آخر ملوك الأرض
محمد سهيل احمد
[size=32]آخر ملوك الأرض[/size]
(1)
رغم حياة اليتم التي عاشها ابي ومع ان مسيرته الدراسية توقفت عند المرحلة الابتدائية ، إلا انه ــ شأنه شأن أجيال القرن العشرين ــ كان قارئا نهما للكتب ولكنه كان ميالا للصمت . ومع ذلك فقد كان يتدفق بالحديث في أوقات متباعدة . ومما قاله في احد الأيام : "سيأتي يوم لن تجدا من الملوك سوى خمسا : الملكية في بريطانيا وملوك ورق اللعب ".
وها قد تصرّمت أكثر من ستين سنة على تصريحه بصيغة تنبؤ لما سيحدث في قادم السنوات من واقع قراءاته في كتب ومجلات وصحف تلك الحقبة . ولعل من نطق بهذه المقولة قد استثنى بريطانيا نظرا للفترات الطويلة التي حكم ملوكها وملكاتها بلاد الانكليز فإليزابيث الثانية حكمت 70 سنة وفكتوريا 63 سنة وجورج الثالث 59 سنة وجيمس السادس 57 سنة وهنري الثالث 56 سنة والقائمة تطول .
أما ملوك وملكات ورق اللعب فهن باقيات مادام القمارباقيا اذ ترمز رسومها لأربعة من الملوك في أوروبا فملكة القلوب ترمز لشارلمان والبستوني لداود والسباتي للاسكندر الاكبر والديناري يمثل يوليوس قيصر .أما بالنسبة للملكات فجوديث للقلب وبالاس او اثينا للبستوني وراشيل او راحيل للديناري ورجينا للسباتي .
والواقع ان هنالك عددا من أنماط بطاقات الملوك حسب كل بلد فهناك نمط روان الفرنسي ونمط توليدو الاسباني وغيرهما كثير .
(2)
مع مرور السنوات ورغم حدوث عدد كبير من الانقلابات وإحلال النظام الجمهوري او الجماهيري ــ على حد رأي الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي ــ لم اشهد تقلصا في عدد البلدان التي آثرت اختيار الملكية كنظام حكم لشعوبها إذْ ما زالت الملكية حاضرة في كل من الأردن والمغرب وهولندا و الدنمارك واسبانيا وتايلاند والسويد وبلجيكا واليابان ودول أخرى غائبة عن الخاطر.وتبقى تجربتا عراقنا ومصر تستظلان بقدر كبير من التساؤلات وقدر اكبر من الجدال : هل حملت ثورة 14 تموز قدرا كبيرا من الايجابيات ام العكس ؟! كيف كان سيكون شكل البلد لو لم تقع الثورة ؟ هل قدم ملوك العراق الثلاثة ما لم تقدمه الثورات والانقلابات اللاحقة التي جاء اغلبها عسكريا أم انهم أخفقوا في تلبية المطالب الجماهيرية بسبب دهاءالمحتل وهيمنته على مقاليد البلد تارة بالاحتلال المباشر وتارة عن طريق الانتداب ؟ وينهمر مطر لا انقطاع له من التساؤلات المتعارضة مع بعضها بعضا من دون التوصل لقناعات راسخة ولغاية هذه الساعة ؟ ومن الطبيعي أن الأمر ينطبق على التجربة المصرية وإن كان مدّ الجدال اخف حدة وتشعبا .
(3)
ويبقى الحديث عن الملوك ذا شجون فالقرآن يحدثنا في سورة النمل :
" قالت ان الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة اهلها أذلة وكذلك يفعلون " سورة النمل 34 . ومع ان بلقيس كانت تشير الى النبي سليمان ، الا ان للقرآن هدفا ومغزى آخرين بمعنى أن المقصود هم الملوك بشكل عام، وهو ما ينطبق على كل حاكم لهذا البلد او ذاك فالامبراطور والملك ورئيس الجمهورية والطاغية والدكتاتور والسلطان والشيخ والأمير والمهراجا ومتنفذو الدولة العميقة وسواهم يندرجون جميعا تحت تسمية الملوك .والمعيار المثالي هو طبيعة معاملة هذا الملك او ذلك الرئيس لشعبه .كم من الملوك خدم شعبه عبر القرون وكم من رؤساء جمهوريات في شتى أرجاء العالم ضحوا من اجل رفاه بلدانهم ، وكم من الأباطرة ممن عدّوا رموزا لاستقرار بلدانهم على جميع الصعد ، امبراطور اليابان انموذجا ، وكاسترو مثالا جمهوريا بامتياز. وكم من الملوك قد دمروا بلدانهم والأمر نفسه ينطبق على الرؤساء والأباطرة ممن خاضوا غمار حروب عالمية طاحنة ، وهكذا دواليك .
( 4)
وفي رأيي الشخصي ان مفردة الملك تتسع ليشمل أعدادا لا متناهية من
المدلولات . اذكر ان صديقا لنا ــ في ذروة حرب الثماني سنوات ــ قد اخبرنا ذات جلسة ان أمر التحاقه بالخدمة العسكرية سيؤجل بعد ان تمت الموافقة على اكمال دراسته لنيل درجة الدكتوراة .فانبرى نديم له كان سيلتحق بالجبهة في اليوم التالي هاتفا : طوبى لك ايها الملك !
وفي زماننا هذا انضم تحت لواء مفردة الملك شتى أصناف البشر : اثرياء حروب وسماسرة مال وجسد ومفرهدو مصارف ، وأعداد لا حصر لها من الفاشنستات ومهربي الهيروين والحشيشة والكرستال والراقصات وبائعات الجسد وأساطين المال ومحظيات الملوك وسواهم من نماذج أفرزتها الحياة وتقلباتها والموت السريري للضمير ، ما جعلهم وجعلهن من صنف الملوك والملكات بحكم امتلاك تلال من المقتنيات والدولارات ومساحات شاسعة من الأراضي التي شيدت او لم تشيد عليها القصور ناهيك عن مرتشي الدوائر الحكومية في زمن الفساد!
(5)
أمّا ملوك وملكات أوراق اللعب فعلى الرغم من انهم مجبولون من ورق الا أنّ ضحاياهم ومن الجنسين تفوق أعدادهم الملايين . وفي الكتب الادبية العالمية نلتقي بنماذج كالتي صورها الكاتب النمساوي ( ستيفان زفايغ ) عبر روايته القصيرة ( أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة ) التي كتبها سنة 1927 ، وتدهشنا شخصية ( المقامر ) في رواية الكاتب العالمي دستويفسكي الذي خاض نفسه تجربة لعب القمار قبل ان يتوقف ويكتب روايته ( المقامر ) مثلما نلتقيها في روايات نجيب محفوظ وآخرين وأدباء آخرين .يقول رئيس وزراء بريطانيا ومليكها غير المتوج بنيامين دزرائيلي(1804ــ 1881) : " ليس ثمة قمار يبزّ السياسة ! "