معاونة القاتل ولا رحمة للضحية
قاسم محمد داود
معاونة القاتل ولا رحمة للضحية
كشفت حملة تدمير قطاع غزة الأخيرة عن ازدواجية فاضحة في تطبيق معايير حقوق الإنسان من جانب الحكومات الغربية والمنظمات الحقوقية الكبرى ذات الشهرة العالمية، فعلى الرغم من أن هذه الحكومات والمنظمات كانت تقود حملات دعائية سلبية ضد الكثير من الدول العربية بدعوى وجود انتهاكات لحقوق الإنسان، إلا أن مواقفها المعلنة من ضرب وتدمير مدينة غزة وقتل المدنيين وتهجير السكان وهي جرائم حرب واضحة، كانت مواقف متخاذلة بل وداعمة أو مبررة للجرائم الإسرائيلية. وتخطت بعض الدول الأوربية مربع تبرير ودعم الجرائم الإسرائيلية إلى مربع الاعتداء عل حق مواطني هذه الدول والمقيمين على ارضها بصورة شرعية في التعبير عن الرأي والتجمع السلمي. ما يمكن اعتباره مشاركة من هذه الدول والمنظمات في تشجيع إسرائيل على ارتكاب المزيد من الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، وتواطؤا في فرض عقاب جماعي على مواطني قطاع غزة المحاصر منذ نحو 16 عاماً. فمنذ السابع من أكتوبر / تشرين الأول صارت حملة الدولة الصهيونية لتدمير غزة وقتل سكانها وتهجير من بقي منهم إلى تيه الصحراء. صارت هذه الحملة بمثابة جهاز كشف الكذب ليرى العالم والمنطقة حقيقة أنفسهم من خلال المأساة التي صنعتها آلة الحرب الجبارة المدعومة بكل القوى الصليبية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
سأذكر هنا عن العالم وأترك المنطقة لأنها مسلوبة الإرادة والقرار أمام جبروت وطغيان الغرب ونظامه الرأسمالي المتوحش. جاء بايدن ومعه وزير خارجيته بلينكن ويعلن بادين عن صهيونيته القديمة التي أعلنها في الثمانينيات، وهو عضو شاب في الكونغرس الأميركي. "لا مفاهيم حاكمة ولا حتى ضمادات جروح"، فقط تأييد غير مشروط لإسرائيل، وبذلك تكون غزة قد كشفت الفجوة بين القيم التي تدعيها أمريكا وبين ممارساتها على الأرض، حيث لم تعد شعاراتها سوى ظلام على أهل غزة وضرب لمستشفياتها، "وتقطيع لأشلاء أطفال بقي بعضها في أحذيتهم الصغيرة" هكذا بدت حقيقة الولايات المتحدة الأميركية التي نصبت نفسها مدافعا عن الحرية وحقوق الإنسان عندما قال بايدن كلمته في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي خلال زيارته الأخيرة إلى تل أبيب، وأوصى نتنياهو بألا تكرر إسرائيل الخطأ الذي ارتكبته أمريكا في أفغانستان، وكان مضمون الوصية: «اقتلوا الفلسطينيين ولا تخطئوا القتل»! هذه وصية انتقام وليست وصية سلام، تبرهن على أن أقوى دولة في العالم، لا تعترف بالقانون الدولي، ولا تعرف القيم الإنسانية، وتدعو إلى البربرية والوحشية تحت شعار «حق الدفاع عن النفس» للمحتل على حساب صاحب الأرض المحتلة، بل إن بايدن يرى أن وصيته واجب يتعين على إسرائيل أن تقوم به، إنه لم يطلب وقف إطلاق النار، ولا فرض هدنة إنسانية، ولا وقف التهجير القسري للفلسطينيين، مع أن تهجير الفلسطينيين في العرف الإسرائيلي هو ترحيلهم من الموت إلى الموت. ولتأييد المعتدي المحتل، فإنه جمع لتأييده أقوى ما في ترسانته العسكرية من عدة وعتاد، بقصد حرمان صاحب الأرض من حق الدفاع عن نفسه، وحرمان أنصاره من الوقوف معه وردعهم.
ما يحدث من مذابح للأطفال في غزة كشفت حقيقة الثقافة الفرنسية لإيمانويل ماكرون وفضحت أن الأخوة الإنسانية والحرية والمساواة مجرد شعارات فرنسية لم تصمد أمام الاختبار الفلسطيني.. ولم يكن فولتير أو مونتسكيو أو روسو إلا واجهات مزخرفة براقة لبيت خرب من داخله.
