الدُّكتور عبد الله الدَّملوجيّ سيرةٌ معطاء لنماءِ وطن أوَّل وزير خارجيَّة في السُّعوديَّة وفي العراق
بقلم: صفوة فاهم كامل
لدُّكتور عبد الله الدَّملوجيّ سيرةٌ معطاء لنماءِ وطن أوَّل وزير خارجيَّة في السُّعوديَّة وفي العراق
على الرغم من انقضاء أكثر من ستة عقود ونصف على نهاية الحكم الملكي الهاشمي في العراق فإنَّ ساسة ذلك النظام ما زالوا محطَّ إعجاب وتقدير غالبية الفرقاء، واهتمام وتقصّي المؤرِّخين والباحثين والدّارسين في التاريخ لما قدَّمه هؤلاء الرجال من خدمات جليلة ونبيلة لوطنهم وما تكرَّس فيهم من روح الوطنية والانتماء. أسماؤهم ما زالت لامعة ومحفورة في ذاكرة العراقيين وآثارهم تُقرأ باهتمام من عامَّة الناس من خلال مذكّراتهم الشخصية أو ما كُتب عنهم في سِيَر من عاصرهم من جيلهم. لكن في المقابل ما زالت هناك شخصيات مهمَّة من ذلك الجيل لم يتطرَّق لها التاريخ ولم يسبر غورها أحدٌ من الباحثين نتيجة إحجام هذه الشخصيات عن توثيق حياتهم وما قدَّموه من إنجازات لوطنهم لأسباب عدَّة أو هكذا هم أرادوا، فأصبحوا منسيِّين في أوطانهم. ومن بين تلك الشخصيات القديرة المرحوم الدكتور عبد الله سعيد الدملوجي الذي امتنع عن كتابة مذكِّراته بعد تقاعدہ من العمل الوظيفي لخشيته من أن تُشوَّه سيرة حياته أو تُحرَّف حقيقة أحداث كان شاهداً عليها أو قريباً منها، تاركاً ذلك للتاريخ ومن سينصفه!
وهنا أَكادُ أجزم بشكل قاطع أنَّ الأجيال اللاحقة إلى يومنا هذا لا تعرف شيئاً عن هذا الرجل ولم تَسمع باسمه إلَّا من خلال عائلة (الدملوجي)، تلك العائلة العريقة المعروفة في مدينة الموصل التي تنتسب إلى قرية (دَمَلوج) القريبة من مدينة تعزّ في اليمن ونَسبُها يعود إلى عشيرة الشريفات المنحدرة من نسل الإمام الحسن بن الإمام عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهما).
لذا فإنَّ حفيدہ الأستاذ مَناف خالد عبد الله الدملوجي الدبلوماسي السابق في الخارجية العراقية انفردَ من بين إخوة صاحب السيرة وأبنائه وأحفادہ في توجُّهه هذا عندما تيقَّظ وهو في شرخ شبابه لجمع مآثر جدِّہ الذي كان حينها في خريف عمرہ، فجمع الصور والوثائق واقتنص الكثير من الأحاديث الجانبية والذكريات عن ماضيه الجميل وجلس معه أوقاتاً طويلة يستنطقه ويُخرج كلَّ ما علقَ في ذاكرته من أسرار وحكايات ليضعها في جعبته سنوات طوال حتَّى حانت الفرصة المواتية ليحقِّق حلمه ويؤرِّخ سيرة رجل ساهم في بناء دولتين، من خلال كتاب اختار له عنوان صريح هو: (قبل رحيل الذّكريات ... سيرة الدُّكتور عبد الله الدَّملوجيّ) الذي صدر عن دار الذاكرة للنشر والتوزيع في بغداد. والحقُّ يقال هنا: لو لا فطنة السيد مناف الدملوجي وشجاعته في التوثيق وحفظَ الذكريات والوثائق لذهبت هذه المذكِّرات مع صاحبها تحت طبقات الثرى.
