سنة، وتحديداً منذ سنة 1899 وحتى 1961 بقيت الكويت التابعة لولاية البصرة واقعة تحت الحماية البريطانية بحسب تعهدٍ قدّمه شيخ الكويت مبارك الصباح لممثل المملكة البريطانية، وكان مبارك الصباح طلب تلك الحماية في شهرأيلول من عام 1897 لكن بريطانيا امتنعت عن منحها إياه في البداية ثم عادت ومنحتها له في إطار نزاعها مع الدولة العثمانية، حيث رأت لندن أن التواجد في الكويت من خلال اتفاقية حماية يرجّح موقفها ضد إسطنبول، وبالفعل عقدت الاتفاقية بشكل سري في الثالث و العشرين من شهر كانون الثاني عام 1899 وباتت الكويت محمية بريطانية اسماً وفعلا. [*] والحقُّ أنه منذ ذلك الحين حوّلت هذه الاتفاقيةُ الكويتَ ليس إلى محميةٍ بريطانيةٍ تديرُ لندن كل شؤونها وعلاقاتها مع الإقليم المحيط بها، وخصوصاً الدولة العثمانية، فحسب بل إلى مصدر خطرٍ يهدّد العراق بالغزو والاحتلال أيضا، وهذا ما حدث بالفعل ثلاث مرات على الأقل خلال تسعة عقود.
[*] مع بدء الحرب العالمية الأولى وتحديداً في شهر تشرين الأول عام 1914 أنزلت بريطانيا على شواطئ رأس الخليج العربي جيشاً مؤلفاً من عدة فيالق يضمُّ خليطاً من بريطانيين وهنوداً ضمن ما يسمى جيش الليفي بعد أن سخّر شيخ الكويت أرض المحمية لتكون معبراً للجيش البريطاني في طريقه لاحتلال العراق، وهنا وطأت أرض العراق أقدام أول جندي بريطاني غازٍ ليبدأ الزحف نحو باقي أراضي العراق، حتى تمكنوا بعد معارك شديدة ومقاومةٍ عنيفة من دخولٍ صعبٍ لمشارف لبغداد في شهرآذارعام 1917 ليحتلوا بعدها العراق كله، وهو ذات السيناريو المرير الذي تكرّر في سنة 1941 عندما دخلت قوة بريطانية من الكويت لإخماد ثورة الشعب العراقي حينذاك، كما تكرّر في الغزو الأميركي البريطاني المشؤوم سنة 2003 ولكن على نحوٍ أخطرَ وأعمقَ في تأثيراته الكارثية التي لم تدمّر العراق فحسب بل تعدّته إلى كل الوطن العربي والعالم الإسلامي.وهنا بدأت مرحلة جديدة من حياة العراق وهي وقوعه تحت الاحتلال البريطاني المباشر ثم تحت الانتداب، وبذلك نصل إلى أول الوثائق الثلاث في سياق حديثنا اليوم.أولاً: الرسالة المنسوبة لرئيس الوزراء العراقي نوري السعيد 1932يمكن اعتبار هذه الرسالة بمثابة الأم التي يستند إليها كل ما يليها، ولأنها كذلك ينبغي البحث عنها وفيها وفي تفاصيلها بدقة وبإسهاب وبموضوعية.هذه الرسالة منسوبة لرئيس الحكومة العراقية، الواقعة تحت الانتداب البريطاني، نوري السعيد موجهة إلى المعتمد السامي لحكومة صاحب الجلالة البريطانية في العراق السير فرنسيس هـ. همفريز مؤرخة في الواحد و العشرين من شهر تموزعام 1932، وهي رسالة قصيرة تتضمن وصفاً لخط مبهمٍ ينطلق من نقطة تقاطع وادي العوجة بالباطن ويسير شمالاً وصولاً إلى نقطة في جنوب صفوان ثم يسير نحو الشرق باتجاه أم قصر وجبل سنام.هكذا ورد وصف الحدود بلا إحداثيات ولا خرائط، وهي مستلزمات ضرورية لا غنى عنها في أي ترسيمٍ للحدود، فهل يجوز هذا؟![*] وحينما نقول إنها رسالة مزعومة فإننا نستند في ذلك إلى جملةٍ من الحقائق منها:- إنها مكتوبة باللغة الإنكليزية فقط ومرفقة بترجمة عربية ركيكة.
- إنها تضمُّ مصطلحاتٍ غير صحيحة لا يمكن أن تمرّ على داهية السياسة العراقي حينها نوري السعيد.
- إن الكويت وقتها لم تكن دولة ذات سيادة ولها حدود، وإنما محمية بريطانية، وأن الشيخ مبارك الصباح الذي وقّع على اتفاقية الحماية لم يكن يدير سوى ما هو داخل سور الكويت، وهي مساحة صغيرة محدودة، ولا نفوذ له على ما يقع خارج السور الذي كان يتبع والي البصرة بشكل مباشر.
- إن شيخ الكويت هذا ليس حاكماً، بالمعنى القانوني المعروف لكلمة حاكم بل هو في الحقيقة قائم مقام، أي موظف معيّن، يتبع ولاية البصرة العثمانية التي أصبحت عراقية بعد زوال الدولة العثمانية.
