قلق في لبنان.. وفي اسرائيل ايضا
عبد الباري عطوان
خبير غربي في دراسات الشرق الاوسط توقف في لندن في طريق عودته الى الولايات المتحدة بعد زيارة لبيروت وتل ابيب، تحدث في مجلس خاص مع مجموعة محدودة من الصحافيين، عن 'خيبة أمل' اسرائيلية متعاظمة من تراجع حدة الصراع المذهبي في لبنان، وتضاؤل احتمالات انفجار 'الحرب الأهلية'، بين انصار الطائفتين الشيعية والسنية. وتوقع ان تشهد الاسابيع الاولى من العام الجديد تحركات امريكية واسرائيلية لصب الزيت مجدداً لاشعال لهيب هذا الصراع بكل الطرق والوسائل.
هناك ثلاث جبهات يمكن ان تركز عليها اسرائيل في هذا الاطار بمساعدة من الولايات المتحدة الامريكية:
أولاً: صدور القرار الظني عن المحكمة الدولية المختصة بملف اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري المتوقع في الثلث الاخير من شهر كانون الثاني/يناير المقبل، وتوظيف هذا القرار في تأليب بعض ابناء الطائفة السنية لانه سيوجه الاتهام الى 'حزب الله' بالوقوف خلف الجريمة.
ثانياً: توصل اسرائيل الى صفقة مع قوات 'اليونيفيل' الدولية بتولي المسؤولية في شمال قرية الغجر التي ستنسحب منها القوات الاسرائيلية، مع السماح للاسرائيليين بالتواجد في ثياب مدنية بعد الانسحاب، وما يتردد عن موافقة رئيس الجمهورية اللبناني ميشيل سليمان والسيد سعد الحريري رئيس الوزراء على هذه الصفقة، ومعارضة 'حزب الله' لها. وهو خلاف يمكن ان يتطور وينعكس سلباً على الحكومة اذا لم يتم تطويقه بسرعة.
ثالثاً: تسخين جبهة قطاع غزة من خلال اختراقات اسرائيلية مكثفة على شكل غارات جوية، واغتيالات، يمكن ان تتطور الى اجتياح كامل، وربما 'احتلال مؤقت'. ومن غير المستبعد ان يؤدي اي اجتياح اسرائيلي للقطاع الى استفزاز 'حمية' حزب الله والانتصار لحلفائه في الجبهة الجنوبية الفلسطينية.
***
بعض التسريبات التي وردت في وثائق ويكيليكس، حول تورط بعض اطراف الرابع عشر من آذار في الحرب على لبنان في صيف عام 2006، وتآمرها بالصمت على الاقل او تشجيعها بطريقة غير مباشرة، جرى استيعابها او بالاحرى امتصاصها، ولكن الافراج عن آلاف الوثائق الاخرى الاكثر تفصيلاً مثلما هدد جوليان اسانج صاحب الموقع في حديثه لقناة 'الجزيرة' يوم امس خاصة اذا ما تم الكشف عن تورط مباشر، لاطراف لبنانية داخلية او لقوى عربية داعمة لها، فان الوضع سيكون مختلفاً تماماً.
اللبنانيون قلقون، ويضعون اياديهم على قلوبهم، والاحتفالات الباذخة باعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية ربما تكون محاولة للهروب والنسيان في الوقت نفسه، فالشيء الوحيد الذي يتفق عليه معظم اللبنانيين هو حتمية الحرب، وما يختلفون عليه هو موعدها، ولكن الاسرائيليين قلقون ايضاً، بل اكثر قلقاً من اللبنانيين أنفسهم، لانهم لم يعودوا يملكون زمام المبادرة بالكامل مثلما كان عليه الحال في الحروب السابقة.
المنطقة باتت تشهد تحولاً استراتيجياً خطيراً في الميدانين السياسي والعسكري لا تستطيع اسرائيل السيطرة عليه، او التعاطي معه من موقع قوة. الاول يتمثل في نشوء معادلات قوة جديدة، عنوانها ايران وتركيا كقوتين معاديتين. والثاني في ميادين القتال في لبنان، وبدرجة اقل في قطاع غزة.
