رأيت الله في غزة
عوني القلمجي
[size=32]رأيت الله في غزة[/size]
على الرغم من حملة الإبادة الجماعية، التي يقوم بها الكيان الصهيوني الغاصب، ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وبدعم أمريكا وحلفائها من الدول الاستعمارية الغربية، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتأييد الحكام العرب، الذين اكتفى مؤتمر قمتهم بإصدار بيان تافه اكتفى بإدانة "العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. مقابل تنصل ادعياء التحالف مع المقاومة، مثل إيران وحزب الله اللبناني، فعلى الرغم من كل ذلك، فأن هذا الكيان لم يتمكن من احتلال قطاع غزة، الذي لا يقارن مساحة بأصغر المدن في الدول العربية، بعد مرور 37 يوما من المعارك الطاحنة، في حين هزم هذا الكيان الغاصب ثلاثة دول عربية في ستة أيام عام 1967 وذلك بسبب صمود شعب غزة وفصائل المقاومة الإسلامية وعلى راسها حماس، وبسبب روح التضحية والفداء والعزيمة والإرادة والايمان بحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
لقد حاول الاعلام الغربي، تشويه هذا الصمود بالتركيز على الدمار والخراب الذي حل بغزة، وحمل المسؤولية لقيادة حماس، جراء تجاهلها حساب القوة العسكرية الصهيونية الهائلة، قبل ان تحقق قوة موازية لقوة المحتل. لكن هذه المحاولات باءت بالفشل. فقد وضعت الشعوب هذه المعادلة جانبا. ولم تأت هذه القناعة من فراغ، او جراء رد فعل عاطفي او حماسي او مزاج ثوري، وانما اتت وفق قوانين حروب أخرى، لها حسابات خاصة واليات مختلفة واستراتيجيات وتكتيكات مبتكرة، سميت بحروب المقاومة الشعبية ضد المحتل، او حروب العصابات في الجبال، او الغابات او حروب المدن والشوارع من بيت الى بيت.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فان المواجهة بين الجيوش النظامية، عدة وعددا، لا تصلح حين يتعلق الامر بالمواجهة بينها وبين مقاومة مسلحة او مدنية. ولا ادل على ذلك، من المقاومة الجزائرية التي لم تبلغ قوتها واحدا بالألف من قوة فرنسا، او الفيتنامية او الأفغانية ضد الولايات المتحدة او المقاومة العراقية في الفلوجة ضد قوى المارينز او المقاومة في أمريكا الجنوبية ضد اسبانيا او حركة المقاومة الشعبية في روسيا بقيادة لينين، او الحركة المسلحة التي قادها ماو تسي تونغ ضد حكومة الصين والاحتلال الياباني، او مقاومة غاندي ضد الإمبراطورية البريطانية، التي تعتبر الهند درة التاج البريطاني. فقد حققت جميع هذه الشعوب انتصاراتها ونالت استقلالها بأسلحة بسيطة وبدائية.
اما المقاومة الفلسطينية، فهي قد ترجمت هذه الحقيقة بأبهى صورها. فحين تمكن ياسر عرفات من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد احمد الشقيري ثم يحيى حمودة، تمكن هذا المقاتل حينها، اثبات وجودها ضد هذا الكيان المدعوم من أعتى القوى الاستعمارية، حيث وضع مبدا تكافؤ القوة جانبا أيضا، على الرغم من، فارق ميزان القوى بين منظمة التحرير والقوة العسكرية المحتلة. ومثلما حققت المنظمة انتصارات تعرضت لهزائم، انتهت بإجبار الكيان الغاصب على منح 20 بالمائة من الأرض التي احتلتها للفلسطينيين، ليقيموا عليها سلطة مدنية تفاديا للهزيمة في المستقبل. ولو لم يقدم عرفات على هذه الاتفاقية المذلة، واستمرت منظمة التحرير على مواصلة المقاومة المسلحة، لحققت انتصارات أكبر واستردت في النهاية كامل التراب الفلسطيني.
ليس هذا كل شيء، فحركة المقاومة الفلسطينية قد اتقنت حروب المدن والقتال من نقطة الصفر، ووظفت كل مزاياها بدقة عالية. منها ان هذه الحروب تتميز بطول مدتها، ومهاراتها واسلحتها الخاصة، التي قد تهزم بها مجموعة من المقاتلين المدربين والصبورين، أعتى الجيوش المجهزة بأحدث العتاد. كما تنفرد أيضا بسرعة الحركة وقنص الدبابات والمقاتلين اثناء تحركهم في المدن. كما تتميز أيضا بتامين الخطوط الدفاعية المتحركة والفعالة وتوزيع المقاتلين إلى مجموعات مجهزة بالأسلحة المناسبة. مثل الأسلحة المضادة للدروع والدبابات، المزودة بمعدات الرؤية والقنص، كما تجيد المجموعات القتالية فن الإيقاع بالعدو، حيث تمتلك خبرة واسعة في إعداد الكمائن ومعرفة تامة بالمناطق التي تقاتل فيها. بالمقابل فان العدو مهما بلغت قوته يرتعد امام الكمائن التي يصعب اكتشافها، ويعاني في نفس الوقت من انعدام، أو تعذر تأمين خطوط الإمداد بالمؤن والذخائر، وكثرة العوائق والمواقع الدفاعية، وكثافة وجود المدنيين، وصعوبة تأمين نقاط المراقبة لرصد المقاومين، وإرشاد القوات الموالية للعدو، وصعوبة التنسيق بين القوات، وضعف الإشراف القيادي على ميادين العمليات.