جرى للكتاب إشهار أنيق ومتميِّز في المكتبة الوطنية بعمَّان تحت رعاية وحضور سموِّ الأمير رعد بن زيد بن الحسين، وجمهور غفير من أبناء الجالية غصَّت بهم قاعة الاحتفال تقدَّمهم القائم بأعمال السفارة العراقية السيد منيف السامرائي وأحفاد المحتفى به وعدد من أفراد عائلة الدملوجي، فيما تشرَّفتُ أنا بتقديمهِ للحاضرين.
وإذا أردنا أن نكتب عن هذا الرجل ونسهب عنه في هذه السطور المتواضعة ونتناول سيرته الطويلة ونجتزئ منها ما يكفي فلن نفيَه حقّه. لأننا عن أيِّ عبد الله الدملوجي سنتحدَّث ونكتب؟
هل نذكرہ على أنه عثمانيّ... أم سُّعوديّ... أم عراقيّ؟
وتحت أيِّ لقب أو منصب أو عنوان سنعرِّفه ونُقدِّمه للقارئ الكريم؟
هل سنخصُّه على أنَّه طبيب بَشَريّ، أم ذلك الشاب المتحمِّس المنتمي إلى جمعية العهد السرِّيَّة في إسطنبول المنادية باستقلال العرب، أم الطبيب الخاص للأمير عبد العزيز آل سعود أمير نجد (الملك فيما بعد) ومستشارہ السياسي للشؤون الخارجية، أم أوَّل وزير خارجية للملكة العربية السعودية، أم قنصل العراق العامُّ في القاهرة، أم أوَّل وزير خارجية أصالةً في المملكة العراقية، أم النائب عن الموصل في المجلس النيابي، أم كبير الأمناء للملك غازي، أم مدير عامّ صحة العراق، أم رئيس التشريفات الملكية، أم سفير العراق في طهران، أم وزير المعارف، أم السفير المتجوِّل في وزارة الخارجية... أم ذلك الإنسان الوقور المعتدُّ بنفسه الأنيق في مظهرہ حتى آخر يوم من حياته؟
هذه المناصب والمقامات كلُّها جَمَعها هذا الرجل اللبيب في حقيبة حياته الوظيفية والعملية طيلة سنوات عمرہ المديد التي تجاوزت الثمانين عاماً، أنجز خلالها الكثير من المهامِّ واتخذ قرارات حاسمة لصالح بلدہ فكسب ودَّ الملوك والأمراء ورؤساء الوزارات ورجال السياسة ونال ثقتهم العالية وتقديرهم الرفيع.
وُلِد عبد الله الدملوجي في مدينة الموصل عام 1889م ونشأ وترعرع في أزقَّتها وحاراتها ثم انتقل إلى بغداد ليلتحق بالمدرسة الرُشديَّة العسكرية فأكملها بعد ثلاث سنوات، ليغادر بعدها إلى إسطنبول لدراسة الطب البشري في كلية حيدر باشا الطبية وتخرَّج فيها عام 1912، ومنها بدأت رحلته الطويلة في الحياة العمليّة.
يقول الشاعر اليماني صالح الشاعر:
صدفةٌ ما أجملَ الدُّنيا بـها
أجمل الأشياء تأتي بالصُّدَف
فالصدفة أحياناً لها دورها في حياة الإنسان، وهنا جاءت الصدفة لتغيِّر من مسار حياة هذا الرجل وتقلبها رأساً على عقب، فعندما كان طبيباً ممارساً في البصرة عام 1914 غادر منها إلى مدينة الرياض حاملاً رسالة من عبد اللطيف باشا المنديل أحد وجهاء المدينة إلى الأمير عبد العزيز أمير نجد يوصي بحاملها. وبناءً على هذه الرسالة وجواباً للتوصية فقد عيَّنه الأمير طبيباً خاصَّاً له يرافقه في حلّه وترحاله، ليبتدئ رحلة جديدة من حياته في مهد أجدادہ السابقين بعد هذه الصدفة الجميلة.
