ختم الأمير الكاهن ازكور- مردوخ ابن كرينداش ملك بابل الكاشي
بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2023
ختم الأمير الكاهن ازكور- مردوخ
ابن كرينداش ملك بابل الكاشي
ختم اسطواني ملكي للأمير الكاهن ازكور-مردوخ، نقش فيه الإله القومي الكاشي شوكامونا، واسم كرينداش ملك بابل
يعد الختم الأسطواني الملكي للأمير الكاهن ازكور-مردوخ (Izgur-Marduk) أقدم ختم معروف حتى الآن، ويؤرخ إلى عهد الدولة الكاشية في بابل، ويحمل اسم إله الحرب الكاشي شوكامونا، وهو من مقتنيات متحف نيويورك (CBS) تحت رقم 1198، منذ 30 ايار عام (1895)، وهذا الختم الاسطواني يعود إلى الأمير إزكور- مردوخ ابن الملك كرينداش ملك بابل الذي حكم حوالي عام (1450) ق.م، وهو مهم جدا تاريخيا وفنيا وحتى لعلم الآثار، ويحمل الختم نقش باللغة السومرية الاكاديمية مع العلم توقف استخدام اللغة السومرية منذ قرون عدة، وفيما يلي ترجمة الكتابة المسمارية:
dŠu-ga-mu-na
umun pa-è
ḫa-zu-ta ḫe-nir
aš me-zuḫu-sig
Iz-gur il Marduk
dumu Ka-ra-in-da-[aš]
išib ni-tuk-zu
شوكامونا
الإله الحاذق
بدعمه نتقدم بقوة
من خلال حكمه نزدهر
إزكور- مردوخ
ابن كرينداش
المخلص يحترمك
صنع الختم الأسطواني من العقيق ذو اللون البني، وبقياس( ½ 34 مم X 15 مم)، ومكان اكتشافه غير معروف، فقد تم شراؤه مع (16) ختم اسطواني آخر من عدة أشخاص مختلفين وبشكل رئيسي من بائع الخبز (Khabaza) في بغداد، نقش على الختم سبعة أسطر مسمارية مع (14) شخصية موزعة في سجلين، و (5) مجموعات متشابهة إلى حد كبير تمثل إله الحرب شوكامونا، ومع المتعبد (صاحب الختم)، والإلهة الوسيطة شوماليا .
حتى يومنا هذا لا يُعرف سوى أربعة اختام اسطوانية ملكية تعود للعهد الكاشي، وجميع الاختام الاخرى اقل زمنيا من هذا الختم بحوالي قرن واحد، وقد نُقش عليهم أسماء الملوك كوريكالزو(Kurigalzu) وبورنابورياش (Burnaburiash)، علاوة على ذلك، فإن ثلاثة من هذه الاختام الاسطوانية من أصل أربعة تحمل أسماء خدم أو كبار المسؤولين في خدمة الملوك (وهي من مقتنيات متحف متروبوليتان في نيويورك)، اما الختم الرابع عليه نقش باسم أحد أبناء الملك كوريكالزو الأول وهو شيريشتي (Shirishti) الحاكم (جاكاناكو) (gakkanakku) بمعنى (المفوض الأعلى) (وهو من مقتنيات المكتبة الوطنية في باريس)، أما الختم اعلاه فقد نقش فيه ثلاث اسماء وهي :
1- الاسم الأول: شوكامونا (Šuqamuna) وهو إله الحرب والجبل عند الكاشيين حكام بابل، ويمكن مساواته مع إله بلاد الرافدين نركال (Nergal) وتخصصه الحرب والوباء ويطلق عليه (ملك الغروب) ومع الوقت تطور نركال من إله حرب إلى إله العالم السفلي، وكان معبدُه الرئيس في كوثى (بالسومرية كودوا، وتسمى حاليا تل إبراهيم، ويظن أنها مكان مولد نبي الله ابراهيم عليه السلام وكذلك يعتقد في الموقع نفسه تم القاء ابراهيم في النار)، على العموم بالنسبة إلى أصل ومعنى اسم الإله شوكامونا نجد شك شديد في اصل اسمه على اساس انه كاشيتي (Caššite)، فبعض الباحثين يرى ان أصل الكلمة هندو- أوروبية من السنسكريتية (Sanskrit): (شوكامانا) (Šucamana)، و (شوكاميما) (Šocamima) ويعطي معنى (حرق