القاصفة الأمريكية العملاقة التي إستهدفت الحوثيين
د. صبحي ناظم توفيق
خبير إستراتيجي وعسكري... دكتوراه في التأريخ"
20/10/2024
القاصفة الأمريكية العملاقة التي إستهدفت الحوثيين
تمهيد
في ليلة 16/17 تشرين الأول (نوفمبر) 2024 فوجيء الحوثيون في عقر ديارهم بقصف أمريكي ثقيل طال مواقع صواريخهم البالستية بعيدة المدى التي بلغ عدد منها أجواء الكيان الصهيوني خلال الأشهر المنصرمة... فما الذي جعل الولايات المتحدة تعزم على هكذا ضربة؟ وما الأداة التي إستثمرتها لتحقيقها؟؟
سؤالان نحاول تسليط بعض الضوء عليهما في هذه المقالة المختصرة.
دواعي القصف
لا بد وأن الإبنة المدلّلة الأهم لدى الولايات المتحدة والممثلة بـ"إسرائيل" التي إنزعجت وإرتبكت جراء بلوغ الصواريخ البالستية الحوثية بعيدة المدى -بما فيها الفرط صوتية ذات المنشأ الإيراني- أجواء الكيان الصهيوني عدة مرات، رغم عدم سقوطها على هدف ذي أهمية، بل إما في العراء أو إنفلقت في الجو بتأثير الدفاعات الأرضية وتشَظّت أجزاؤها من دون أن تحدث أضراراً تُذكر في الأرواح والممتلكات، حسب الإدعاء الإسرائيلي.
ولكن هذه الخطوة التي لم تكن متوقعة لكون المسافة الأفقية بين المناطق التي يستحوذ عليها الحوثيون منذ إنقلابهم على الحكومة الشرعية في العاصمة "صنعاء" سنة 2014 بعيدة للغاية بواقع 1800 كلم على خط مُنحَنٍ أو مستقيم مباشر، وأكثر من ذلك إن كانت هناك إنحرافات في مسار الصاروخ.
وفي حين أن العشرات من الطائرات الأمريكية والبريطانية المقاتلة/هجوم أرضي (FIGHTER GROUND ATTACK) الأمريكية والبريطانية ومن دول أخرى أعضاء في تحالف "حارس الإزدهار" أجرت ضربات جوية ليلية عديدة على أهداف حوثية، وكذلك قصفت "إسرائيل" ميناء "الحُدَيدة" ومطارها الدولي وأهدافاً في "صنعاء" مرتين بإستخدام العشرات من المقاتلات- هجوم أرضي... إلاّ أن الحوثيين لم يُردَعوا مطلقاً سوى بضعة أيام قبل أن يلملموا جراحاتهم ليعودوا لإستهداف مواقع إسرائيلية مجدداً سواءً بالطائرات المًسَيَّرة أو بالصواريخ أرض- أرض البالستية بعيدة المدى.
وحسب المعلومات المُسَرّبة أن الإستخبارات الفضائية مع المعلومات المستحدثة الأدق عن طريق طائرات الإستطلاع الإختصاصية قد رصدت الحوثيين وهم ينقلون صواريخم البالستية بعيدة المدى المحمولة على منصاتها الضخمة من مواضعها السابقة وسط هضاب ومرتفعات محافظتَي "صنعاء وذمار" إلى وديان ووِهاد وشقوق بين الجبال الشاهقة في أعماق محافظتَي "صعدة وعمران"، وقد بدأت تستقر في مواقعها البديلة إستعداداً لإطلاقها نحو "إسرائيل" على وجه الخصوص... وكذلك ينقلون خزين مقذوفاتهم المضادة للسفن من مناطق متفرقة إلى مغارات وكهوف طبيعية صخرية يصعب إستهدافها وتدميرها.
ولذلك كان لا بد من إجراء سريع قبل أن تستقر المنصات والصواريخ المحمولة على ظهرها وتستعد للإنطلاق... ولما كانت "إسرائيل" بعيدة جغرافياً، ومديات مقاتلاتها هجوم أرضي لا تبلغ أجواء اليمن إلاَ بإرضاع جوي للوقود عند التوجه نحو اليمن وعند العودة، وذلك من الطائرات الصهريج الأمريكية المُفرَزة لخدمة إسرائيل، وأن هذه العملية تتطلّب خطة معقدة نوعاً ما، كالتي إتبعتها القوة الجوية الإسرائيلية في ضربتَي "الحُديدة"، ناهيك عن أن المقاتلات الإسرائيلية لا تستطيع حمل قنابل ثقيلة للغاية وخارقة للأعماق من تلك المسمّاة "أم القنابل"، لذلك أُنيطت هذه المهمة على عجل للقوات الجوية الأمريكية الداعمة لإسرائيل.