ويؤكد الدكتور محمد مظفر الأدهمي أنه لم يجد في الارشيف البريطاني ما يشير الى وجود رسالة رسمية باللغة العربية موقعة من نوري السعيد، وأن اثنين من طلابه بحثا في موضوع الكويت ولم يتمكنا من العثور على الرسالة بتوقيعه لا باللغة العربية ولا بالإنكليزية، كما ينقل عن السيد ناجي طالب وزير خارجية العراق في عهد الرئيس عبدالسلام محمد عارف قوله إنه بذل كل جهده للبحث في ملفات وزارة الخارجية العراقية عن أصل الكتاب الذي قال البريطانيون إن نوري السعيد قد كتبه بشأن توصيف الحدود مع الكويت سنة 1932 لكنه لم يعثر على أصله.وعندما سعت حكومة العراق، تحت الانتداب، للتخلص من ربقة الانتداب البريطاني ونيل الاستقلال والدخول إلى عصبة الأمم، تقدمت لها الحكومة البريطانية بمطالب لتثبيت حدود العراق مع جيرانه كجزءٍ من متطلبات دخوله عضواً في عصبة الأمم كدولة مستقلة، وحينها ردّت الحكومة العراقية على تلك المطالب بمذكرة لوزارة الخارجية في الخامس و العشرين من شهر حزيران عام 1932.ونقرأ في تلك المذكرة أنها قالت فيما يتعلق بالكويت:[list=color:rgb(30,30,30)][*] إن وضع الكويت لم يتعين من الناحية الدولية تعييناً قانونياً ولذلك فإن حدودها لم تُعرَف بعدُ بالضبط.[*] إن تحديد الحدود يتمّ بموجب اتفاقٍ يُبرَم بين دولتين ذاتي سيادة، ولم يحصل مثل هذا الاتفاق بين العراق والكويت حيث كلٌ منهما ليس دولة ذات سيادة فالعراق تحت الانتداب البريطاني والكويت محمية بريطانية، وبالتالي لا ينطبق هذا الشرط على كليهما.[*] يكون التحديد بين لجانٍ تمثل الدولتين، وعليه فإن قيام أحدهما بوضع علامات على نقاطٍ معينةٍ واعتبارها كإشارة حدود تلتزم بها الدول المجاورة انما هو أمرٌ لم يسبق أن أقرّته قواعد الحدود الدولية مع ملاحظة أن الكويت لم تكن حينها دولة بل مشيخة تحت الحماية.[/list] وجديرٌ بالذكر أن هذه المذكرة صدرت قبل أقلَّ من شهرٍ من الرسالة المنسوبة لرئيس الوزراء نوري السعيد.ولذلك لم يعتمد خط الحدود مع الكويت الوارد في الرسالة المنسوبة للسعيد عندما قدّم العراق وثائقه لنيل الاستقلال والانضمام إلى عصبة الأمم عام 1932، مع ملاحظة أن الفقرة الثالثة في أعلاه تلمّح إلى قيام الكويت بسابقةٍ لم تعهدها القواعد الدولية هي وضع إشارات حدودية من جانبها فقط وتفرض على العراق الالتزام بها، وهو ما سيتكرّر كثيراً في العقود التالية وحتى اليوم.ولو كانت الرسالة المنسوبة لنوري السعيد صحيحة فلماذا لم يُعتمد خط الحدود الوارد فيها كخطّ حدودٍ للعراق عند تقديمه وثائق الانضمام إلى عصبة الأمم وبقيت حدوده الجنوبية غير مرسّمة في وثائق الانضمام؟!ويبدو أن البريطانيين بكتابتهم هذه الرسالة، منسوبة إلى رئيس الحكومة العراقية الواقعة تحت الانتداب، وتوجيهها لأنفسهم أرادوا أن يستبقوا استقلال العراق الذي حدث بعد نحو شهرين وٍسارعوا ليثبّتوا لمحميتهم نصاً يستندون إليه لاحقاً في مخطّطهم لسلخ الكويت كلياً عن العراق فيما بعد، وخلق بؤرة نزاعٍ دائمٍ في المنطقة، ولذلك لم ينتظروا استقلال العراق، بل نسبوا هذه الرسالة إلى رئيس الوزراء العراقي الواقع تحت سلطة الانتداب حيث يمكنهم حينها تمرير ما يشاءون دون أن يحاسبهم أحد.والانتداب كما هو معلومٌ يعني أن تتولى الدولة المنتدَبة، وهي بريطانيا هنا، الإشراف على شؤون الدولة المنتدَب عليها، وهي العراق هنا، وتسيير أمورها لأنها قاصرة عن إدارة شؤونها بنفسها فيما كان الكيان الآخر، الكويت، محمية، وكلاهما تحت التاج البريطاني، بل أن الكيان الآخر حينها لم يكن دولة ولا حتى شبه دولة بل مجرّد محمية مقتطعة من الأرض الأم.مع اعتبار كلّ هذه القرائن التي تطعن في الرسالة المنسوبة لنوري السعيد، فإننا يجب أن نضع الأمر في سياقه الصحيح لا أن ننظر له باعتباره حدثاً معلقاً في الهواء، فالرسالة المنسوبة لرئيس الوزراء نوري السعيد لم تكتب بإرادة عراقية، ولم تكتب والعراق دولة تتمتع بالاستقلال، بل كتبت من قبل جهة بريطانية بإرادة بريطانية وبلغة إنجليزية وبينما كان العراق يقع تحت الانتداب البريطاني، وهي تخصُّ شأناً يتعلق بالكويت التي هي محمية بريطانية، كما أسلفنا في أعلاه.