نحو عقد عربي من أجل الحياة في القدس
خالد الغول
08/02/2010
الجدل حول مستقبل القدس تخطى الترف الفكري والتأمل البارد لمعلم تاريخي أو قصة حضارية، ولم يعد قراءة هادئة في المحتمل والممكن. لقد فاق واقع القدس في سطوته كل متخيل، وتجاوز كل المداولات البليدة للمؤسسات العربية الرسمية وغير الرسمية، وقفز عن أوهام استعادة المهدوم، واسترداد المنهوب، وسخر من كل الحوارات المبنية على أوهام تأنيب الضمير الكولونيالي.
في ظل قصور ذاتي تاريخي عربي وإسلامي كبير حيال القدس، تحولت المدينة بفعل البطولات الكلامية إلى قصيدة، أو لوحة، أو سيناريو، أو رقصة، أو نشيد، أو مقطوعة موسيقية، أو اسكيتش مسرحي، او بيان ناري، أو رقم مذهل في إحصائية مرعبة، تشكل مجتمعة حالات فردية تضامنية تعبرعنها فئة ممن ما زالوا يتذكرون القدس أو تربطهم بها نوستالجيا سوق العطارين المعرض للتفريغ من عطوره وبهاراته وعطاريه. في حين رأى متضامنون آخرون أن تصبح القدس 'رغيفا' أو 'كوبونا خيريا' أو 'إفطارا جماعيا' أو 'منحة للحج' أو ما شابه من مزادات الكرم والنخوة العربية والإسلامية التي لا تبني أي قيمة أو فكرة، ولا ترمم مطبخاً أو حائطاً لسد الريح الهائجة على أطفال الحرمان والشقاء في قدس العروبة والإسلام!
هناك فرق بين أن تكون القدس فكرة أو رمزاً أو حلماً أو مباراة في البلاغة، وبين أن تصبح تجسيداً وواقعاً وحياة وتفاصيل.. وهناك فرق بين أن تكون القدس في القلب وأطلال المشاعر، وبين أن ترسخ في العقل وفي البرنامج وعلى رأس جدول الأعمال.. وهناك فرق بين من يريد القدس كي تعيش فيه، ومن يريد القدس كي يعيش فيها. فالقدس كيان حي متدفق يخنقه الحصار، ويكبله العزل، ويداهمه البلدوزر المدجج بالخرافة. وبرنامج الإلغاء الواقعي يخطو بثبات دون كلل أو ملل من جهة، وإستراتيجية الحروب الرمزية تشحذ سيوفها الصدئة بلا طائل من جهة مقابلة.
القدس يا أهل العروبة والإسلام، ليست شأناً فلسطينياً فحسب، إنها مسألة كونية كبرى مختزلة في قصة مدينة،، وكل ما فوقها وتحتها يستنطق التاريخ في حمأة الصراع المحتدم حول حق الوجود، وصدق الرواية، وعمق الحضور، ورحابة الامتداد.
القدس، أيها الناس، أمام خيارين: أما أن تحضر كلياً أو أن تغيب تماماً.. وعليها أن تنقش سفر البقاء المتجدد كي لا يقول التاريخ بعد قليل: مر العرب من هنا يوماً ما، أو أذن المسلمون في مسجدهم هنا بعد الأصيل ثم غربت شمسهم، أو قرعت الكنيسة جرسها هنا ظهيرة الأمس ثم صمت الرنين.
القدس في العام 2020 لن تكون القدس التي عرفناها ونعرفها، أو التي ما زلنا نتلمس بعضاً من ملامحها، بل ستكون (قدساً) أخرى تشبه بيارة كانت لنا من زمان، وقرية قتلها الطاعون، وميناء جفت ينابيع روحه. وسنكون أمام طلل نغنيه بصوت لا يشبهنا.
في القدس صراع مستعر من أجل البقاء: تاريخياً يكتبون ويختلقون ويصوغون ويحفرون في الوعي ذاكرة جديدة تمحو ذاكرتنا عنا وذاكرتهم عن أنفسهم حتى يتخلق واقع جديد وذاكرة جديدة. وجغرافياً يسيطرون على المكان ويتمددون في البقاع ويلتهمون الموروث بكل تجلياته قطعة قطعة.