صورتان للصاروخ البالستي "طُوفان" بعيد المدى لدى الحوثيين التي أُطلقت على إسرائيل الأداة الأفضل التي أُستُثمِرت للضرب
من المعروف أن القوات الجوية الأمريكية تمتلك ثلاثة أنواع رئيسة من الطائرات القاصفة الثقيلة (BOMBERS HEAVY) العملاقة، والتي بإمكان كل منها بلوغ مناطق نائية تقرب من نصف محيط الكرة الأرضية، وتقطع -من دون هبوط في مطار أو إرضاع جوي أثناء التحليق- آلاف الكيلومترات إنطلاقاً من قواعدها في الوطن الأم وصولاً إلى أهداف محددة، أمثال القاصفة النفاثة القديمة العملاقة الأضخم في التأريخ ذوات 8 محركات (سِتْراتوفورتْرِس (B-52 المُستحدَثة، والقاصفة العملاقة التالية ذات الـ4 محركات (لانسَر B-1) الأسرع من الصوت... وأخيراً القاصفة العملاقة الثالثة الأحدث (سبيريت B-2) المتميزة بكونها من الطراز "الشبح" الخفية عن الرادارات.
القاصفة الأمريكية القديمة العملاقة الأضخم في العالم "ستراتوفورترس B-52" ذات 8 محركات نفاثة ترافقها 6 مقاتلات هجوم أرضي "إيكل F-15" في سماء الخليج العربي.... لاحظ فرق حجم هذه القاصفة وقارنه بالمقاتلات.
القاصفة الأمريكية العملاقة الثانية (لانسر B-1) الأسرع من الصوت.
ولكن القوة الجوية الأمريكية إنتقت القاصفة (B-2) الشبح لتحقيق هذه المهمة لأسباب لم تعلنها، والتي قد تكون:-
1. الخشية من إمتلاك الحوثيين مقذوفات دفاع أرضي لإستهداف طائرات ستراتيجية باهظة الثمن على إرتفاعات عالية وإسقاطها في أسوأ الإحتمالات، لذلك فالقاصفة الشبح (B-2) التي يصعب على الرادارات رصدها وتعقّبها، هي الأفضل والأنجع والأبعد عن المخاطرة.
2. زجّ هذه القاصفة الشبح الحديثة في خِضَمّ هذه المهمة الدقيقة، سيبعث أكثر من رسالة ردع وتهديد إلى الأعداء والخصوم في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص "إيران" وأذرعها وأتباعها من فصائل المقاومة المسلّحة من جهة، ورسالة أوضح للحلفاء والأصدقاء بأن الولايات المتحدة داعمة لها وتسند ظهرها من جهة ثانية.
القاصفة الشبح (B-2)
أنتجت مصانع شركة "نورث روب كرومان NORTHROP GRUMMAN" نموذجها التجريبي عام 1989 وفقاً لشروط مثالية أقرب إلى الخيال، حتى رضيت بها القوة الجوية الأمريكية وإقتنت 20 قاصفة منها بتكلفة 737 مليون دولار لكل واحدة، ودخلت تأريخ الطيران الحربي الحديث بشكلها العجيب الذي أشبه ما يكون لجناحَي طائرة من دون بَدَن واضح ومحركات مُعَلّقة ودَفّة (RUDDER) عمودية ضمن مجموعة الذيل، وأضحت "القاصفة الشبح البِكر" من هذا الطراز، والتي لم تولَد شقيقتها أو شبيهتها كي تدخل الخدمة الفعلية لغاية يومنا الراهن، رغم العديد من المحاولات الدؤوبة لإنتاج قاصفة شبح شبيهة أفضل من طراز (B-21 رَيدَر) تحت التجارب العملية، ولم يُتّخَذ قرار نهائي لإقتنائها.