وبعبارة أخرى، فإن هذه الورقة هي رسالة كتبها موظفون بريطانيون يعملون في بعثة بلدهم المقيمة في بلدٍ يقع تحت الانتداب البريطاني وجّهوها إلى المندوب السامي البريطاني المعتمد في ذلك البلد الذي يقع تحت الانتداب البريطاني بشأن حدودِ بلدٍ واقعٍ تحت الانتداب البريطاني مع محميةٍ بريطانيةٍ فأين هو العراق السيد ذو الإرادة المستقلة من كل ذلك؟!لقد كانت الحكومة العراقية حينها مدفوعةً برغبةٍ مُلحّةٍ من جانبها ومن جانب القوى السياسية الوطنية العراقية ومعزّزةً بشعورٍ شعبيٍ وطنيٍ عارمٍ بإنهاء الانتداب البريطاني، والاستقلال والانضمام إلى عصبة الأمم وهو ما حصل في الثالث من شهر تشرين الأول عام 1932، أي بعد شهرين ونصف من الرسالة المزعومة المنسوبة لرئيس الوزراء نوري السعيد.كما أن الحكم الملكي في العراق، الذي كان نوري السعيد رئيس وزرائه المزمن، طالب باستعادة الكويت، كما فعل الملك غازي الذي أسّس لذلك الغرض هيئةً شعبيةً تضمُّ شخصياتٍ عراقيةٍ وكويتيةٍ وأنشأ إذاعة في قصره للتعبير عن مسعاه هذا، ويرى أكثر من مؤرخٍ أن موضوع استعادة الكويت، وليس غيره، هو ما أدى إلى اغتياله.بل أن نوري السعيد نفسه، قبيل مقتله سنة 1958 بأسابيع قليلة جداً، طالب بضمِّ الكويت إلى الاتحاد العربي القائم بين العراق والأردن ليكون اتحاداً ثلاثياً فأين هو اعتبار الرسالة التي يُزعم أنه وجّهها؟! ولماذا لم تردُّ بريطانيا عليه بهذه الرسالة وهو يطالب بانضمام الكويت إلى الاتحاد العربي فتقطع عليه الطريق تماما؟!كما أن أياً من وثائق وزارة الخارجية العراقية طيلة العهد الملكي لم تُشِر سواءً في مذكراتها الداخلية أو في مراسلاتها مع البريطانيين أو غيرهم إلى هذه الرسالة المزعومة، وهذه قرينة أخرى تعزّز الطعن بها.وحتى إذا قال قائل إن المحضر الذي وقّعه العراق والكويت سنة 1963أكد اعتراف العراق بهذه الوثيقة المزعومة فإننا نردّ عليه بالقول إن الكويت تعدّت على منطقة الصامتة التي كانت ضمن التراب الوطني للجمهورية العراقية مستغلةً عدم ترسيم الحدود فاحتلّت مخفر الصامتة القديم المهجور سنة 1967 ثم شرعت ببناء آخر جديد سنة 1973 وهذا ما عقّد الموقف وقتها حيث أزالت قوات الحدود العراقية المخفر الجديد وأبعدت منتسبيه.[*] كما أن العراق خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عاد وتفاوض مرات عديدة مع الكويت حول الحدود، وعرض على الأخيرة ترسيماً بعد توقف الحرب مع إيران في عام 1988، بل أن الكويت نفسها طالبت بترسيم حدودها مع العراق مراراً، ولو كانت قضية الحدود محسومة، حسب الرسالة المنسوبة لرئيس الحكومة العراقية في عهد الانتداب، فلماذا تجاوزت الكويت خط الحدود لاحتلال الصامتة ولماذا طالبت بترسيم الحدود من جديد؟!بل أن الرئيس صدام حسين ورغبةً منه في حسم كل الملفات العالقة مع الكويت عرض على أميرها جابر الأحمد الصباح خلال زيارته بغداد سنة 1989 توقيع اتفاقية عدم اعتداء بين البلدين، فما كان من الأمير إلا أنه رفض ذلك، وهذا تصرفٌ يُخالف كل قواعد المنطق السليم، فالكويت دولة صغيرة ضعيفة والعراق دولة كبرى بقوته المعروفة ومكانته السياسية والعسكرية بعد انتصاره على إيران عام 1988 ومن الطبيعي أن تسعى الدول الصغيرة إلى علاقات طبيعية مع جيرانها الأكبر قائمة على حسن الجوار وعدم الاعتداء لتطمئن نفسها، فلماذا رفضت الكويت توقيع تلك الاتفاقية مع بغداد؟! وهل يُوحي هذا الموقف بأنها كانت تُضمِر للعراق شراً أو انها ضالعةٌ في مخطّطٍ يُحاك ضدّه وتحديداً بعد أن تغيرت خطط الطوارئ الأميركية الخاصة بالحروب في أعقاب انتهاء الحرب الإيرانية العراقية عام 1988 وأضحى العراق فيها هو العدو وليس الاتحاد السوفياتي؟!