وألمانيا هي الأخرى التي جاء مستشارها أولاف شولتس إلى المنطقة ليدعم موقف الدولة الصهيونية متجاوزاً أصل الأزمة الحالية وجذورها التأريخية المتمثلة في استمرار الاحتلال الإسرائيلي غي القانوني للأراضي الفلسطينية وتقويضه المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير صيره. وبذلك كشفت غزة للألمان الداعين إلى فكرة ترحيل ونقل أهالي غزة إلى سيناء، أنه ما هو إلا "ترحيل لذنوب ألمانيا التي ارتكبتها بحق اليهود في المحرقة، إلى عالم العرب الذين لم يكونوا طرفاً في ذلك الجرم الذي يمثل عار على الإنسانية في نسختها الألمانية.
أما ريشي سوناك رئيس وزراء بريطانيا صانعة نكبة فلسطين والتي قايضت المال لإدامة حربها بأرض لا تمتلكها وتهجير أهلها وطردهم من بيوتهم، وأقصد أرض فلسطين. جاء سوناك ليبارك القتل والخراب والتهجير مرة أخرى، متجاهلاً المعاناة التأريخية للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، والذي يعيش في أكبر سجن مفتوح في العالم منذ ما يقارب 16 عاماً متصلة، حيث تحاصر إسرائيل قطاع غزة بكل الوسائل وتحد من حرية حركة مواطنيه. وتفرض معاناة يومية على دخول السلع والبضائع، مما يجعل أهالي غزة يعيشون في أزمة مستمرة في الإمداد بالخدمات والوصول لفرص العمل وتأمين احتياجاتهم المعيشية. لقد كشفت حرب إبادة أهل غزة لريشي سوناك "أن حساسية الأقلية عندما تحكم لا تختلف كثيراً عن حكم الأغلبية، وأن غاندي ما هو إلا الحنين (نوستالجيا) الوطن الأم القديم، هو مجرد وردة في عروة جاكيت رئيس وزراء بريطانيا للزينة وليس شعار ضد الظلم.
ولم يقف جهاز كشف الأكاذيب الغزاوي عن كشف حقيقة العالم الغربي الذي يدعي أنه حامل لواء الحرية وحقوق الإنسان بل كشف لإسرائيل عورة استخباراتها اليقظة دائماً، وجيشها الذي لا يُقهر، بأن لا يقظة هناك، وأن الجيش الذي لا يقهر اصطاده شباب وهو في غفوة من أمره، أو أنها حقيقته التي بانت للداخل الإسرائيلي أكثر ما بانت للخارج، ولهذا قرر الجيش الذي لا يقهر أن يصب حممه من الجو على شعب أعزل في غزة.
لقد سقطت الدول الغربية الكبرى في فشل أخلاقي جسيم بالانحياز الصارخ لآلة الجرائم الإسرائيلية. وسيكون لهذا الفشل بالتأكيد تداعيات لسنوات مقبلة في علاقة هذه الدول مع الشعوب العربية. وإن التعامل البراغماتي للغرب مع قضايا حقوق الإنسان أصبح مفضوحاً ومكشوفاً أكثر من أي وقت مضى، لذا فإن التعويل عليه سيكون نوعاً من العبث. إنه استعارة للخطاب الاستعماري التقليدي بأسوأ وأحطّ صيغه، الخطاب الذي لا يرى الآخرين، سوى بشر أدنى لأنهم ليسوا مركز هذا العالم، وكان على العالم المتحضّر أن يستعمرهم من أجل جعلهم متحضّرين، وعندما يرفضون الحضارة (يرفضون الاستعمار) يجب قتلهم لأنهم متوحّشون. والمفارقة المضحكة المبكية أن الدول الاستعمارية الكبرى التي تدعم هذا الخطاب الإسرائيلي وتكرّره، هي ذاتها الدول التي ارتكبت الجرائم الكبرى والإبادة الجماعية بحقّ الشعوب التي استعمرتها، بخطاب استعلائي دُمّرت باستعماله بلدان واسعة خارج أوروبا (الحضارية)، كل هذه الجرائم ارتكبتها الدول الاستعمارية كانت لإخراج هذه الشعوب من وحشيتها. لقد قلب زعماء الغرب وأعلامه الحقائق عندما حولوا الدولة الصهيونية إلى ضحية مهددة وجودياً، ولذلك فإن هذا يعطيها الحق بإبادة الفلسطينيين لحماية نفسها. وهذا ما يجري اليوم في غزة تحت بصر العالم المتحضر وموافقته.