واحد)، و (رثاء واحد)، و (محزن واحد)، ويفضل البعض الآخر الاشتقاق السامي (الجزري) للاسم، كما ورد اسم شوكاموناتيم (Šu-ka-mu-na-tim) كاسم جغرافي في وثيقة من مملكة ماري (تل الحريري في شرق سورية)، ومن رأي الباحث (Pardee) فان الاسم له علاقة ربما بجبل الشيخ (جبل بين سوريا ولبنان وفلسطين) أو جبال ارمينيا (Armenia)، وذكر الباحث (Lipiński) في معرض حديثه حول نصوص من اوغاريت (رأس شمرا على الساحل السوري للبحر المتوسط) بان هناك اسماء شخصية وردت بصيغة شوكومانا (Šu-ku-ma-na) ، وشوكامانا (Šu-ka-ma-na)، وبخصوص أول ذكر لهذا الإله جاء في نقش للملك الكاشي اكوم الثاني (Agum) أو اكوم كاكرمه (Agum-Kakrime) (1507) ق.م الذي حكم قبل حوالي قرنين من الزمان، وجد في نص آشوري عثر عليه في مكتبة آشور بانيبال في نينوى، حيث أطلق الملك اكوم الثاني على نفسه اسم السليل اللامع للإله شوكامونا، ويعتبر هذا النص مقبول حاليا بانه أول ذكر لهذا الإله في النصوص الملكية الكاشية، كما ذكر اسم هذا الإله على كودورو (kudurru) أو (حجر الحدود) تم اكتشافه في سوسة (Susa) (عاصمة مملكة عيلام في إيران) وينتمي إلى الفترة الكاشية (Caššite)، فنرى من بين الرموز الإلهية المنقوشة على الكودورو تمثيل لسلاح بشكل صولجان وبرأس مربع وعليه اسم [شو-كا]-مو-نا (d[Šhu-ga]-mu-na).
صور الإله شوكامونا في الختم يلبس ثوباً قصيرا يصل للركبتين، ويضع فوقه شال طويل يغطي كتفه الأيسر، ويمسكه باليد اليسرى، بينما يترك الذراع اليمنى عارية لا يمسك سيف أو صولجان أوعصا، ومن الخطا ان نعتبر الشكل في الختم يمثل الإله مردوخ، فدائما كان يمثل الإله مردوخ يمسك بيده اليمنى سيف ملتوي، وهو السلاح الخاص الذي يرافق مردوخ، والأمر اللافت للنظر أنه لا أحد من شخصيات الإله الستة في الختم يحمل السيف، اما عمامة الإله شوكامونا فهي ليست مثل تاج الإلهة المزين بعدة أزواج من القرون، انما في أقصى الأحوال زوج واحد من القرون دليل الالوهية، تماما مثل تمثال نابو (Nabu) (إله الحكمة ونابو هو ابن مردوخ) الشهير المكتشف في نمرود.
ترتدي الإلهة شوماليا والمتعبد(وهو ازكور-مردوخ صاحب الختم) ملابس وفق الطراز البابلي الأكثر قبولا في تلك الفترة، فنرى ملابس الإلهة ثوب عريض، وتعتمر تاج عالي بقرون، بينما يرتدي الشخص المتعبد(وهو ازكور-مردوخ) شالا ذو شراشيب وعمامة مستديرة، وكلاهما (الإلهة والمتعبد) لهما نفس إيماءة التعبد التي يتم التعبير عنها من خلال رفع اليدين إلى مستوى وجههما (كما نفعل نحن حاليا في الدعاء وقراءة سورة الفاتحة)، ومن المعروف ان الإلهة شوماليا (Shumalia) زوجة الإله شوكامونا وهي إلهة الكاشية، وتُعرف بانها سيدة الجبال المضيئة المكسوة بالثلوج، الساكنة في الأعالي، والتي تتدفق من تحت خطواتها الينابيع، ربما هي الإلهة التي ترتدي ثوبا عريضا في الختم، فكلاهما (شوكامونا وشوماليا) يطلق عليهما آلهة حماية الملك وأراضيه، وآلهة الحرب الذين يدافعون عن المعاهدات، ويعاقبون من يخالف القانون أمام الملك ونبلاءه، ويوقعون عليه المصائب والكوارث، واحتلت تلك الآلهة الكاشية مرتبة في الطقوس البابلية، وتم استدعاؤها في احتفالات التطهير.