هذا ما قد يجيب عليه التاريخ في المستقبل بتفصيلٍ أكبر عندما تتكشف الحقائق وتُنشر مزيدٌ من الوثائق، لأننا الآن لا نعرف سوى شيءٍ بسيطٍ عن أربع مناورات نظّمها الجيش الأميركي ضد العراق حينها، ومنها واحدة بقيادة نورمان شوارتسكوف في صحراء الكويت نهاية سنة 1989 لصدِّ عدوان عسكري قادم من الشمال كما قيل وقتها باقتضابٍ شديد، ووقتها لم يكن أيَّ عملٍ عسكريٍ من جانب العراق ضد الكويت مطروحاً ولا وارداً، ولا بوادر تلوح في الأفق بشأنه حتى!ثانياً: التوصيف الأول والوحيد للحدود في الوثائق العراقيةيروي السفير الأميركي ببغداد، وقتئذ، والدمار كالمن أنه عندما أعلن عن قيام الاتحاد العربي بين العراق والاردن في الرابع عشر من شهر شباط عام 1958 أخبره رئيس حكومة الاتحاد نوري السعيد أنه يفكّر بدعوة الكويت للانضمام إلى الاتحاد.وقد أثار الملك فيصل الثاني ورئيس وزراء الاتحاد العربي نوري السعيد ووزير خارجيته توفيق السويدي انضمام الكويت إلى الاتحاد مع وزير الخارجية البريطاني سلوين لويد إلا أن البريطانيين رفضوا.وحينما علمت لندن بفكرة نوري السعيد وجّهت الخارجية البريطانية دبلوماسييها أن يحسبوا حساب استمرار تدفق النفط من الكويت إلى بريطانيا وضرورة المحافظة على ودائع شيوخ الكويت في مصارفها إذا ما طرحت بغداد فكرة انضمام الكويت إلى الاتحاد العربي، كما وجّهت شيخ الكويت أن يحصر حديثه مع الأمير عبدالاله، عند زيارته بغداد، في تحسين علاقات الكويت مع العراق ولا يشير مطلقاً إلى مسألة انضمامها إلى الاتحاد العربي.وعندما أصبح نوري السعيد رئيساً لوزارة الاتحاد العربي وجّهت الدائرة العربية في وزارة خارجية الاتحاد العربي مذكرة سرية للغاية مؤرخة في الخامس من شهرحزيران عام 1958 إلى السفارة البريطانية ببغداد، كونها الجهة المسؤولة عن شؤون محمية الكويت، لدراستها وإبلاغ حكومة الاتحاد عن رأي لندن بشأنها.[*] تبدأ المذكرة المكوّنة من ست صفحات بعرضٍ تاريخيٍ لطبيعة العلاقة مع الكويت منذ العهد العثماني وأهميتها للعراق، وضرورة إيجاد منفذٍ للعراق على الخليج العربي تلافياً للأضرار الاقتصادية التي لحقت به، ومعالجة النشاط المعادي للعراق بعد أن أصبحت الكويت مركزاً للدعايات المعادية التي تستهدف الإخلال بأمنه، وكونها مصدراً لتهديد أمن المنطقة وليس العراق فحسب حيث باتت ملجأً للفارين من العدالة من العراق وغيره من بلدان المنطقة، ثم تؤكد المذكرة السرية أن الاتحاد العربي ترك الباب مفتوحاً لباقي الأقطار العربية للانضمام إليه وكان يتوقع أن تبادر الكويت إلى ذلك لكن حكام الكويت لم يستجيبوا لهذا النداء، مشيرة إلى تهرّب شيخ الكويت من بحث الموضوع خلال زيارته إلى بغداد وافتعاله الأعذار لعدم الانضمام.وتخلُص مذكرة وزارة خارجية الاتحاد العربي إلى تحديد مصير الكويت على وفق أحد الحلّين التاليين:الأول: ضمّ الكويت الى الاتحاد العربي، أي أن تصبح أراضي الكويت بالكامل وكل الجزر التابعة لها في الخليج العربي تابعة للعراق.أما إذا ارتأت الحكومة البريطانية أن تحقيق أمر الانضمام غير ممكنٍ وقتذاك فإن "حكومة الاتحاد العربي تجد نفسها مضطرةً أن تعلن أن جميع الجزر الموجودة في المياه الاقليمية هي من ضمن حدود الاتحاد العربي، وأن خط الحدود يبدأ من نقطة التقاء وادي العوجة بوادي الباطن ويتجه شرقاً بخط مستقيم حتى يصل الى الجهراء على بحر خليج الكويت".والخط الذي تتحدث عنه الوثيقة السرية لوزارة خارجية الاتحاد العربي هو الخط المرسوم باللون الأخضر في هذه الخارطة، وهذا يعني أن نصف أراضي الكويت الحالية من الجهراء وحتى الشمال وكلّ الجزر التابعة لها وحقل الدرّة تتبع العراق، وهذا هو الحل الثاني.[*] وتعرِب الوثيقة عن أمل حكومة الاتحاد العربي أن تتمكن الحكومة البريطانية بعد دراستها لهذه المذكرة أن تُرشد شيخ الكويت إلى اختيار ما هو أصلح له من الحلّين المذكورين أمامه وبالسرعة الممكنة. فإذا ما اختار شيخ الكويت الحل الأول، أي انضمام الكويت إلى الاتحاد العربي فلا يبقى ثمة حاجة لبحث موضوع الحدود. أما إذا اختار الحل الثاني الخاص بالحدود فإن حكومة الاتحاد العربي عندئذٍ على استعداد لعقد معاهدة صداقة وحسن جوار معه.