إنهم بذلك يحتلون التاريخ والجغرافيا ويواصلون مهمتهم التاريخية في إعادة صياغة التاريخ وإعادة ترتيب المكان. ولأن الزمان والمكان لا معنى لهما بدون ناس يعتلون صهوتهما، كان لا بد من إتمام المهمة وتفريغ المكان والزمان من أصحابهما. وهذا ما يجري العمل عليه على قدم وساق إلى أن يشهد العام 2020 حضوراً محدوداً يرمز لأقلية عربية في القدس لا تزيد نسبتها عن عشرين بالمئة من حجم السكان.
ليست المسألة مسألة ديموغرافيا، وحسب، ولا تقاس هكذا بالأرقام.. إنها مسألة حضور التاريخ والتراث والحضارة في وعي إنساني مهدد بالاضمحلال، وموعود بالخفوت حتى الصمت المطبق، فيغيب الناس وتغيب معهم أي منظومة فكرية وقيمية وإبداعية وسلوكية ومعمارية متناغمة تعلن في تجلياتها عن حياة إنسانية يومية، ظل يشكل استمرارها ومجرد وجودها خطراً محدقاً بمشروع الاقتلاع.
من ناحيتنا (القدس في القلب!)، ومن ناحيتهم ( يروشلايم بروش) أورشليم في الرأس.. في العقل، وفي المخطط الهيكلي للوجود.
ولكي يكون للقدس ناسها وبرنامجها وألقها وحضورها الناصع في العقل قبل القلب، وفي الجغرافيا قبل التاريخ، وفي امتلاء العين قبل تضخم الأذن.. وكي لا تضيع منا فنندبها كما بكى أبو عبد الله (الصغير) الأندلس. فإنه لا بد من أن توضع القدس على رأس جدول الأعمال في كل مكان، وفي كل منحى من مناحي الحياة إلى أن تهيمن برسوخ في وعي ووجدان وبرامج وأولويات كل الناس في العالم بصفتها مدينة عربية.
لا يكفي أن نقول (القدس في خطر) ونمشي، فالسماء لا تحمي الأرض بناس لا يحرثونها، والرب يحمي البيت بناس يسخرهم كي يكونوا حماته الأشداء، وكي يكونوا على قدر العزائم. وإن مات أول المسلمين في القدس فلن يكونوا جديرين بثالثهم في مكة.. لا حياة للثالث إن لم تحضر الأولى. أما المسيحي فلا مكان آخر له غير القدس، ومدينة السلام هي فقط مدينته.. هي ميلاده وصعوده.
الآن، وبعد أن أسدل الستار على احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009، وقضي أمرها، فان علينا أن نعتبر نهاية الاحتفالية بداية لقرع جرس الاهتمام الأوسع والأشمل بالقدس، وأن نستفيد من هذه التجربة بما سجلت من ايجابيات وسلبيات، وأن نتهيأ للإعلان عن احتفاء مختلف بالقدس وفيها، أكثر رسوخا وتجذرا وعمقا ورصانة، وأوسع امتداداً وشمولية وافقاً واستبصاراً. بحيث يحكي حكاية المدينة كل الناس في كل الدول العربية والإسلامية، في البيت والمدرسة والجامع والكنيسة والمسرح والمقهى والشارع والميناء والمطار، وعلى الشاشة والورقة، وفي الليل والنهار، وعند الطفل والشاب والكهل، والرجل والمرأة، ولدى جميع قوى العمل والإنتاج، وفي وعي وذاكرة وخيال ووجدان وضمير كل طبقات وفئات وشرائح المجتمع. وبكل الوسائل والأدوات الممكنة ثقافياً وإبداعياً وإعلامياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
فلنقرع جرس العقد الثقافي والاجتماعي من أجل القدس، كي يدوي في كل بلاد العرب والمسلمين اعتباراً من أوائل العام 2011 وحتى أواخر العام 2020. ولتكن الأعوام العشرة القادمة أعواماً من أجل الحـــياة والبقاء والوجود في القدس، تسترد القدس فيها حضورها التاريخي والجغرافي والبشري، ويشب لسانها عن الطوق، فتنطق اسمها العربي البليغ، وتعلي صوتها الحضاري الممتد في كل العصور.
أما كيف وأين ومن ومتى؟الخ، فللمبادرة تفاصيلها التي لا بد أن تناقش.
كاتب فلسطيني