باختصار شديد جدا، وكما يقول الخبراء العسكريون والمخططون العسكريون، بان معارك الشوارع في المدن خلال الحروب يشكل "الكابوس المرعب" الذي يجب على القادة والجنود أن يتحاشوه قدر الإمكان، ولذلك يوصون بشن حملة قصف مكثفة على المدن المستهدفة لتدميرها كليا أو جزئيا قبل السماح للقوات بدخولها. وهذا ما يحصل الان في غزة
اما بعض السياسيين والمثقفين والمناضلين، فقد نظروا الى الامر من زاوية أخرى. اذ ليس بمقدورهم، على ما يبدو، سوى النظر الى الخراب او الدمار، فهو مقياسهم للانتصار او الهزيمة.. وهنا تكفي جملة بسيطة للرد على هؤلاء ضيقي الافق. ان هذا الدمار هو الثمن الذي تدفعه الشعوب لنيل حقوقها المشروعة. اما ما يخص العقول التي لها اراء معقولة أقول، ان فكرة مقاومة المحتل عمل مشروع اقرته الشرائع السماوية والوضعية، مثل قوانين الأمم المتحدة ومعاهدات جنيف ولجان حقوق الانسان، التي تعطي الحق لكل شعب ان يقاوم المحتل. وان هذا الحق لم يشترط نوعا خاصا من المقاومين. كان يكون قوميا او شيوعيا او بعثيا او ليبراليا او متدينا او حتى قاطع طريق، كما لا يشترط منع قائد ان ينفرد بالمقاومة، فديغول قاد المقاومة في فرنسا وغاندي في الهند ونلسون مانديلا في جنوب افريقيا، ولا يشترط حق المقامة حزبا معينا او جهة محددة، ولا يشترط ان تكون قوات المقاومة مماثلة لقوة المحتل، او قادرة على تجنب الخسائر الكبيرة، وقبل هذا وذاك، علينا ان ندرك ان حق المقاومة لا يشترط الانتصار وتجنب الهزيمة، وانما يشترط المشروعية والايمان بالحق واستعادته. وبعكس ذلك، فان انتظار المقاومة بلوغ مستوى قوة المحتل، يعني ابقاء كل هذه الشعوب تحت نير الاحتلال حتى يوم القيامة. واعتقد جازما بان أصحاب العقول المتخلفة، لن يعثروا في التاريخ البشري كله، على حركة تمكنت من تحقيق توازن القوة بينها وبين المحتل قبل منازلته.
ان انتصرت غزة او لم تنتصر، ستسود وجوه أولئك الذين كرسوا مناقشاتهم في امر واحد لا غير، هو خطأ تقديرات المقاومة لقوة المحتل، لهدف واحد لا غير، صرف الانتباه عن جرائم الإبادة، التي ترتكبها القوات المحتلة. هؤلاء موتى الضمير، والموغلون في الإحساس بالدونية، لا هم لهم سوى اتهام الاخرين بالعاطفة والحماسة والابتعاد عن الواقعية وفق مقولة خالف تعرف، والترويج لإشاعات انتجتها ماكينة الاعلام الصهيوني عن رمي إسرائيل في البحر. في حين اثبتت الوقائع عكس ذلك تماما. فالعرب قبلوا بقرار 194 الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها الثالثة بتاريخ 11/12/ 1948 الذي تقرر فيه "وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم، وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون الدولي والعدالة، بحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة".
اما أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تم تشكيلها في مؤتمر القمة العربي عام 1967 احمد الشقيري، فقد طرح مبادرة يتعايش فيها العرب واليهود بدولة واحدة. بل ذهب خليفته يحيى حمودة ابعد من ذلك، بان دعا وبالحرف الواحد، حسب جريدة النهار اللبنانية في 3 كانون الثاني يناير 1968 "يجب مواجهة الأمور وعدم المطالبة بالمستحيل، نحن نقول لليهود حتى الذين أتوا إلى فلسطين بعد 1948 تريدون السلام حقا اقبلوا ان تعيشوا مع العرب في دولة فلسطينية يهودية، حيث يكون لكل فئة حسب استحقاقها وحقوقها" اما الثائر ياسر عرفات الذي كان ثالث رئيس لمنظمة التحرير فقد صرح من العام نفسه بان على العرب واليهود، ان يقبلوا العيش في دولة علمانية واحدة". اما جمال عبد الناصر، المتهم عن جهل مطبق، بالغوغائية، فقد وافق على مبادرة وليم روجرز وزيرة خارجية أمريكا، المعروفة أيضا بالضربة العميقة في 5 حزيران عام 1970 ثم تلتها اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ثم مبادرة الملك فهد عام 1982 ثم قبول الفلسطينيين بالخروج من لبنان بعد الاجتياح الصهيوني للعاصمة اللبنانية بيروت، تلتها اتفاقية اوسلو في النرويج عام 1993 ثم تطبيع دول عربية والقائمة طويلة. وفي المقابل كان الرفض والعدوانية وتكريس الاحتلال والتوسع سمة الحكومات الصهيونية المتعاقبة. وحين قبل إسحاق رابين بحل الدولتين تم اغتياله على الملا وبفتوى دينية، من المتطرف وزير الامن الصهيوني الحالي، اجتمار ابن غفير.
يقول المفكر الاستراتيجي المعروف هنري كيسنجر، أحد رموز الفكر والدبلوماسية الامريكية، "إذا لم يلق المقاوم سلاحه ويستسلم فانه منتصر. وشعب فلسطين وفق هذا المنظور الصحيح انتصر في غزة. وإذا خسر هذه الجولة، فهناك جولات ستقودها كوكبة أخرى من المقاتلين، كما حدث وتعاقبت أجيال المقاومة، على مدى ثمانين عاما من التضحية والفداء. وستحظى بمزيد من الدعم والاسناد من قبل شعوب العالم الذي حظيت به الان.
12/11/2023