[*] مذكرة وزارة خارجية الاتحاد العربي في شهر حزيران عام 1958وبالطبع لم يأتِ في هذه المذكرة أيِّ ذكرٍ للرسالة المنسوبة إلى رئيس الوزراء نوري السعيد في شهر تموزعام 1932 ولا حتى على سبيل التلميح.ويؤكد المؤرخ الأدهمي أن هذه هي الوثيقة الحقيقية الوحيدة لتوصيف الحدود من قبل حكومة نوري السعيد. أما عن موقف بريطانيا من هذه المذكرة وتوصيف الحدود فيها فإن هوامش وشروح المسؤولين في وزارة الخارجية البريطانية أوصت بالطلب من العراق سحبها وفي حالة الرفض فستقدم الحكومة البريطانية احتجاجاً على ذلك.وقد أعدّت الحكومة العراقية مذكرة مدعّمة بالوثائق والحجج حول ضرورة دخول الكويت في الاتحاد العربي، وكان مقرراً نشر الوثيقة في الثالث عشر من شهر تموزعام 1958، إلا أن سفير بريطانيا في العراق طلب تأجيل نشرها وأبلغ بغداد موافقة لندن المبدئية على فكرة انضمام الكويت للاتحاد على أن تُدرس تفاصيل ذلك في اجتماعٍ يُعقد في العاصمة البريطانية في الرابع و العشرين من شهر تموز من العام نفسه بين رئيس وزراء الاتحاد العربي ووزير خارجيته من جهة ورئيس وزراء بريطانيا ووزير خارجيته من جهة ثانية، لكن ذلك الاجتماع لم يُعقد بسبب سقوط الحكم الملكي وانهيار الاتحاد العربي في تموز سنة 1958، وكانت هذه آخر خطوة في العهد الملكي بخصوص الكويت.لقد شكّلت مطالبة العراق بالكويت الواردة في رسالة وزارة خارجية الاتحاد العربي مصدر إزعاجٍ لبريطانيا، حتى أن رئيس وزرائها هارولد ماكميلان ناقش موضوع المطالبة العراقية بضمّ الكويت تحديداً مع رئيس الولايات المتحدة دوايت إيزنهاور بتاريخ التاسع من شهر حزيران عام 1958، أي بعد أربعة أيام من رسالة وزارة خارجية الاتحاد العربي، قائلاً إن نوري السعيد أصبح عبئاً![*] وبقية القصة معروفة، فبعد نحو شهرٍ من الاجتماع البريطاني الأميركي، سقط النظام الملكي في العراق وسُمِح للرعاع بقتل الملك فيصل الثاني وبسحل جثتي نوري السعيد والأمير عبدالإله في شوارع بغداد بعد أن كانوا حتى الليلة السابقة يلهجون بذكرهم مصحوباً بألفاظ التفخيم والتقدير!ثالثاً: محضر الاجتماع الكويتي العراقي في بغداد عام 1963في أعقاب ثورة الرابع عشر من شهر رمضان في الثامن من شهر شباط عام 1963 اقتنص الكويتيون ظرف العراق المالي الصعب، وواقعه السياسي المتأزّم وما كان يعصف به من مظاهر عدم استقرارٍ سياسيٍ جرّاء الصراع بين أجنحة الحكم غير المتجانسة، واستغلّوا المشاعر القومية الوحدوية التي كانت سائدة وقتذاك بعد إسقاط حكم عبدالكريم قاسم الذي تميز بالمذابح الشيوعية وانتشار المدّ الشعوبي بالضد من التوجهات القومية والوحدوية لشعب العراق، استغلوا كل ذلك فأوفدوا رئيس وزرائهم وولي العهد الشيخ صباح السالم الصباح إلى بغداد على رأس وفدٍ ضمّ وزيري الداخلية والتجارة ووكيل وزارة الخارجية للتباحث مع المسؤولين العراقيين واستكشاف رأيهم بشأن الكويت في أعقاب الإطاحة بقاسم الذي كان أرسل جيشه إلى الحدود الجنوبية لاستعادة الكويت في حزيران/ يونيو 1961.[*] وأسفر عن تلك الزيارة توقيع محضر اجتماعٍ مع رئيس الوزراء العراقي اللواء أحمد حسن البكر بحضور وزيري الداخلية والتجارة ووكيل وزارة الخارجية. وتضمّن المحضر في أولى فقراته، بعد ديباجة طويلة، اعترافاً من العراق باستقلال دولة الكويت بحدودها المبيّنة في الرسالة المنسوبة لرئيس وزراء العراق، في فترة الانتداب، نوري السعيد.[*] محضر اجتماع عام 1963تكشف القراءة الموضوعية لهذا المحضر عن كونه محضراً لاجتماعٍ سادته العواطف وطغت عليه الشعارات والعبارات الإنشائية وليس اتفاقاً قانونياً محكماً بين دولتين، فالاتفاق أبرم بالضدّ من مواقف العهد القاسمي البائد تجاه الكويت قبل إشراق ثورة رمضان المباركة" ورغبة من العهد الجديد في إزالة "كل ظلٍّ لتلك الجفوة التي اصطنعها العهد السابق في العراق كما جاء في ديباجته.وفضلاً عن كونه حافلاً بالشعارات فإن الحقيقة الصارخة تكشف لنا أن هذا المحضر لا قيمة قانونية له على الإطلاق لعدة أسباب منها:- إن قانون المعاهدات في العراق، وفي دول أخرى كثيرة، يفرض مصادقة الجهة التشريعية في البلاد على أية اتفاقية لتكون نافذة، ووقتها كانت السلطة التشريعية في عهدة المجلس الوطني لقيادة الثورة بحسب الدستور النافذ حينها، وحيث أن هذا الاتفاق لم يحظَ بمصادقة المجلس المذكور فهو اتفاق غير قانوني.
- إن رئيس الجمهورية حينها عبدالسلام محمد عارف لم يُصادق على المحضر لكي يصدر عن رئاسة الجمهورية بصيغة قانون.
