قِصَص أبي جلال المجنون من مزبلة عكّا
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
قِصَص أبي جلال المجنون من مزبلة عكّا
The Stories of Abū Ğalāl the Crazy from the Dump of Acre
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها سميح بن الأمين بن صالح صدقة الصفري (سلوح بن بنيميم بن شلح تسدكه هصفري، ١٩٣٢- ٢٠٠٢، فقد ابنه البِكر واصف/آشر وعمره ١٨ عاما، عام ١٩٨٧؛ من حُكماء الطائفة، كاتب، شيخ صلاة، تاجر بارع، نسخ بخطّ يده الجميل كُتبًا كثيرة، نظم أشعارًا للفرح والترح) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقلها إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأُسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد١٢٤٨-١٢٤٩، ١ أيلول ٢٠١٧، ص. ٣٢-٣٤. هذه الدورية التي تصدُر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدُر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة نسَمة، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضْل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتْسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”ألْقاب غريبة
ها أنتَ ترى طبيعة الناس. إنّكَ تقرأ في مخطوط ”الدفتر“ الذي جلبته من أمريكا. وتوجد هنا شَهادة شخص اسمه يعقوب من عائلة الدنفي الملقّب بـ ”كليب“، ولا تسألْني ما هذا. وقد لُقّب صدقة الدنفي بالكنية ”شلبي“، وسمّوا عبد الله الدنفي بالاسم ”لطيف“ وهكذا حمَلت عائلة ”ألطيف“ اسمه. كما أطلقوا على يعقوب صدقة النسبة ”العكّاوي“ لأنّه أكثر من التجارة في عكّا، كُنىً شتّى، لا حدَّ لخيال أبناء طائفتنا. أبو أُسرتنا في حامولة الصباحي، حبيب صدقة تصاحب مع شخص نابلسيّ اسمه التكروري، وهكذا أطلقوا عليه وعلى ذريّته هذه النسبة ”التكروري“. لا يمكنك اقتلاع الكنية من أفواه السامريّين حتّى ولو استخدمت أحدث رافعة/وِنْش. أنت لا تريد الاقتلاع؟ أأنت حقًّا راضٍ عن اللقب؟ أيحلو سماعه للأذن؟ فليكن. أنا، لو سمحتَ لي، غير راضٍ عن الكنية ولكن ما وقع وقع.
أبو جلال يستحقّ الاحترام
نعم، أبو جلال هو يوسف بن حبيب صدقة؛ لا تقُل أبو جلال فحسب بل عمّي أبو جلال، إذ أنّه كان شقيق أبي أبي، أخ جدي. بالكاد عرفته إلا أنّ أبي الأمين (بنيميم) الذي مات بعده ببضع سنوات علّمنا كلنا تقديره واحترامه. أبي كَنّ له احترامًا عظيمًا بسبب حِذْقه الطبيعيّ وبسبب القصص الكثيرة التي سمعها، الحوادث التي كان شاهدًا لها، وكلّ ذلك نمّ عن خِبرته وحِكمته الجمّة في إيجاد طريق الحياة، حيث يتِمّ فيها احترام الديانة الإسرائيليّة في أوساط جيران معادين.
لا تظننّ أنّ ذلك ساعده ليصبح ثريًّا كبيرا. في الواقع، كان فقيرًا مدقعًا ولكنّه احترم نفسه كثيرا، حصل على ماله الضئيل باستقامة وفِطنة لإعالة عائلته بشرف. نحن تعرّفنا عليه في سنواته الأخيرة، عندما خارت قِواه. وكان أبي حريصًا جدًّا على احترامه، وكان يُنزِل بنا عقابًا قاسيًا على أقلَّ إشارة من الوقاحة الصبيانيّة.
أبي ذكر له أيّام التجارة الجميلة، أيّام خروج قوافل التجّار التي كانت تتوجّه شَمالًا إلى دمشق لتأمين لقمة العيش. لا أحدَ مثل أبي جلال، عرف المحافظة على قيمة كلّ قرش؛ بشقّ الأنفس تمّ الحصول على القرش. عادة، كانت تتمّ التجارة في مِنطقة نابلس، في قرى ضواحيها. وأبي في أيّام شبابه وكذلك أبوه وأعمامه كانوا يحمّلون الأقمشة على الحمير، ويطوفون من قرية لأخرى في لِوائي نابلس وجنين لعرض بضاعتهم. كانوا يغادرون أحيانًا يوم الأحد ويعودون إلى البيت عند حلول يوم الجمعة فقط. وكان لهم أصدقاء في كلّ قرية من قرى المنطقة، حيث كانوا يباتون عندهم بالمجّان أحيانًا، وأحيانا مقابل مبلغ زهيد أو مقابل كتابة تعويذة لجلب الحظّ.