المُستغرَب في القاصفة (B-2 سبيريت) موضوعة بحثنا -وعلى العكس من القاصفات العملاقة من الطرازَين القديمَين- رغم ضخامتها ومدياتها وحمولاتها من أنواع القنابل والمقذوفات النووية والإعتيادية- أن طيارَين إثنين فقط في مقصورة القيادة لا ثالث لهما، هما من يقودانها بمفردهما، ويتحكمان في القيادة والملاحة والإتصالات وإسقاط القنابل والمقذوفات، وذلك من عِظَم ما جُهِّزَت بها من 16 عقل ألكتروني وتكنولوجيات قيادة وملاحة فائقة تحدّد الإتجاهات والمواقع والأهداف وتثبت نوعية القنابل والمقذوفات المطلوب إسقاطها من جوف القاصفة، قبل أن تتوجه أوتوماتيكياً بإستثمار منظومات تسيير نحو الأهداف بالإفادة من أقمار صناعية تحوم في الفضاء وتحقق هذا الغرض تحديداً.
يبلغ المدى الأقصى للقاصفة 12،225 كلم، أي ما يزيد على المسافة بين "واشنطن وطهران" من دون إرضاع جوي، ويتضاعف حوالي مرتين بعملية إرضاع جوي واحدة عند الحاجة، وبحمولة قصوى تبلغ 22.5 طن من القنابر الذكية ومقذوفات "كروز" المُسَيّرة والقنابل النووية المختلفة، وبإمكانها أن تعمل على إرتفاع 53،000 قدم (17 كلم) من سطح البحر... سرعتها القصوى 960 كلم/ساعة -أي أدنى من سرعة الصوت التي لا تحتاجها "القاصفات/BOMBERS" الضخمة وجوباً، وقد تعاقدت القوة الجوية الأمريكية في التسعينيات لإقتناء العشرات من هذا الطراز خلال 20 سنة، شريطة تطوير إمكاناتها التكنولوجية تباعاً مع تصاعد العلوم والإمكانات نحو الأفضل... وذلك كي تحلّ محلّ عدد مماثل من القاصفات العملاقة الأقدم "B-52 ستراتوفورترس" ذات الطرز القديمة، والتي آنَ أوانها أن تُقذَف بإحترام في مقابر الطائرات الأمريكية تمجيداً لخدمتها... ولكن تلك القيادة عادت وإكتفت بـ21 قاصفة فقط، ريثما يتم إنتاج أعداد مُجدِية من القاصفة الأجدد (B-21) على ما ذكرناه.
تمتاز الـ(B-1) موضوعة بحثنا، بأن جميع حمولاتها من القنابر والقنابل ومقذوفات كروز، تُرَكّب في جوفها بشكل مطلق على عكس القاصفات الأقدم، إذْ لا تتوفر تحت جناحَيها وبَدَنِها أية نقطة تعليق، وذلك لكونها مصممة من الأساس أن لا يتوفر أي جسم ظاهر ولو كان صغيراً أو ضئيلاً يحتكّ مع الهواء ويعكس إشعاعات الرادار فيكون سبباً في ظهور الطائرة على شاشته.
صورتان: الأولى سُفلِية والثانية عُلوية للقاصفة الشبح الأمريكية العملاقة "سبيرِت بي-2 SPIRIT B-2"، وهي القاصفة الشبح الأولى في التأريخ... ويُلاحَظ مدى تشابهها مع الأطباق الطائرة الخيالية المزعومة. لقد جُرِّبت هذه القاصفة الشبح "B-2" ميدانياً للمرة الأولى في حرب حقيقية خلال حرب "كوسوفو" (1994)، وأعقبتها على رؤوس العراقيين وممتلكاتهم عند الغزو الأمريكي المدمّر سنة 2003 لأرض بلاد الرافدين، والتي أمست حقل تجارب حقيقية لأحدث أسلحتهم ومقذوفاتهم غير المجرّبة في حروبهم المتواصلة.
فمن قاعدة "دييغو غارسيا" الأمريكية- البريطانية المستأجرة وسط المحيط الهندي، أقلعت بضع قاصفات "سبيريت/B-2" لتهمر العراق المنكوب بشتى حمولاتها الأحدث والأنكى والأمَرّ والأثقل خلال غزوهم غير المُبرّر وإحتلاله (2003)، قبل أن يتبعوها -إلى جانب قاصفاتهم العملاقة الأقدم والمئات من مقاتلات الهجوم الأرضي بصحبة طرز أخرَيات خصّصتها القوة الجوية الأمريكية لقصفهم العشوائي الثقيل وغير الدقيق وغير المسبوق على الأحياء المكتظة بالمدنيين وسط مدن "الرَمادي، الفلوجة" وسواها، قبل أن ينهالوا بجام أحقادهم وبالتنسيق مع القيادات العسكرية الحاقدة على مدينة "الموصل" وسواها أيام الحرب التدميرية على تنظيم "د.ا.ع.ش" -المزعوم- في غضون الأعوام (2015- 2017).