وهذا يعني أن هذا الاتفاق بقي حبراً على ورق ولا قيمة قانونية له حتى وإن أودعته الكويت في الأمم المتحدة من جانبها فقط، ذلك أن هناك قاعدة ضمنية في القانون الدولي العام مفادها أن من واجب كل دولة تبغي إبرام معاهدة أن تتأكد من كون مفاوض الطرف الآخر في المعاهدة يُراعي في عمله ما ينصّ عليه دستور دولته في هذا الخصوص، وهذه القاعدة تؤكد حق الدول المتفاوضة في تدقيق وثائق التخويل بالتفاوض عند التفاوض وتدقيق وثائق التخويل بالتوقيع عند التوقيع، كما أن لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة رغم إقرارها بصحة المعاهدات المصدّقة بشكل ناقص إلا أنها وضعت قيداً على هذا الإقرار مفاده إذا كان الرضا المنسوب إلى دولة ما قد وقع مخالفاً لحكم دستوري ظاهر ومعلوم في تلك الدولة فإن المعاهدة تعتبر باطلة لأن المعاهدات التي لا تتفق وأحكام دستور الدولة المعنية باطلة.رابعاً: قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 833في أعقاب أحداث الثاني من شهرآب عام 1990 أصدر مجلس الأمن الدولي بضغطٍ أميركي بريطاني ورشى سعودية وكويتية، ومن أطرافٍ أخرى، أصدر سلسلةً طويلةً من القرارات المتعسّفة ضد العراق، بدءاً بالقرار 660، لكن أهمها وأخطرها هو القرار ذي الرقم 687 الصادر في الثالث من شهر نيسان عام 1991، والذي صدر تحت الفصل السابع لتثبيت حالة وقف إطلاق النار بين العراق والتحالف.وعندما نقول إنه أخطر القرارات فلأنه يضع العراق تحت طائلة التهديد باستئناف العدوان عليه إذا رفضت بغداد أي بندٍ من بنوده الكثيرة جداً، ولأنه يجمع كل شيء صدر قبلاً ضد العراق ويمهّد لكل شيء صدر لاحقاً ضده فإنه يوُصف بأنه أم القرارات.في هذا الخصوص علينا بدءاً أن نسجّل أن هذا القرار مخالفٌ للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة، حيث يحتوي على نحو عشرين فقرة تخالف الميثاق وتخرق القانون الدولي بشكلٍ صريح.[*] إن الحديث عن موافقة العراق على هذا القرار الظالم دون إدراك طبيعة الظروف الذاتية والموضوعية التي أجبرته على الموافقة موقف مبتسرٌ وبعيدٌ عن الموضوعية، وربما متحاملٌ أيضاً، وفي كل الأحوال لا يجوز البناء على تلك المواقف القاصرة وغير الموضوعية والمتحاملة.وافق العراق على هذا القرار، الذي يهدّده باستئناف العدوان العسكري عليه، وهو في وضعٍ كارثي على جميع الصُعُد بعد الحرب الشاملة والمدمّرة التي شنّها التحالف الثلاثيني عليه والتي دامت أكثر من اربعين يوماً وما تلاها من أحداث صفحة الخيانة والغدر التي نفّذتها عناصر المخابرات الإيرانية والحرس الثوري وعملائهما في العراق والتي فاقمت تأثيراتها الكارثية من تأثيرات الحرب، بل فاقتها.كان مجلس الأمن الدولي قد خوّل بموجب قراره ذي الرقم 678 المؤرخ في التاسع و العشرين من شهر تشرين الثاني عام 1990 الدول المتعاونة مع الكويت باستخدام جميع الوسائل اللازمة لدعم وتنفيذ القرار ذي الرقم 660 لسنة 1990 وجميع القرارات اللاحقة، ذات الصلة، وإعادة السلم والأمن في المنطقة إلى نصابهما، ومع كون القرار ذي الرقم 678 لا يشير صراحةً إلى العمل العسكري ضد العراق لكنه يلمّح له، إلا أنه في حقيقة الأمر صدر خلافاً لميثاق الأمم المتحدة، إذ أن الفصل السابع الذي صدر القرار بموجبه يفرض إجراءات معينة للتعامل مع حالاتٍ مثل حالة العراق والكويت حينها، وهي إجراءات لا تتفق إطلاقاً والتخويل الوارد في القرار، كما أنه يقضي بتنفيذ تلك الإجراءات على وفق آلياتٍ محدّدة وليس مثلما جاء في القرار، ويشترط الفصل السابع أن يكون تنفيذ تلك الإجراءات تحت سلطة مجلس الأمن الدولي وعَلَم الأمم المتحدة ولا يسمح بتخويل دولةٍ ما أو مجموعة دولٍ بعملٍ عسكري.ومع كل تلك الانتهاكات الجسيمة للميثاق والقانون الدولي في إصدار القرار نجد أن الولايات المتحدة وبريطانيا على نحوٍ خاص تعسّفتا في استخدام القوة العسكرية حيث أفرطتا، على نحوٍ مقصودٍ، في استخدامها لأغراضٍ لا علاقة لها أبداً بقضية إخراج العراق من الكويت مما أدى إلى إلحاق دمارٍ شاملٍ وتامٍ بكلِّ مناحي الحياة في العراق. في هذه الظروف المأساوية وافق العراق على القرار 687 لسنة 1991.ومع أن ظروف بغداد حينها أرغمتها على القبول بالقرار إلا أنها ثبّتت تحفّظاتها وملاحظاتها عليه في رسالة مطوّلة وتفصيلية بعث بها وزير خارجية العراق أحمد حسين إلى الأمين العام للأمم المتحدة وإلى رئيس مجلس الأمن بتاريخ السادس من شهر نيسان عام 1991 تضمّنت كل اعتراضات بغداد على القرار، واختتمت بالقول في الوقت الذي يُسجّل فيه العراق هذه الملاحظات المبدئية والقانونية والشرعية.. يجد نفسه أمام خيار واحد لا غير هو القبول بهذا القرارذلك لأن هراوة التهديد باستئناف العدوان العسكري كانت مُشهرةً بوجهه.إن تثبيت هذه الملاحظات المبدئية والقانونية والشرعية لم يكن من باب إسقاط الفرض أو من قبيل الدعاية الإعلامية بل من باب تثبيت حقوق العراق غير القابلة للنقض كدولةٍ ذات سيادة أولاً، ولتذكير المعنيين في الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن بحقيقة أنه إذا كانت ظروف العراق الكارثية وقتذاك قد أجبرته على القبول بالقرار فإن تحسّن أوضاع العراق في المستقبل يعني بالتأكيد التفاوض عليها مجدداً، وربما رفضها كلياً، ثانيا.
