هل حقّقت تفجيرات بيروت الهدف؟ ولماذا يجب أن نصف من خطّط لها ونفّذها بأنّه استراتيجيٌّ فاشل؟
د. سعد ناجي جواد*
هل حقّقت تفجيرات بيروت الهدف؟ ولماذا يجب أن نصف من خطّط لها ونفّذها بأنّه استراتيجيٌّ فاشل؟
لا يمكن لاحد ان يُنكر المفاجأة الكبيرة التي احدثتها عملية انفجار اجهزة الاستدعاء (البيجر)، وبعدها اجهزة الاتصال اللاسلكي (الوكي توكي) في لبنان عامة وفي داخل صفوف حزب الله خاصة، بل وكل حركات المقاومة، للحظة من الزمن. اذ لم يحدث ان واجه اي طرف في حرب ما، سواء كان حركة مقاومة او غير مقاومة، فجاءة ودون سابق إنذار، حالة تعرض فيها اكثر من خمسة آلاف شخص من اتباعه، موزعين على كل مناطق البلاد وفي دقيقة واحدة إلى خطر القتل المفاجئ. لكن ذلك حدث في بيروت يوم 17 من الشهر الحالي، وتكرر ذلك فجاءة في اليوم التالي، وفي وقت لم تكن قيادة حزب الله ولا الحكومة اللبنانية قد التقطا أنفاسهما من هول المفاجأة الاولى. وفي وقت كانت فيه الجهتين، وكل اللبنانيين، بالإضافة إلى المؤسسات الصحية، تصارع الزمن من اجل استيعاب الصدمة، وكذلك استيعاب الاف الجرحى والمصابين الذين وصلوا في وقت واحد لمعالجتهم من إصابات مختلفة. هذا كله حدث وكان لبنان، ومعه كل ابناء الامة العربية المحبين يعيشون في حالة ذهول تام. ولكن ما يحسب للأشقاء اللبنانيين ان حالة الذهول هذه لم تقف حجرة عثرة أمامهم او امام كل المؤسسات الصحية اللبنانية، وعلى كافة المستويات، من النجاح في التعامل مع العدد الهائل من المصابين في زمن قصير وفي لحظة زمنية قصيرة واحدة، وان حزب الله استطاع ان يقلل من نتائج هذه الهجمات المرعبة، بإجراءات سريعة رغم حالة الصدمة والإشاعات المغرضة التي قد اصابت الناس وكل مناحي الحياة في كل لبنان.
هذه الحالة التي نتجت عن الجريمة الاسرائيلية هي التي يجب ان تجعلنا نصف من خطط لهذه العملية غير المسبوقة بالفشل، بل وحتى بالغباء، لسبب بسيط هو أنه إذا كان يملك فكرا استراتيجيا حقا، يوازي نزعته الإجرامية للقتل العشوائي، لكان قد وضع مسبقا خطة عسكرية بمثابة المرحلة الثانية لهجمة التفجيرات، يعمل من خلالها على تحقيق انجاز عسكري ينسجم وجسامة الحدث، كأن يوعز بشن هجوم عسكري جوي ومدفعي وصاروخي وبالمسيرات لكي يحقق نتائج تخدم خطته الإجرامية الواسعة. نحن لا نقول ان مثل هذا العمل كان سيحقق نصرا كبيرا للعدو، ولكنه كان بالتأكيد سيضع قيادة حزب الله في موقف لا تحسد عليه. ولكن الغباء والاكتفاء بالعروض المسرحية وفتل العضلات الكاذب والغرور جعل من خطط لذلك العمل الإجرامي بامتياز يتوقف عند احداث التفجيرات والاكتفاء بالتبجح بما فعله، معتقدا انه حقق نصرا استراتيجيا وعسكريا وتقنيا كبيرا. لكنه، وبرعاية ربانية كبيرة، خاب واكتشف بعد يوم واحد انه لم يحقق اي شيء يذكر في عمل قال انه خطط له وعمل عليه لمدة خمسة عشر عاما، وتظافرت فيه جهود كل اجهزته الامنية والاستخبارية ومخابراته السرية. (لتبرير الفشل الكبير ادعت اجهزة الاحتلال ان الإسراع في تنفيذ هذه العملية وعدم الحاقها بعملية اكبر، او قبل الاستعداد لتصعيد اعلى، كان بسبب ان الأجهزة الاستخباراتية الاسرائيلية اكتشفت ان احد افراد حزب الله قد اكتشف الخطة الإجرامية وكان على وشك ان يطلع الجهاز الامني للحزب مما جعل حكومة الاحتلال تأمر بسرعة التنفيذ). وحتى لو كان هذا صحيحا فانه ايضا يمثل فشلا وغباء استراتيجيا. وبالتالي فان نتيجة كل ما حدث جاءت عكسية تماما. وهذا ما جعل حتى الصحف الأمريكية المؤيدة الدائمة للاحتلال تعترف ان ما حدث كان استعراضا ليس له اي مردودات إيجابية على المعركة الدائرة في غزة او على الحدود مع لبنان. وبعض الصحف الاسرائيلية اعتبرته استفزازا لا فائدة منه وانه سيساهم فقط في اطالة امد الحرب الدائرة.