في كلّ مرّة، كانوا ينتقون مكانًا معيّنًا، ومنه يتنقّلون من قرية لقرية. وكان قدومهم لقرية ما بمثابة عيد لها؛ كان كلّ سكّان القرية يتجمّعون حولهم، يتفحّصون ويتلمّسون بعيون تتلألأ الأقمشةَ الملوّنة ومحارم الحرير الفتّانة ولُحف الريش التي خاطتها يد فنّان نابلسي. وكان أبي وأعمامي يُستقبلون بالفعل في كلّ مكان استقبال الملوك. وعند حلول المساء كان مسنّو القرية يجلسون في الساحة الواسعة في مركز القرية ويدعون الضيف، تاجر القماش السامريّ للجلوس بمعيّتهم، وهناك بينما كانوا يُعمرّون الأرجيلة ويدّخنون بها، أسهبوا في طرح الأسئلة حول ما يجري في المدينة الكبيرة وحول قصص متنوّعة وغريبة (نهفات) حدثت لهم.
كما لم تخْلُ تلك الجلْسات من النقاشات حول أوجه الشبه والاختلاف بين الإسلام والتقاليد السامريّة، وأبلى أقاربي في ذلك بلاء حسنًا بدون المسّ بشرف مضيفيهم. كانوا يفضّلون شراء البضاعة بصورة مركّزة من الشام أو من تاجر محليّ. كان يتجمّع بعض السامريّين وباعة عرب في مجموعة، ويسيرون في قافلة إلى الشام. لا أحدَ كان يفكّر في السفر وحيدًا أو مع اثنين ثلاثة، الطريق كانت محفوفة بمخاطَر كثيرة ومستمرّة.
المجنون من مِزْبلة عكّا
كانوا ينطلقون من نابلس، يتوقّفون في عكّا، ومنها إلى دمشق. ثلاثة أيّام تقريبًا كانت تستغرق الرحلة. كانت الطريق خطرةً حقًّا لكثرة عصابات اللصوص التي كنت تنهَب القوافل، لا سيّما في طريق دمشق. كان كلّ تاجر يُخفي في حِضْنه صُرّةَ العُمْلات النقديّة والذهب لشراء البضاعة في دمشق.
أخطرُ مكان في الرحلة كان الطريق بين حيفا وعكّا، ولا سيّما آخر واد قبل عكّا. هناك كان يكمُن اللصوص، وبينما كانت القافلة تسير ببُطء إلى أعالي الوادي الضيّق، كان اللصوص ينقضّون عليها بهجوم من الأعلى، يُطلقون النار في الهواء أو يُهدّدون بالسلاح حتّى تسليمهم كلّ المال. عندها كانوا يتركون القافلة المسكينة وهي خالية الوِفاض، وكان التجّار يقفلون راجعين إلى بيوتهم مُحطّمين مُنهكين.
القوافل التي كانت تحمِل السلاح، أو أنّها ضمّت تجارًا جُدْعانًا/أبَضيات كانت تمرّ بسلام. ذات يوم التحق أبو جلال لإحدى القوافل التي وصلت ذلك الوادي الخطير. خاف التجّار من دخول الوادي لأنّهم غير مسلّحين، وتبيّن أنّ لا أحدَ فيهم يقوى على مجابهة اللصوص. وفي أوّل الوادي تقَع مِزبلة عكّا، هناك كانت تُحرَق كلّ قُمامة عكّا.
”إتّكِلوا عليَّ“، قال أبو جلال لرفاقه. طلب منهم صُرر المال التي بحوزتهم، وسُرعان ما سلّموه إيّاها لمعرفتهم بفطنته الفائقة. ربط أبو جلال الصرّة بالأُخرى ثم ربطها جميعًا حول ظهره وبطنه ولبس قميصه ومعطفه. ثم استلقى على أرض المِزْبلة وأخذ يتدحرج فوق تراب بارد لموقد قديم. أخذ يُسيل اللعاب من فمه ويصيح صيحاتٍ غريبة عجيبة. نظر إليه التجّار وبدؤوا يخافون على أموالهم.
ومن موجة دهشة لأُخرى، هاجم اللصوصُ القافلة. تابع أبو جلال بعرضه الجنونيّ. فتّش اللصوص أوعية التجّار الذين قالوا إنّهم لا يملُكون في جيوبهم سوى قروشٍ قليلة فهم فقراء مدقِعون ويودّون العودة إلى قراهم في الجليل.
أُصيب اللصوص بخيبة أمل شديدة. العزاء الوحيد كان ما قام به مجنون مِزبلة عكّا من مكائدَ، كان ملوّثًا ملطخًا ورائحة المزبلة النتنة أبعدت عنه كلّ المتواجدين في تلك الناحية. ضحِك اللصوص وتركوا القافلة تسير في طريقها ولحق بها ”المجنون“ حتى خروجهم من الوادي.