[*] وفي هذا السياق الموضوعي ذاته ينبغي النظر إلى تعامل العراق مع قرار مجلس الأمن ذي الرقم 833 الذي اعتمد بالإجماع في السابع و العشرين من شهر أيارعام 1993، فهو منتجٌ جانبي للقرار 687. لقد صدر هذا القرار استناداً إلى كل ما كان مجلس الأمن قد أصدره من قرارات ضد العراق وأهمها القرار 687، الذي قلنا إنه أخطر القرارات وإنه مخالف للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة، وصدور القرار 833 على هذا النحو يعني أنه يهدّد العراق بعودة العدوان العسكري ضده مجددا.[*] ومع ذلك، فالعراق لم يقبل بالقرار عند صدوره، بل بقي متمسّكاً بموقفه الثابت في رفضه طيلة سبعة عشر شهراً، ومع ازدياد الضغوط عليه حرّك قواته نحو الجنوب مرة أخرى في سنة 1994 وكادت أزمة جديدة أن تنشب، مما دفع الرئيس الروسي بوريس يلتسين إلى إرسال وزير خارجيته أندريه كوزريف مبعوثاً شخصياً إلى الرئيس صدام حسين الذي التقاه في الثالث عشر من شهر تشرين الأول عام 1994، وصدر عن اللقاء بيان مشترك تضمّن، من بين فقرات عدة، ما يأتي:[list=color:rgb(30,30,30)][*] الإعلان عن إتمام العراق نقل قواته إلى مواقع في الخلف بعيدة عن الكويت.[*] استعداد العراق لأن يحلّ بشكل إيجابي مسألة الاعتراف بسيادة الكويت وحدودها التي تقرّرت بموجب القرار 833 لسنة 1993.[*] تتعهد روسيا بتأييد البدء بتشغيل نظام الرصد طويل الأجل طبقاً للقرار 715 لسنة 1991، على أن تُرفع كل قيود الحصار المفروض على العراق بصورة كاملة وبدون شروط إضافية خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر، فضلاً عن تعهد روسي برفع الجزاءات الأخرى المفروضة على العراق تباعا.[/list] وفي خطوة تالية لهذا البيان العراقي الروسي المشترك صدر قرار عن مجلس قيادة الثورة وآخر عن المجلس الوطني أكدا قبول العراق بالقرار 833. بعبارة أخرى كانت موافقة بغداد على القرار 833 في إطار صفقة تعهّدت بها موسكو لرفع الحصار عن العراق لكنها لم تلتزم بتنفيذها.وحتى تتضح كلياً صورة موقف العراق من إجراءات اللجنة الأممية لترسيم الحدود أمام القارئ نشير إلى أن الممثل الدائم للعراق في الأمم المتحدة السفير عبد الأمير الأنباري وجّه إلى الأمين العام للمنظمة الدولية رسالة بتاريخ الأول من شهر حزيران عام 1992 نقل بموجبها رسالة وزير خارجية العراق أحمد حسين حول القرارات التي اعتمدتها اللجنة التي عيّنها الأمين العام بشأن مسألة الحدود بين العراق والكويت والتي قررت بموجبها ترسيم الحدود البرية.وتتضمن الرسالة التي جاءت في سبعة و اربعين صفحة تفاصيل كاملة عن انتهاكات اللجنة الأممية لترسيم الحدود، وعرضاً لواقع المشاكل بين العراق والكويت، وتختتم بتأكيد العراق على أنه من اللازم أن يكون هناك موقف كويتي عراقي رافض لأن رسم الحدود بين أيَّ دولتين لا يكون إلا بموافقة الدولتين كليهما، وإلا فإن أي حدودٍ ترسّم رغم أنف أيَّ واحدٍ منهما تكون بمثابة القنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في كل حين، إضافة إلى أن الاتفاق، مهما كان، لابد أن يتم على أساسٍ من العدالة والاعتماد على الوضع التاريخي السابق.[*] ويقيناً فإن ما فرضه مجلس الأمن من ترسيم حدودٍ على العراق كان مشروعاً تقدمت به بريطانيا لمجلس الأمن لتثبيت وضع الكويت كدولة بحدود معينة بعد أن كانت لندن صنعت منها دولة دون تثبيت حدودها، في مطلع عقد الستينيات من القرن المنصرم باعتراف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق أدوارد هيث.