صورة جانبية لإحدى عمليات القصف الثقيل الميدانية للقاصفة الستراتيجية الأمريكية "سبيريت/B-2" على رؤوس العراقيين بإسقاطها العشرات من القنابل الإعتيادية غير المُسيَّرة ذات الإنفجار الشديد (H.E) على أهالي "الموصل" في وضح النهار
القصف الأمريكي على الحوثيين
من المُسَلّم به أن قيادة القاصفات ووزارة الدفاع الأمريكية لا تعلنان التفاصيل الدقيقة لمثل هذه المهمات... ولكن الذي يخصنا في هذه المقالة، أن هناك من أشار إلى أن هذه القاصفات قد أقلعت من إحدى القواعد الجوية التي تتمركز فيها بالجانب الشرقي من الولايات المتحدة، فيما أتى آخرون على إنطلاقها من قاعدة "دييغو غارسيا" وسط المحيط الهندي لإختصار المسافة والوقت.
وأينما كان موقع القاعدة الجوية التي أقلعت منها القاصفات (B-2) مساء يوم 16 ت الأول (أكتوبر) 2024، فإن عددها لم يُعلَن، ولكن المنطق يشير أنها حلقت بخط طيران شبه مستقيم وبسرعة إقتصادية على إرتفاع عالٍ لتوفير الوقود، قاصدة الأجواء اليمنية والتي إخترقتها بالعديد من القنابر المركبة في جوف كل منها، وكلّها من طراز "أم القنابل" ولكنها متنوعة الأوزان.
وبالتنسيق بين الطيارَين القائدَين مع الأقمار الصناعية الإستطلاعية التي شخّصت لهما المواقع التي نُقِلَت إليها صواريخ الحوثيين البالستية المحمّلة على منصاتها الضخمة التي إستقرت وسط الوديان العريضة بين شقوق الجبال، وخُزِنت في مغاراتها وكهوفها مختلف أنواع الأعتدة والذخائر والمقذوفات الصاروخية المستخدمة للعديد من الأغراض، وبالأخص الأنواع المصممة لمقارعة السفن والقطع البحرية، حين أسقطت القاصفات المتتابعة من جوفها قنابل خارقة للأعماق تُوَجّه بدقة متناهية بإستثمار منظومة GPS نحو منصات الصواريخ ومستودعات الذخائر وتدمّر الطرق العامة والترابية وسط تلكم الجبال الصخرية الشاهقة... وخلال بضع دقائق كانت العشرات من محتويات الخزين في خمسة مواقع مستهدفة قد إنفلقت وتصاعدت نيرانها نحو السماء، وذلك قبل أن تعود القاصفات خلال الساعات العديدة التالية إلى قاعدتها سالمة.
رد الفعل الحوثي المتوقع
والآن الجانب الأمريكي على يقين أن مثل هذه القاصفات الشبحية المتطورة قد أنهت مهمّتها بنجاح لا شكّ في نتائجها ومن دون أية خسائر... ولكن الحوثيون تحدّوه –كعادتهم في كل مرة- بِرَدٍّ موجع علينا إنتظاره، لذلك فإنهم -في غضون أيام لا تتعدى أسبوعاً واحداً- أطلقوا صاروخاً بالستياً ولو واحداً بعيد المدى، سواء تجاه إسرائيل أو نحو أي هدف ذي علاقة بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة وبالأخص لدى دول الخليج العربي، فهذا يعني أن الضربة الأمريكية لم تكن ناجعة 100% ولم تحقق محواً لممتلكات الحوثيين من هذه الصواريخ العزيزة على قلوبهم... أما إذا لم يطلقوا خلال شهر أو أكثر فمعناه أنهم فقدوا هذا السلاح، إلاّ في حالة إنتاجه في مصانعهم المزعومة، أو تم تهريبه من إيران بطريقة ما إليهم... وتنطبق الإحتمالات ذاتها بحق المقذوفات سطح- بحر التي إستثمروها مرات عديدة وإستهدفوا سفناً حربية أو تجارية في جنوبيّ البحر الأحمر ومضيق باب المندب وكذلك في خليج عدن مرات عديدة ومتتالية.... وإن غداً لناظره قريب.