وخلال عمله لمس فيه الأمير عبد العزيز آل سعود الكفاءة والإخلاص والخلفيّة الثقافية الراقية وأصبح موضع ثقةٍ وائتمان لديه فعيَّنه مستشاراً للشؤون الخارجية إلى جانب صفته طبيباً خاصَّاً له، وبدأ يكلِّفه بمهامٍّ ذات علاقة بالسياسة الخارجية، بدأها بتمثيله شخصياً في حفل تتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على عرش العراق يوم 23 آب 1921. وبذلك انقطع الدكتور عبد الله الدملوجي عن مهنته كطبيب في الحياة العملية العامَّة ليدخل مهنة السياسة ودهاليزها الشَّاقة.
في عام 1922 كلَّفه السلطان عبد العزيز آل سعود-هكذا كان يلقّب الأمير في حينها- بالتفاوض مع وفدَي العراق والكويت لعقد معاهدة لترسيم الحدود بين العراق ونجد، إذ كانت مناطق الرعي والآبار الحدودية وعائديتها تُشكِّل عقبة أمام الوصول إلى اتفاق تحديد الحدود، فاقترح الدملوجي (وهذه من بنات أفكارہ) أن تكون هذه المنطقة (منطقة محايدة) على شكل مَعِين منتظِم مساحته 7044 كم2، (وهي أقلّ من مساحة البحرين بقليل) يُسمَح للعشائر الرُّحَّل بالدخول إليها والخروج منها لغرض الري والاستقاء، وأن تكون للحكومتين العراقية والنَّجديَّة الحقوق والامتيازات السيادية بشكل متساوٍ في تلك المنطقة، وسمِّيت المعاهدة في حينها (معاهدة العَقير) التاريخية.
وفي عام 1925، أصدر الملك عبد العزيز آل سعود أمراً ملكياً بتأسيس المديرية العامَّة للشؤون الخارجية، نظير مُسمّى (وزارة الخارجية)، كأوَّل جهاز حكومي يُشكَّل في حينها، وعُيِّن الدكتور عبد الله الدملوجي مديراً لها بدرجة وزير في بلاط مملكة نجد والحجاز، وهو خير تكريم يناله بعد الجهود التي بذلها في خدمة الملك ودليلٌ على منحه ثقة الملك. ومن خلال منصبه الجديد رافق الأميرَ الشاب فيصل بن عبد العزيز في زيارته التاريخية عام 1926 إلى بريطانيا وهولندا وفرنسا لتوثيق الصلات مع قادتها وساستها.
وفي عام 1928 وبعد خدمة متواصلة ناهزت الأربعة عشر عاماً رجا الدملوجي الملكَ إعفاءہ من منصبه الرسمي مبدياً رغبته الجامحة في العودة إلى العراق لأسباب عائلية، ولم يُبدِ الملك ممانعته. ودَّع الدملوجي السعودية وظلَّ قرارہ غصَّةً في قلبهِ لفراقهِ بلداً عَشِقهُ وأحب رجاله الأعزَّة الذين قضى معهم زهرة شبابه وخدمهم بإخلاص ونال منهم المحبَّة والتقدير والذكر الحسن.
في عام 1930 جرى تأسيس وزارة الخارجية تحت اسم المملكة الجديد (المملكة العربية السعودية) والذي أقرَّ عام 1932 وشغلها في حينها نجله الأمير فيصل بن عبد العزيز.
في بداية عام 1930 أصدر الملك فيصل الأول إرادة ملكية بتعيين الدكتور عبد الله الدملوجي قنصلاً عاماً للعراق في مصر مع بداية نشوء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إذ كانت مملكة مصر والسودان وقتئذ تمثِّل مركز جذب حضاري بين البلاد العربية الشقيقة.