2- الاسم الثاني: في الختم الاسطواني هو كرينداش (Karaindash) ملك بابل (1420-1410) ق.م من اكثر الملوك الكاشيين بروزا في سلالته، وعثر على لوح نقش عليه الالقاب (الملك القوي، ملك بابل، ملك سومر وأكد، ملك الكاشيين، ملك كاردونياش(بمعنى بابل)...) وهو لقب مبالغ فيه، وتم العثور على اسمه لأول مرة مختوما على الآجر، ومن مشاريعه العمرانية ترميم معبد إنانا في اوروك (Uruk) المعروف باسم (بيت السماء)، حيث أقام واجهة رائعة بارتفاع (250) سم تحتوي على أحد عشرا سطرا بنقوش سومرية مكرسة للإلهة إنانا، ومشاهد تصور الآلهة الذكور والاناث يحملون أباريق الماء والأشكال الرجالية ملتحين ويعتمرون قبعات مقرنة، وبين كل إله وإلهة جدولين ماء ربما يقصد بهما دجلة والفرات، وبقي هذا المعبد قائما حتى العصر السلوقي وعثر على بقاياه خلال تنقيبات عام (1928-1929) من قبل بعثة المانية، ونقلت أجزاء من الواجهة إلى المانيا حيث تم إعادة تجميعها هناك، وبقي جزء من الواجهة في متحف بغداد وقد سرقت هذه الواجهة خلال عمليات السلب والنهب التي تعرض لها متحف بغداد في حرب الخليج الثانية عام (2003) ومنذ ذلك الحين أختفت.
وعلى الصعيد الخارجي عقد معاهدة مع اشور-بيل-نشيشو (Ashur-bel-nisheshu) الملك الاشوري الذي استلم العرش حوالي (1420) ق.م وتم ترسيم الحدود بينهما وكان الاشوريين في وقتها تحت نفوذ المملكة الميتانية، كما ويعتقد بانه الملك البابلي الذي أرسل الهدايا من حجر اللازورد إلى تحتمس الثالث فرعون مصر اثناء حملته للسنة الثامنه ضد مملكة ميتاني، كما ورد في حوليات تحتمس الثالث، وجاء في رسالة (عمارنة 10) بان كرينداش أول من دخل في علاقات ودية مع مصر، إضافة إلى حوليات تحتمس الثالث المدرجة على الجدران الداخلية للممر الذي يحيط بالحرم الجرانيتي في معبد آمون الكبير في الكرنك حيث سجلت الهدايا من بابل أحدهما كانت على شكل رأس كبش من حجر اللازورد.
ليس من الواضح أيضا أن حكام الكاشيين لم يتركوا مقر إقامتهم الجبلي والاستقرار في مدينة بابل ، ربما حكموها عن بعد من خلال ولاتهم، ولكن انتعاش وجاذبية بابل أرض الثقافة القديمة والترف والغنى كان سريعا وقويا للغاية، ويبدو أن هذا يؤدي إلى استنتاج طبيعي مفاده أن الملك كرينداش كان أول حاكم كاشي يستقر فعليا في بابل، وأول من طور علاقات رسمية مع مصر، ومع الجارة المتنامية الدولة الآشورية، وربما علاقات دبلوماسية مع ملوك ميتاني وملوك خاتتي، وأطلق الملك كرينداش على نفسه القابا عدة من ضمنها (ملك الكاشيين) ولكن في عهد خلفائه تم حذف لقب (ملك الكاشيين)، ونلاحظ في الختم ان ابنه صاحب الختم يحمل اسما بابليا بحتا، فمعنى ازكور-مردوخ \(هوالذي ناشد مردوخ) ربما لكسب ود البابليين (كما يفعل المهاجرين العرب حاليا إلى الدول الاوربية باطلاق اسماء على ابنائهم تلائم النطق الاجنبي)، وبنفس الطريقة كان على الإسكندر الكبير المقدوني أن ينسى فضيلته وتقاليده اليونانية وسط روعة وترف وغنى بابل، فاستقر ومات فيها.