اسرائيل لم تعد قادرة على حسم الحروب التي تخوضها في ايام او ساعات محدودة، مثلما كان عليه الحال في الماضي، كما ان استراتيجيتها السابقة 'الصدمة والارعاب' shock and owe فقدت فاعليتها، فحربها الاخيرة على لبنان استمرت 33 يوما، وحربها الاحدث على قطاع غزة استغرقت ثلاثة اسابيع، والحربان فشلتا فشلا ذريعا في تدمير البنى التحتية للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بل جاءت بنتائج عكسية تماما، فاستعدادات الحركتين باتت اكثر قوة حسب التقديرات العسكرية الاسرائيلية نفسها.
ان اكثر ما تخشاه اسرائيل حاليا هو التورط في حرب استنزاف طويلة تستهدف جبهتها الداخلية، من خلال اطلاق مئات الصواريخ يوميا لعدة اسابيع، واجبار الجيش الاسرائيلي على محاولة اخمادها بالهجوم على الاماكن التي تنطلق منها، والامر الذي سيؤدي الى خروجه من دروعه الطائرة او الارضية (الدبابات) وهنا تكمن المصيدة الاخطر التي يحاول القادة العسكريون تجنبها مثلما حدث في حربي غزة ولبنان.
الاستراتيجيات العسكرية الاسرائيلية ظلت تركز، ومنذ حرب السادس من تشرين الاول (اكتوبر) عام 1973 على عدم خوض الحروب البرية، لتجنب وقوع خسائر كبيرة في صفوف قواتها. ولهذا لجأت دائما الى سلاحي الجو والدبابات، ولكن هذه الاستراتيجية الهروبية من المواجهة مع رجال المقاومة لم تحقق اياً من اهدافها، وجعلت الخط البياني للقوة العسكرية الاسرائيلية المهابة في المنطقة يتجه هبوطا بعد كل حرب، موسعة او محدودة.
اسرائيل تعودت طوال الخمسين عاما الاولى من عمر قيامها على خوض حروبها في ارض الآخرين، مثلما تعودت على مواجهة انظمة تطلق الشعارات وليس الصواريخ على جبهتها الداخلية، الصورة الآن تغيرت لان من يحارب اسرائيل حاليا منظمات متحررة من قيود الدولة، وتنطلق من عقيدة اسلامية تعظم الشهادة والفداء.
* * *
العنصر الجديد اللافت للنظر هذه الايام يتلخص في خروج حركات المقاومة هذه، وخاصة في قطاع غزة من مرحلة انتظار العدوان الاسرائيلي، او محاولة تجنبه بكل الطرق والوسائل من خلال الالتزام بالهدوء او بالاحرى وقف اطلاق النار غير المعلن وغير المتفق عليه. فالصواريخ عادت الى الانطلاق مجددا من قطاع غزة كرد على غارات اسرائيلية، وهذا يعني ان المقاومة الفلسطينية في القطاع لم تعد تخشى المواجهة بل تستعجلها، لاحراج النظام الرسمي العربي وفضح عوراته، واستغلال حالة الكراهية والنبذ التي تعيشها اسرائيل في اوساط حلفائها الغربيين بسبب اطلاقها رصاصة الرحمة على العملية السلمية الهزيلة.
عندما زرت لبنان قبل شهرين، التقيت احد قادة 'حزب الله' العسكريين الكبار جدا، على مائدة عشاء دعا اليها صديق مشترك، هذا القائد الكبير قال لي بالحرف الواحد 'لماذا تتوقعون منا ان ننتظر العدوان الاسرائيلي دائما؟ ولماذا لا نكون نحن المبادرين باشعال فتيل الحرب اذا ما تأكدنا انها قادمة لا محالة.. نحن قد نختار التوقيت الذي يناسبنا، ونحن مستعدون لكل الاحتمالات وسترى ذلك بعينيك والايام بيننا'.
الثقة بالنفس التي لمستها من حديث ذلك المسؤول الكبير، وهي ثقة مجبولة بالتواضع على اي حال، والتحليل العلمي الدقيق جدا للمؤسسة العسكرية الاسرائيلية، وما يدور داخلها من مناقشات واستعدادات واحتمالات، جعلني اصل الى قناعة راسخة بان الحرب المقبلة اذا ما اندلعت ستكون نتائجها مختلفة كليا عن كل الحروب السابقة، ولن تكون اسرائيل هي المنتصرة فيها حتما.