لم يطل بقاؤہ في أرض الكنانة، ففي نهاية العام ذاته شكَّل نوري باشا السعيد وزارته السعيدية الأولى واختار الدملوجي وزيراً للخارجية فيها أصالةً بعد أن كانت بالوكالة لسنوات مضت. وقبل ذلك كان قد نال مقعداً في الانتخابات النيابية عن لواء الموصل. وبذلك أصبح عبد الله الدملوجي أوَّل عربي يشغل هذا المنصب في بلدين عربيين وواحداً من ثمانية أطباء في تاريخ العراق الحديث استوزروا لوزارة الخارجية فكان ذلك شرفاً له وقدراً للدبلوماسية العراقية. باشر بمهامِّه في الوزارة بتاريخ 12/10/1930 لكنَّ هذه الوزارة لم تُقاوم سوى سنة واحدة قَدَّمت بعدها استقالتها إلى الملك. بقي الدملوجي يمارس نشاطه كنائب في المجلس النيابي حتَّى منتصف عام 1932 حين صدرت إرادة ملكية جديدة بتعيينه مديراً للصحة من الدرجة الأولى بعد أن كانت وزارة قبل إلغائها.
في السنة اللَّاحقة توفِّي الملك فيصل الأوَّل فاختارہ الملك الجديد غازي بن فيصل كبيراً لأمناء جلالته لكنَّه لم يبقَ طويلاً في هذا المنصب أيضاً، إذ شكَّل جميل بك المدفعي وزارته الثانية في شباط من عام 1934 وسلَّمه وزارة الخارجية للمرة الثانية.
بعد استقالة وزارة المدفعي صدرت إرادة ملكيّة بتعيين عبد الله الدملوجي مديراً مرَّة أخرى في دائرته السابقة (مديرية الصحة العامة). وأهمُّ ما أنجزه خلال مهمَّته القصيرة في هذه الدائرة إضافةُ سنة سادسة تدريبية للدراسة في الكلية الطبية الملكية العراقية، وهي السنة التي تسمَّى (Stage're) بعد أن كانت خمس سنوات لتتكامل الدراسة والتَّدريب في الكلِّيَّة. وهذه خطوة تحسب للدملوجي إذ كان حكيماً في قرارہ وجريئاً في اتخاذه وما زال سارياً ومعمولاً به إلى اليوم. وبعد أقلّ من سنتين قدَّم استقالته من الوظيفة بسبب الظروف السياسية الحرجة آنذاك والأجواء غير المواتية في البلاد التي أدَّت بعد أشهر قليلة إلى قيام الفريق بكر صدقي بانقلابه العسكري في 29/10/1936، وفيه فقد الدملوجي صديقَ شبابه ورفيقه في الكفاح في إسطنبول الفريق جعفر العسكري.
وبعد أقلّ من سنة من هذه الواقعة، أي في منتصف عام 1937، أصدر الملك غازي إرادته الملكيَّة بتعيين عبد الله الدملوجي رئيساً للتشريفات الملكية أثناء وزارة حكمت سليمان الانقلابية. وخلالها أوفدہ الملك إلى أنقرة لتمثيله في مراسم تشييع مؤسِّس تركيا الحديثة كمال أتاتورك عام 1938 فانتهز فرصة وجودہ في تركيا ليزور إسطنبول بعد ربع قرن من فِراقها. وبعد شهر من عودته للوطن صدَرتْ إرادة ملكيَّة بتعيينه رئيساً للجنة مكافحة الملاريا والأمراض المتوطِّنة لمكافحة مرض الملاريا المتوطِّن في مدينتَي العمارة ودهوك، وقد فاتح حكومة جمهورية ألمانيا للمساعدة فأبدت استعدادها لمكافحة هذا الداء وقامت بإرسال الخبراء والأدوية، وسارت الأمور سيراً ناجحاً فمُنحَ الدملوجي (وسام اللياقة) من منظَّمة الصليب الأحمر الألماني تقديراً لجهودہ المثمرة وتعاونه معهم في ذلك.
وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في 3/9/1939 والأحداث التي عصفت بالبلاد ودخول العراق إلى جانب بريطانيا، وتحت حجَّة حماية البلاد من مخاطر الدخول في حرب مع ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية قام أربعة عقداء في الجيش العراقي يوم 1/4/1941 بحركة انقلابية سُمِّيت (حركة مايس) لكنَّها أُحبِطت بعد أقلّ من شهر من وقوعها.
وبعد استقرار الأوضاع في البلاد وهدوء الأجواء الأمنية والسياسية صدرت إرادة ملكيَّة يوم 9/ 11/1941 بتعيين الدكتور عبد الله الدملوجي مديراً عاماً لدائرة الشؤون الاجتماعية والصحية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية في وزارة نوري السعيد السادسة. وبعد ثلاثة أشهر أَوكلَ له رئيس الوزراء حقيبة وزارة الخارجية للمرة الثالثة. لكن بعد مضيِّ ثلاثة أشهر قدَّم الدملوجي استقالته من الوزارة بحجَّة (تعب صحي) لكنَّها في حقيقتها كانت احتجاجاً على (تنفيذ أحكام الإعدام) بقادة حركة مايس فقُبلت استقالتَهُ من الأميرُ الوصيّ ورئيسُ الوزراء!
وبعد تريُّث وانتظار لسنوات عدَّة تقدَّم الدملوجي عام 1947 للترشح لانتخابات الدورة الحادية عشرة للمجلس النيابي عن لواء الموصل وحصل على مقعد فيها، لكنَّه لم يغب عن سياسة بلدہ الخارجية إذ شارك ضمن وفد العراق إلى اجتماعات الدورة الثانية للأمم المتحدة في نيويورك الذي رأسه نوري باشا السعيد رئيس مجلس الأعيان وقتئذٍ ووزير الخارجية الدكتور محمد فاضل الجمالي عضواً فيه.
عاد الدملوجي من نيويورك إلى بغداد يوم 17/1/1948 بعد زيارات قصيرة إلى لندن وبيروت والقاهرة ليجد أمامه أزمة جديدة رافقتها احتجاجات جماهيرية غاضبة إثر توقيع رئيس الوزراء صالح جبر معاهدة جديدة مع بريطانيا سُمِّيت (معاهدة بورتسموث) تحلُّ محلَّ معاهدة عام 1930، لتبدأ بعد هذا التاريخ بأشهر قليلة الحرب في فلسطين ويدخل العراق إلى جانب أشقَّائه العرب. وكان البرلمان العراقي الجديد قد انتُخِبَ للتَّوِّ وفاز فيه الدملوجي للمرة الثالثة.
في عام 1950 فاتح رئيسُ الوزراء الجديد عليّ جودت الأيوبي خلال وزارته الثانية الدكتورَ عبد الله الدملوجي مبدياً رغبتَه بتعينهِ أوَّل سفير فوق العادة في إيران بعد رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين من مفوضية إلى سفارة فقدَّم استقالته من المجلس النيابي وغادر إلى طهران، وقضى في سفارتها هناك أكثر من سنة، أحيل بعدها إلى التقاعد. وقبل مغادرته العاصمة قلَّدہ شاہ إيران محمد رضا بهلوي وسام (همايون) من الدرجة الأولى تقديراً لخدماته الجليلة في توطيد العلاقات الثنائية بين البلدين ومعالجة المشاكل التي كانت تظهر بينهما بين الحين والآخر خلال مدَّة عمله.
في 12/7/1952 ألّف مصطفى بك العمري وزارته الجديدة واختار الدكتورَ عبد الله الدملوجي على رأس وزارة المعارف. وعلى الرغم من المدَّة القصيرة التي قضاها في هذه الوزارة، أربعة أشهر وعشرة أيام، فقد أرسل خلالها الكثير من الطلاب في بعثات دراسية خارج العراق لينالوا شهاداتهم العالية. وأدخل مادة الدين الإسلامي في المنهاج الدراسي حتَّى المرحلة الإعدادية.
