مَن أمِنَ العقاب أمعن في الاجرام.. عملية طوفان الاقصى وسياسة الكيل بمكيالين
د. سعد ناجي جواد*
مَن أمِنَ العقاب أمعن في الاجرام.. عملية طوفان الاقصى وسياسة الكيل بمكيالين
يوم امس عرضت احدى الفضائيات حديث لرئيسة المفوضية الاوربية اورسولا فون دير لاين قالت فيه ان قطع الكهرباء والماء والغذاء عن اي شعب هو جريمة حرب بل وجريمة ضد الانسانية، ثم اتضح ان السيدة المصونة كانت تتحدث عن ما تقول ان روسيا تفعله في اوكرانيا. وقبل سبعة اشهر اصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق ألرئيس فلاديمير بوتين بتهمة نقل اطفال اوكرانيين من مناطق الحرب الى داخل روسيا معتبرة ذلك جريمة لا تغتفر، واليوم تقوم الحكومة الاسرائيلية بقطع كل مقومات العيش والحياة عن ابناء غزة (كهرباء وماء وغذاء ودواء) وتقتل بطائراتها ومدفعيتها البرية والبحرية في كل لحظة مئات الاطفال من ابناء غزة، ونفس السيدة وكل المسؤولين الاميركان والاوربيين عندما يسالون عن ذلك يرددون كلاما واحدا هو (حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها). ولم تكلف الجنائية الدولية نفسها ولو تحذير مرتكبي هذه الجرائم بانها ستلاحقهم على افعالهم ومجازرهم. اذا لم تكن هذه ازدواجية في المعايير فماذا تكون اذا.
منذ ان تم خلق اسرائيل قبل 75 عاما وبالطريقة المعروفة لم يتم محاسبتها على اي من الجرائم التي اقترفتها، ابتداءا من حرق القرى وقتل ابناءها وبضمنهم الاطفال، وتسميم ابار المياه وتهجير شعب كامل ومسح هويته ومحاصرة من تبقى وتجويعهم يوميا لمجرد اعتراضهم على الاجراءات التعسفية ضدهم، وامام اعين كل دول العالم، لم يتم معاقبة اسرائيل ولو لمرة واحدة. وعندما كانت بعض الجرائم ترقى الى جرائم ضد الانسانية وترفع الى الامم المتحدة، ويتم ادانة هذه الافعال من قبل كل دول العالم كانت الولايات المتحدة تستعمل حق الفيتو لمنع اي قرار ضدها، وطبعا كانت بريطانيا، الدولة المسؤولة الاولى عن كارثة اغتصاب فلسطين، اما تستعمل نفس الحق او تمتنع عن التصويت.
اما الدول العربية وجامعتهم فلقد دُجِنت الى الحد الذي اصبحت فيه تكتفي بالكلام العلني الذي لا يسمن ولا يغني من جوع وفي الخفاء يتعاون بعض اعضائها مع حكومة العدو. والان اصبح وزراء خارجية بعض الدول العربية يتكلمون بنفس لغة اعداء الامة وبدون خجل او خوف.
ما جرى يوم 7 اكتوبر قلب المعادلة للابد. وهذا ما طار له صواب دولة الاحتلال ومسؤوليها من صغيرهم الى كبيرهم. لقد وجدوا انفسهم مجردين من كل هالة التهريب التي تمتعوا بها لعقود طويلة، وان جيشهم الذين وصف بانه لا يهزم قد هزم في غضون ساعات، ليس من قبل جيش مقابل او من دولة اخرى ولكن من قبل 1200 مقاتل استطاعوا ان يقهروا جبروته ومعه كل اسلحته المتطورة والجدار الذي تبجحوا بانه لا يمكن تجاوزه. وهذا ما يفسر القسوة المفرطة والوحشية التي تتعامل بها آلة التدمير الاسرائيلية مع ابناء غزة. واهم نتيجة ان الجيش الاسرائيلي الذي اعتبرته الولايات المتحدة والغرب القاعدة المتقدمة لحماية مصالحها في منطقة الشرق الاوسط انتهى به الامر ان يستجدي المعونة والحماية ومن القوى التي اعتبرته كلب حراسة متقدم، والان هذه الدول الكبرى على اعتاب ان تتورط في مشكلة وحرب لا تعرف كيف ستخرج منها سالمة، ان تدخلت عسكريا.
جل اهتمام صحف ومحللي الغرب انصب منذ بداية المواجهة على امرين الاول كيف نجح المجاهدين من فعل ذلك والثاني لماذا فشل جيش العدو في التصدي لذلك. ولم يكلف احد نفسه في البحث عن اسباب ما حدث. ولم يقل احد ان التجاوزات الاسرائيلية المستمرة على شعب فلسطين عامة وابناء غزة خاصة، واخضاعهم الى حصار شبه دائم منذ اكثر من عقد من الزمن هي السبب، ولم يقل احد ان ما يجري هو نتيجة طبيعية لحربين مدمرتين تم خلالهما اقتحام القطاع وقتل الالاف من ابناءه، وان كل القسوة والوحشية المفرطة التي استخدمت هي التي خلقت هذا الجيل الذي اعد العدة لمواجهة اراد من خلالها ان يظهر للمتطرفين الصهاينة ان كل قوتهم وجبروتهم هي اوهن من بيت العنكبوت.
