الرأي الحريّت في أصول (الحكي) التكريتي او لسان أهل تكريت
المؤرخ ابراهيم فاضل الناصري
الرأي الحريّت في أصول (الحكي) التكريتي او لسان أهل تكريت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انطلاقا من كون مدينة تكريت، مدينة نهرينية عتيقة بل ازلية، فلقد عرف لسان المجموعات والاصول التي وطنتها وحلت فيها عبر الازمنة التي أدركتها عدة لغات والسن، ولا ابالغ في قولي ان عدد الالسن التي عرفتها قد كان بقدر ترادف الاجناس والملل والنحل المتوطنة فيها.
فمن المؤكد تاريخيا إن مجتمع مدينة تكريت كان في مبتدأ سفره المدني قد عرف اللغة السامية الام، فالأكادية بلهجتيها (الآشورية والبابلية)، فاللغة الإغريقية، ثم عرف اللغة الآرامية التي أولدت او ضوّعت اللغة السريانية التي تمنطقت وتنشقت بها مدينة تكريت حينا من الدهر، وكل هذا انما كان سابقا لحلول اللغة العربية بين ظهرانيها حيث كان حلولها مع فجر القرن الخامس الميلادي. اذ ان المضان التاريخية الوثيقة قد جاءت تبين ان العربية لغة الضاد كان أول تنشق لها ثم اول تداول لها من قبل مجتمع مدينة تكريت انما كان قد حصل وقد تحقق مع انسلاخ المائة الاولى ما قبل الميلاد ومبتدأ المائة الاولى الميلادية، حينما حلّت في ضواحيها وبين حنايا تلاعها قبيلة (التيمو) القضاعية قادمة إليها من مدينة الحضر بعد احتضارها الاخير، فضلا على حلول مجموعات من قبيلة الازد الغسانية وكذا قبيلة بني الحر الهمدانية للسكنى والتوطن فيها. ثم انها ومنذ منتصف الألف الأول للميلاد قد قامت بتعزيز ذلك الوجود لـ اللسان العربي بدفقة عربية جديدة، حينما حلّت في ربوعها فرقة من قبيلة تغلب العربية في السنة 480ميلادية، ثم فرقة من قبيلة إياد العربية التي حلت فيها في السنة 531 ميلادية، ومن ثم فرقة من بنو الانمار وفرقة من بنو بكر اللتان حلتا فيها بعد حلول اياد. وهكذا فان تاريخ العربية في تاريخ تكريت انما هو يبتدئ مع منسلخ المائة الأخيرة لعصر ما قبل الميلاد. بعد أن كانت قبل هذا الحين تنطق بالآرامية، وهي لغة قبائل الاتوعايا الآرامية (itua,a) التي وطنتها. ثم ما فتئت إن صارت في الربع الأول من القرن الميلادي الأول تتكلم بالسريانية التي هي لسان مواطنيها من السريان الشهارجة.
وبخصوص التعريف باللغة الآرامية التي تفوهت بها تكريت حينا من زمنها الحضري الأسبق، أقول إن اللغة الآرامية هي لغة رافدينية قديمة، تنتمي إِلى أسرة لغوية كبيرة عرفت في أوساط علماء اللسانيات باسم اللغات السامية، وأقرب اللغات القديمة إِليها هي اللغة العربية، إذ بينهما عناصر مشتركة في النطق وفي المفردات وفي التصريف وعرف الشرق القديم في أيامهم وحدة ثقافية لغوية لم يشهد لها مثيل من قبل بالاتساع والقوة، وحتى بعد دخول المقدونيين وقيام المملكة السلوقية وانتشار الثقافة الإغريقية في بلاد ما بين النهرين، فان اللغة الآرامية بقيت سائدة ومهيمنة واستمرت بقوتها حتى عهد دخول العربية لمنطقة تكريت.
وأما عن تاريخ اللغة العربية في تكريت، فما جاء به التاريخ هو خير عاكس لذلك ومعبر عنه، إذ لم يقتصر أثر وعي العربية في تكريت على اللهج واللسان وإنما امتد إلى الفكر والعقل والوجدان فصار لتكريت بصمات إسهام وأثر وإبداع في الآداب العربية وفي معارفها وفي علومها، ولعل ما ورد من تراجم لشخصيات تكريتية في معاجم النحويين والادباء كـ أبو جعفر النحوي التكريتي الشاعر (ت594هـ) ومحمد بن محمد التكريتي النحوي الاديب (ت 618هـ) وحبيب بن خدمة التكريتي (توفي 829 م) المنطقي، وانطون الفصيح التكريتي (توفي 850م) خير مثال.
ولعل من العلامات الفارقة على وشاجة العلاقة المتبادلة ما بين تاريخ تكريت وتاريخ العربية هو إن اصول اللهجة التكريتية الدارجة اليوم إن هي إلا مزيج تراكمي للموروث اللغوي لسكان تكريت القدماء من بقايا الآراميين مع لهجات القبائل التي حلت عقبهم واعني (التيمو والازد وتغلب وإياد والنمر) ولقد علقت في لسان التكريتي القح المعاصر ترسبات لغوية في الجوانب النحوية والنطقية وبعض التأثيرات من لغات الأقوام الغازية كالسلوقيين والفرثيين والساسانيين وما لحق بعدهم من تأثيرات بويهية وسلجوقية وعثمانية مظهرة عامية تكريت.