في بداية عام 1957 صدرت إرادة ملكيَّة بتعيينه سفيراً من الدرجة الأولى في وزارة الخارجية لثلاث سنوات كُلِّف خلالها بمتابعة سير المفاوضات الثنائية بين العراق والسعودية وترطيب الأجواء بين البلدين بصفته سفيراً متجوِّلاً (Ambassador at Large) لما له من خبرة طويلة في هذا المجال ولمكانته الخاصَّة لدى العائلة المالكة في السعودية. وهذا المنصب استحدثتهُ الحكومة لأول مرة له إذ لم يشغله شخص آخر لا قبله ولا بعدہ ولغاية اليوم.
سافر الدملوجي إلى الرياض وقابل الملك سعود وقدَّم له دعوة رسمية باسم الملك فيصل الثاني لزيارة العراق. أبدى الملك ودَّہ الكبير للعراق وللعائلة المالكة وعَدَّ (البيتين الملكيَّين بيتاً واحداً). وهكذا تحقَّقت زيارة تاريخية للملك سعود إلى العراق فوصل بغداد يوم 11/5/1957 ورافق الدملوجي الضيفَ الكبير بالطائرة إلى بغداد وعاد معه إلى الرياض بعد زيارة ناجحة استغرقت أسبوعاً كاملاً. مقابل ذلك وبعد سبعة أشهر ردَّ الملك فيصل الثاني الزيارة بزيارة ودِّية مماثلة، بترتيبات مسبقة من الدكتور الدملوجي أيضاً.
في 14 تموز 1958 وقع الانقلاب المشؤوم على العائلة المالكة وعلى النظام برُمَّتِه، وبعد أسبوع من ذلك اليوم الدامي صدر (مرسوم جمهوري) بإحالة عبد الله الدملوجي إلى التقاعد لتنهي ثلاثة عقود خدمة ممتازة قدّمها لبلدہ، فكانت (مكافأة نهاية الخدمة) له حجزُه تحت الإقامة الجبرية في دارہ ووضع ممتلكاته تحت الحجز الاحتياطي ريثما يتمُّ التأكد من أمانته ونزاهته أثناء خدمته في الدولة. وبعد عام ونصف تأكَّد للحكَّام الجُدُد نظافةُ ثوبه وطهارة يدہ فرُفع الحجز عن كلِّ شيء، وأمضى الدملوجي بقية حياته بعيداً عن السياسة وبعيداً عن كتابة سيرة حياته أيضاً.
ونظراً لسمعة هذا الرجل وخدمته الجليلة في نجد والحجاز والوفاء الذي يكنُّه كلُّ طرف للآخر تلقَّى الدملوجي عام 1968 دعوة كريمة من الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود الذي تولى حكم المملكة العربية السعودية عام 1964، ليكون ضيفاً في بيت الرحمن وضيفاً على جلالته خلال موسم الحج القادم فلبَّى هذه الدعوة المميَّزة ونزل في دور الضيافة المخصَّصة لرؤساء الوفود، وتشرَّف خلال مراسم الحج بغسل الكعبة المشرَّفة، وهو شرف لا يحظى به إلَّا الملوك والرؤساء. وبعدها قابل الملك فيصل وقدَّم له التهنئة بمناسبة العيد فكان ذلك آخر نشاط خارجي وداخلي يقوم به هذا الرجل الكفء وكأنَّها (حُجَّة الوداع) لحياته الزاخرة بالعطاء.
وفي يوم 2/12/1971 وإثر نوبة قلبيّة مفاجئة أتته وهو نائم انتقل الدكتور عبد الله الدملوجي إلى جوار ربِّه في دار البقاء ووري جثمانه الثرى في مدينة آبائه وأجدادہ الموصل الحدباء. وبذلك انتهت حياة رجل معطاء خدم العراق والسعودية خدمة جليلة، وعمل بكل تفاني وإخلاص وقدَّم إنجازات على الصعيدين الداخلي والخارجي، وواكب السياسة بمفاصلها ونوائبها بدءاً من احتلال الإنكليز للعراق وانتهاءً بنكبة الخامس من حزيران وضياع القدس الشريف وفلسطين، تاركاً وراءہ الباقيات الصالحات وهي خيرٌ عند ربِّه ثوابا.