يعتقد البعض ان القول بان الايام التي كانت فيها اسرائيل وجيشها العدواني يصول ويجول ويقتل كما يريد ويشرد كما يشاء قد ولت الى غير رجعة بانه كلام عاطفي، وقد يكون كذلك، ويجب ان يكون فيه جزء من العاطفة لكل من يجري في عروقه دم عربي اصيل، ولكنه ايضا لا يخلو من موضوعية. بدليل انه لحد هذه اللحظة منعت صدمة عملية طوفان الاقصى القيادات العسكرية والسياسية الاسرائيلية من استعادة توازنهم، وانهم لجاءوا الى سياسة حرق الارض مع علمهم ان هذه السياسة جربت في مرتين ولم ينجم عنها سوى تقوية عود المجاهدين وتنظيمهم. العقلاء من المحللين الاجانب على قلتهم، والذين لا يستطيعون ان يقولوا كلمة واحدة بدون ان يبدأوا بمهاجمة حركة حماس بأقسى الكلمات، يوكدون ان الهجوم البري لن يكون سهلا. واذا فشل جيش العدو في مواجهة 1200 مقاتل، فكيف سيستطيع هذا الجيش بمعنوياته المهزوزة ان يواجه الالاف من اعضاء الحركة في غزة (هناك من يقدر عددهم ب 30-40 الف مسلح) المستعدون للقتال حتى الموت. واذا ما افترضنا جدلا ان الجيش الاسرائيلي قد استطاع ان يشن الحرب البرية، وهو سيشنها بالتأكيد، فكيف سيبرر العدد الكبير من القتلى الذين سيسقطون من صفوفه، وكيف سينجح هذا الهجوم بتدمير شعبية حركة حماس التي اجتاحت كل مدن فلسطين واصبحت تهدد مكانة ونفوذ السلطة الفلسطينية المهزوزة اصلا؟
هناك من يحاول تخويف حركات المقاومة بالاستعدادات العسكرية الهائلة وحاملات الطائرات المتواجدة والتي ستاتي للمنطقة، وبالتفوق الجوي الاسرائيلي الغربي، ونسي الجميع ان فرنسا قتلت اكثر من مليون شهيد جزائري وانهزمت، وتسببت الولايات المتحدة وبريطانيا بقتل اعداد مشابهة في فيتنام وكوريا وافغانستان والعراق وبالنتيجة خرجتا مهزومتين، ولولا عمالة البعض وتواطؤ دول جوار والسياسات الخاطئة لبعض الانظمة لما استطاعتا العودة الى الشرق الاوسط. والامثلة كثيرة.
خلاصة الكلام ان ما حدث منذ السبت الماضي وما تلاه وما زال يجري قد اسقط والى الابد حاجز الخوف من قلوب ابناء المقاومة الفلسطينية، وارسى قاعدة لتجربة يحتذى بها وجديرة بان تُدرس من قبل حركات المقاومة المحاصرة، وهي بداية جديدة لن تنفع معها كل اساليب القتل والتدمير وسياسة الارض المحروقة. فالعقول التي ابتدعتها ما تزال موجودة، ومثلما بدأت بعض الاصوات الغربية والامريكية تنتقد باستحياء وتحذر من الهجوم البربري الاسرائيلي وما سيؤول اليه من فشل سواء في المجال العسكري او السياسي وحجم الخسائر البشرية الهائلة المحتملة، فان هذه الاصوات ستزداد في الايام القادمة عندما يصبح حجم الكارثة الانسانية فوق ما يمكن ان يتحمله حتى ضمير من لا ضمير له، ولن تردعها كل القوانين التي تصدرها الحكومات الغربية لتكميم الافواه والباسها لبوسات معاداة السامية وكراهية اليهود. واذا كان العالم يريد حقا امنا وسلاما دائمين فعليه ان يجد حلا لقضية فلسطين والسماح لأبنائها بإقامة دولتهم وعلى ارضهم، وغير ذلك من حلول ترقيعية لن تنفع، ومنها مثلا ما قيل ان وزير خارجية الولايات المتحدة يحمله الان والقاضي بتوطين اكثر من مليون شخص من ابناء غزة في قطر والاردن والسعودية ومصر. هذه الاحلام الواهية لن تتحقق، واذا استطاعت بريطانيا والحركة الصهيونية وفي غفلة من الزمن ان تسلب فلسطين فان ابنائها اليوم اقدر من اي وقت مضى في الحفاظ على هويتهم وارضهم واستعادة ما سلب منها وبنفس الاساليب التي استعملتها العصابات الصهيونية قبل اكثر من سبعة عقود. الفرق الوحيد ان تلك العصابات استندت الى روايات مختلقة وحق كاذب والى دعم القوى الاستعمارية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، بينما شعب الفلسطيني والمقاومين العرب بصورة عامة يستندون الى ايمانهم وقدراتهم ووعيهم وانتمائهم لأرضهم وارض ابائهم واجدادهم منذ الاف السنين، وكل تجارب التاريخ اثبتت وتثبت ان اي شعب يعتمد على هذه العوامل سينتصر في النهاية ومهما طال الزمن.
*كاتب واكاديمي عراقي