إن عامية تكريت (لهجة تكريت) ذات (النجار) الاصل العربي تختلف عن عامية المدن العراقية المجاورة او المحيطة اختلافا بائنا، بسبب أن ترسبات الموروث اللغوي الآرامي انما هو متمكن منها بشكل غالب على الترسبات اللغوية النازلة بعده أو المترافقة معه، إذ ما زال اللسان التكريتي يستخدم في تداوله كلمات كثيرة ذات أصل أو رسم آرامي كما وانه يعتمد في الكلام واللفظ بعض قواعد الكلام في اللغة الآرامية (النبطية أو السريانية) مما أسس للهجة تكريت قواعد نحو وصرف خاصة تعتمد الإمالة والقلب والإبدال والتفخيم والزيادة ما جعلها تبدو بمصاف اللغة، اذ إن الكلمات المنطوقة بلسان اهل تكريت تمتلك اتفاق دلالي وشكلي معا.
فأن من بين ما تأثرت به لهجة تكريت، هي لغة بعض قبائل الحجاز، ففي الوقت الذي يختلف فيه العرب بنطق القاف فيجعلها عددا منهم كاف، فان القاف في تكريت هي الفاشية ويتوضح حرف القاف لدى أهالي تكريت، فيقولون: (قلت وقلتولو وطاق وأطيق).
وفي لسان مدينة تكريت إبدال للأحرف في النطق: اذ هناك مثلا ابدال لحرف (الدال) بحرف (الذال) فيقولون: دهب، بدلا من قولهم: ذهب. ويقولون ديب بدلاً من قولهم ذئب، وهنالك ابدال لحرف (الراء) بحرف (الغين) فيقولون: حماغ، بدلا من قولهم حمار. ويقولون: عمغي بدلا من قولهم: عمري. ويقولون: احمغ بدلا من قولهم: احمر. وهنالك ابدال لنطق الهمزة التي على الكرسي بحرف (الياء) فيقولون: البيغ بدلا من قولهم: البئر. وهنالك ابدال لنطق الهمزة الاستفهامية بحرف (الواو) فيقولون: وينم؟ بدلا من قولهم: اين هم؟ مثلما يقولون: وين؟ بدلا من قولهم: أين؟ ويبدلون نطق الهمزة الاستفهامية بحرف (الهاء) فيقولون: هيّم او هيّو بدلا من قولهم: أي هم او أي هو؟ ويبدلون اللام النافية بـحرف (الميم) فيقولون: محد. بدلا من قول: لا أحد.
وفي لهجة تكريت هنالك إدغام لبعض الحروف في النطق فيقولون: جا في نطق كلمة: جاء، وتصريفاتها (جينا وجيتم وأجي) فيتم عدم نطق الهمزة. ويقولون: افادي في نطق كلمة: فؤادي. ويقولون: خدم. في نطقهم لكلمة: خذهم. فيتم عدم نطق للهاء وعلى نفس المنوال يقولون: عندم. في نطقهم لكلمة: عندهم. وكذا: حالم في قولهم: حالهم. مستخدمين الإدغام لحرف (الهاء) وإضافة الكسرة تعويضا عنه. وفي الجمع لبعض حالات الإدغام يفتحون (واو) الجمع ويحذفون الهمزة فيقولون: يبطون بدلا من قولهم: يبطئون. و: يكلون بدلا من: يأكلون. و: يخدون بدلا من يأخذون.
وفي لجهة تكريت يتم إضافة حرف على بعض ادوات الاستفهام فيقولون: همتى في نطق اداة: متى، ونطق: هيو لجملة: أي هو. ونطق: هسع بدلا من قول: الساعة. ونطق: هلبت بدلا من قول البتة. مضيفين حرف (الهاء) كما وفي الحالة اقلاب فيقولون: هون بدلا من قولهم: هنا. ويقولون شلون؟ بدلا من قولهم: كيف وفي هذا ابدال للكلمة جذريا.
كما وان أهم ما يميز لهجة تكريت هو إمالة حرف (الواو) الساكنة أي قلبها إلى (ياء) فيقال: تنيغ بدلا من القول: تنور وعصفيغ بدلا من عصفور وسيق بدل سوق وفيق بدل فوق ومسليق بدل مسلوق. وهناك ألفاظ فصيحة تستعمل في لهجة تكريت ولكن فيها ألفاظ أخرى قد تغيرت إما بحركاتها أو بإسقاط حروف منها أو أخذها معاني جديدة لا علاقة لها بالمعنى المعجمي. وفي الحديث عن لهجة تكريت شجون وشؤون وتصاريف والفاظ تحتاج لإحصائها متون.
وخلاصة القول بهذا المقول هو؛ أن لتكريت لهجةً نهرينية فريدةً من نوعها جاءت تشتمل على مصطلحات ومفردات لا تجدها في كل اللهجات العراقية. لهجة تكريت هي المنطق الذي حافظ عليه الأبناء وتناقلوه من أسلافهم اليعاريب مع أن الكثير من الكلمات التي اندثرت بسبب الانفتاح والامتزاج والتقادم ولكن هناك أشبه ما تكون بالقاعدة اللفظية التي تُحتِم حتى على الكلمات الجديدة طريقة لفظها وتفعيلها في الجمل المختلفة.
كما أن من الامور المهم ذكرها هو؛ ان لهجة تكريت الفريدة العتيقة انما تنحصر على أهلها الأصليين إلى درجة يصعبُ على كل من سكن تكريت من غير أهلها ان يتقنها بحرفيتها. الأمر الذي باتت هذه اللهجة تشكل رابط مدني انتمائي له أهمية لكل تكريتي يدّعي انه من تكريت أصلا وانتماءاً..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الگاردينيا:نرحب بالمؤرخ الأستاذ ابراهيم فاضل الناصري في حدائقنا ، لنا الشرف ان يكون مؤرخ كبير بوزنه يتواصل معنا .. زارتنا البركة استاذنا العزيز ومن الله التوفيق.