3- الاسم الثالث: هو صاحب الختم الاسطواني إزكور- مردوخ (Izgur Marduk) ابن كرينداش، من المحتمل جدا أنه ليس أخا للملك كدشمان-خربه الأول (Ka-da-áš-ma-an-Ḫar-be) الذي حكم بعد كرينداش عام (1400) ق.م انما هو ابن الملك كرينداش الكبير، وعرف عنه بانه كاهن إله الحرب شوكامونا الذي يعتبر الحامي الوطني لشعب وسلالة الكاشيين، ومن اللافت للنظر أن ازكور-مردوخ اسم بابلي ويعطي معنى كما اسلفنا (هو الذي ناشد مردوخ)، والاسم يدل على ابتكاره كصلاة للإله مردوخ إله بابل العظيم، أن اسم ازكور-مردوخ ليس بغريب فقد عثر على ألواح طينية ورد فيها أسماء مركبة مثل إزكور- شوكامونا، كما عثر على وثائق طينية من نفس الفترة فيها ستة اسماء إزكور-مردوخ وجميعهم اشخاص مختلفين لا علاقة لهم بالملك كارينداش، ومن خلال الختم يظهر ان ازكور-مردوخ يعمل بمنصب رئيس كهنة للإله القومي الكاشي شوكامونا، ويمكن القول ان الأمير إزكور- مردوخ ليس مجرد أمير ابن كرينداش فحسب بل هو أيضا مُخلص (إيسيبو) (isippu) كاهن للإله شوكامونا، وعليه التزامات دينية، فمنذ فجر التاريخ المبكر، كان الملوك السومريين والبابليين والآشوريين حريصين على أداء مراسم العبادة بأيديهم، وسكب السائل المقدس من النبيذ أمام الآلهة، أيضا في القائمة الكاملة للمسؤولين المرتبطين بشخص الإله نينجرسو (Ningirsu) إله مدينة لكش (Lagash)، ووفقا لنصوص جوديا ملك لكش ندرك أن أول كبار الشخصيات في البلاط السماوي هما: الأول كال-اليم (Gal-alim) ابن الإله ننورتا (Ninurta ) (يطلق على الإله ننورتا وريث السماء والأرض) وكان نائبا للإله آنو (ملك السماء)، والثاني دونشاكا (Dunshagga) ابن الإلهة نينا (Nina) (إلهة قديمة جدا في بلاد الرافدين تتمتع بالعديد من القوى، بما في ذلك الشفاء، والسحر، والأعشاب، والتأمل، وتفسير الأحلام) وكان ولدها كاهنا للتطهير والإراقة السائل المقدس، ولكن لا نعرف مدى توافق كل هذا مع المنصب الفعلي لإزكور-مردوخ في بلاط والده كرينداش.
إن الختم الأسطواني المؤرخ للكاهن الامير إزكور- مردوخ ابن الملك كرينداش هي دليل جيد على شهرة الإله القومي شوكامونا نحو عام (1450) ق.م، ويوفر في نفس الوقت اختبارا جديدا لتقدير الفن البابلي في تلك الفترة، ولو تركنا الاشكال في الختم نرى نوعية حجر العقيق الثمين الذي تم قطعه، والخطوط السبعة من النقوش النذرية عليه، ويظهر في الختم الأسطواني للأمير الكاهن إزكور-مردوخ ضمن ست مجموعات من المشهد المبتكر بأفضل أسلوب للفن البابلي، وفي الواقع، إن الختم حل وسط بين اسلوب العهد البابلي القديم واسلوب الكاشي الجديد تماما كما يتعارض الاسم البابلي للأمير إلى حد ما مع وظائفه كرئيس كهنة مخلص للإله شوكامونا، وهذه أفضل حجة لنسب الختم إلى ابن الملك كرينداش العجوز.