طيَّب الله ثراہ وأسكنه الفردوس العالي...
وصدق الإمام الغزالي حين قال:
قد ماتَ قومٌ وما ماتتْ فضائلهم
وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ
خلاصة ما ذكرناہ أعلاہ فأنَّ الدكتور عبد الله الدملوجي الذي كان يجيد التحدّث بستَّ لغات بطلاقة إلى جانب لغته العربية وعلى امتداد حياته ونشاطه السياسي قد شغل خلال الحقبة الملكية في العراق تسعة مناصب حكومية مختلفة هي: وزير خارجية ثلاث مرَّات، وكبير أمناء الملك غازي ورئيس التشريفات الملكية، ومدير عامّ الصحة مرَّتين، وعضو المجلس النيابي لثلاث دورات، ووزير معارف، وسفير في وزارة الخارجية ثلاث مرَّات، ومدير عام الشؤون الاجتماعية والصحية، ورئيس لجنة مكافحة الملاريا والأمراض المتوطِّنة، فضلاً عن مناصبه السابقة في أرض نجد والحجاز. ونال خلال مسيرته الوظيفية الطويلة عدداً من الأوسمة الرفيعة من حكومات دول أجنبية وصديقة نظير عمله الدؤوب معهم أثناء تكليفه.
ومن خلال هذه السيرة الطويلة يلاحظ القارئ الكريم أنَّ المدَّة الزمنية لبقاء صاحب السيرة في كلِّ منصب من المناصب التي تولَّاها محدودة جدَّاً إذ لم تتعدَّ السنتين كحدٍّ أقصى. وباعث ذلك أمَّا حاجةٌ ملحَّة لنقله لمنصب أرفع، أو استقالتُه من الوظيفة بمحض إرادته، أو استقالة الوزارة، أو بطلبٌ من الملك أو من رئيس الوزراء، نتيجة كفاءته في أيِّ موقع يشغله.
الكتاب بطباعته الأنيقة وغلافه الأخضر الجميل وصفحاته الأربعمائة احتوى على أكثر من مائة وخمسين صورة تاريخية نادرة نقيّة وأكثر من خمسين وثيقة أصلية، أغلبها من المجموعة الخاصَّة لصاحب السيرة، احتفظ بها حفيدہ الأستاذ مناف الدملوجي طوال هذه السنين ليزيِّن بها مؤلَّفه ويقدِّمه للمكتبة العربية كوثيقة مهمَّة لجانب مهم من تاريخ العراق الحديث.
في الختام لا يسعنا إلَّا أن نقول: هنيئاً للأستاذ مناف الدملوجي إصدارہِ الثمين هذا وما بذله من جهد متميِّز وشاقٍّ، ونشدَّ على يدہِ لما أبداہ من وفاء لجدِّہ ولعائلة الدملوجي. وحريٌّ أن يفتخر هو وأسرته بسيرة رجل قدَّم عطاءہ لأمَّته ونمائها. وبلا شك فإنَّ جَدَّہ وهو في قبرہِ سيكون محبوراً بما أثرى عنه حفيدہ، كما نحن أبناء العراق الأصلاء نفتخر برجلٍ ستذكرہ الأجيال بأحرف من نور وإن كان الزمن قد أغفل ذكرہ لسنوات طويلة حتَّى صدور هذا الكتاب.
دعواتنا إلى الباري عزَّ وجل أن يحفظه وعائلته ويحفظ العراق ووطننا وشعبنا العربي من كلِّ مكروه ويجنّبهم كلَّ سوء. إنَّه سميعٌ مجيب.