من ناحية اخرى فان اغلب وسائل الإعلام المحايدة اعترفت بقدرة قيادة حزب الله الكبيرة على استيعاب الهجمة، وتمكن اجهزته من التقليل من الخسائر بصورة كبيرة جدا. فإذا ما اعتمدنا على حقيقة ان الأجهزة المفخخة والموزعة كانت خمسة آلاف جهاز (إسرائيل قالت انها سبعة آلاف في يومين) انفجرت جميعها في لحظة واحدة، وان عدد الضحايا كان خمس وعشرين شهيدا فقط، (ربما يرتفع العدد قليلا)، فان هذا يعني ان نسبة الخسائر كانت حوالي نصف بالمائة. نعم ان هذه النسبة تظل مؤسفة وطالت مدنيين أبرياء، لكنها تبقى صغيرة جدا نسبة إلى حجم الهجمة وضخامتها. الاهم من ذلك ان المقاومة استطاعت ان تستعيد توازنها في وقت قياسي وان تُشعر الاحتلال بانه أضعف من ان يؤثر عليها وعلى معنويات مقاتليها او إجبارها على رفع الراية البيضاء، او (وهذا هو الاساس)، على قدرتها على منع الاحتلال من التقدم خطوة واحدة تجاه الأراضي اللبنانية وإنشاء منطقة عازلة. الدليل الاخر على فشل الهجمة هو ان نتنياهو تعهد عند الاعلان عن نجاح العملية ان احد أهدافها هو اعادة سكان المستوطنات الحدودية مع لبنان إلى مساكنهم. وهذا الهدف، حاله كحالة كل الأهداف التي وضعها منذ بداية الحرب الهمجية على غزة، (القضاء على حماس وإعادة الاسرى وتدمير الانفاق وقتل قادة حماس)، قد فشل ايضا. واوضح دليل على هذا الفشل جاء على لسان امين عام الحزب السيد حسن نصر الله الذي تحدى نتنياهو وقادة حكومته ان يتجرأوا على اعادة المستوطنين قبل ايقاف الحرب الهمجية على غزة والضفة الغربية. بالإضافة إلى ذلك فان كلمة امين عام حزب الله اكدت مرة اخرى على اصرار المقاومة على الوقوف إلى جانب غزة والضفة الغربية حتى تتوقف الحرب هناك.
خلاصة القول انه رغم تفوق الصهاينة في مجال التقنيات، هذا التفوق الذي يجب ان لا يحسب لهم فقط وإنما إلى كل اجهزة المخابرات العالمية الكبرى (الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية وغيرها من دول اخرى)، فان حركات المقاومة البسيطة وبإمكانياتها المحدودة -الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية- استطاعت ان تتفوق في احيان كثيرة على كل الأجهزة السابقة، بدليل ان اسرائيل ما تزال غير قادرة على حسم الحرب في غزة او على الحدود مع لبنان او مع مقاتلي اليمن الأبطال، ولا تزال تلجأ إلى الولايات المتحدة وحلفائها الآخرين الإقليميين والدوليين من اجل تزويدها بكل الأسلحة الفتاكة والدعم، وتتوسل اليهم لإقناع حركة حماس بإعادة الاسرى ولجعل المقاومتين اللبنانية واليمنية توقفان هجماتهما المدمرة على المواقع العسكرية في فلسطين المحتلة. وسيبقى الأمر هكذا حتى ترضخ حكومة الاحتلال إلى مطالب الشعب الفلسطيني العادلة.
*كاتب وأكاديمي عراقي