لقد فرضت أميركا على مجلس الأمن بتحريضٍ بريطاني أن تشيرالى الفقرة ثانياً من القسم ألف من القرار 687 إلى المحضر المتّفق عليه بين دولة الكويت والجمهورية العراقية بشأن استعادة العلاقات الودية والاعتراف والأمور ذات العلاقة الذي وقّعاه ممارسة منهما لسيادتهما في بغداد في الرابع من شهر تشرين الأول عام 1963 وسُجّل لدى الأمم المتحدة بحسب ما ورد في نص القرار، والحقيقة أن هذا تدليس كبير وافتراء بيّن، فكما قلنا إن هذا المحضر غير قانوني ولا قيمة له لأنه لم يكتسب الصيغة القانونية والدستورية في العراق، ولكونه كذلك فإنه لم يُسجّل لدى الأمم المتحدة، فلماذا فعلت لندن ذلك؟ وكيف؟كانت بريطانيا قد انتبهت إلى أن الفقرة ثانياً من المشروع الأميركي للقرار 687 الذي قُدّم إلى مجلس الأمن ووزِّع على أعضائه نهاية شهر آذارعام 1991 مخالفة لميثاق الأمم المتحدة وللقانون الدولي اللذين لا يجيزان فرض ترسيمٍ للحدود على دولةٍ ما، لذا لجأت إلى خديعة كبيرة، حيث أوعزت إلى ممثل الكويت الدائم في الأمم المتحدة محمد أبوالحسن بتقديم صورةٍ من محضرعام 1963 إلى الأمين العام للأمم المتحدة ليقدّمها إلى مجلس الأمن بوصفها وثيقة من وثائق المجلس، وهو ما فعله أبوالحسن في الثاني من شهر نيسان عام 1991 تمهيداً لإصدار القرار 687 في اليوم التالي مباشرة. وحتى تُحكم لندن الأمور أكثر في المجلس فإنها لم تُشِر في هذه الفقرة إلى الرسالة المنسوبة لرئيس الوزراء العراقي الواقع تحت الانتداب نوري السعيد في شهر تموزعام 1932 بل تحدثت فقط عن محضر اجتماع شهر تشرين الأول عام 1963 لأن العراق في ذلك العام كان دولةً مستقلة كاملة السيادة وليس تحت الانتداب كما كان في سنة 1932، إذ قد يتذرّع أحد أعضاء المجلس بأن العراق في عام 1932 لم يكن مستقلاً، ولكن رغم الخبث الإنكليزي المعهود فقد فات الدبلوماسية البريطانية أن محضرعام 1963 غير قانوني أصلاً، ولعلها كانت تعرف ذلك لكنها مارست تدليساً متعمّداً على مجلس الأمن، وهو التدليس الذي سمح بإدراج الفقرة ثانياً من القرار 687.وبصرف النظر عن كل شيء، فالمؤكد أن ما فرضه مجلس الأمن فرضٌ باطلٌ منذ البداية، لأنه بالأصل مخالف للقانون الدولي الذي لا يسمح للمجلس بفرض حدودٍ على دولتين، حيث أن ترسيم الحدود بين الدول يكون بالتفاوض المباشر بين الدول المعنية كما جرت العادة، أو باللجوء إلى التحكيم الدولي كما حدث في حالات نزاعٍ عديدة، ذلك أن فرض الحدود على دولة تمرّ في فترة ضعف يعني ضمنياً أن الدولة المعنية سترفض ما أٌجبرت عليه بالقوة وتحت التهديد عند استردادها عافيتها مما يؤدي إلى حدوث نزاعات جديدة.وفضلاً عن كل ما تقدم، فإن إبرام دولةٍ ما لاتفاقية من أي نوع أو خضوعها لها لا يعني بقاءها تحت ربقتها إلى أبد الآبدين، فالاتفاقيات ليست صكَّ عبوديةٍ دائمةٍ ولا نصوصاً مقدسة، بل هي وثائق بشرية قابلة للنقض عندما تختلف الظروف الموضوعية أو الذاتية للدولة التي أبرمتها أو للطرف أو الأطراف المقابلة لها، والتاريخ مليءٌ بالشواهد على ذلك بما لا يُحوِجُنا إلى سرد.هذه هي قصة الوثائق الثلاث التي يجري تداولها كلما دار حديثٌ بشأن ترسيم الحدود بين العراق والكويت، وهذه هي قصة القرارات الدولية وملابساتها، وكيف صدرت؟ ولماذا قبل بها العراق؟ وكيف؟ ومتى؟ وعلى شعب العراق والمنصفين في كل مكان أن يفهموا كلَّ ذلك ويضعوه في حسبانهم وهم يتعاملون مع هذه القضية الشائكة لكي يتمكنوا من الدفاع عن حقّهم الآن، واستحصاله عندما يستطيعون ذلك في أول فرصة تسنح لهم مستقبلا.والله الموفق والمستعان [/list] | |
|
لطفي الياسيني معلومات إضافية
الأوسمة : المشاركات : 80306 نقاط : 715287 التقييم : 313 العمر : 118 | موضوع: رد: دراسة معزّزة بوثائق تنشر لأول مرة الحدود بين العراق والكويت.. رؤية سياسية قانونية مصطفى كامل الخميس 24 أغسطس 2023 - 1:46 | |
|
| اقف اجلالا لعبق حروفك وابحارك في مكنونات الذات الانسانية فاجدني عاجزا عن الرد حيث تسمرت الحروف على الشفاه جزيل شكري وتقديري لما سطرت يداك المباركتان من حروف ذهبية دمت بخير |
| |
|