حـريـق الـقـاهـرة 2011
أحمد محمد أبوزيد
2011-01-26
منذ حوالي ستة عقود، وفي شتاء شديد البرودة كالذي تشهده القاهرة هذه الأيام، أشعل الملك فاروق النار في عاصمة ملكه ووقف يتفرج عليها تحترق كانه نيرون. إن القاهرة اليوم أقرب ما تكون لتكرار هذه الحادثة. ففي السادس والعشرين من كانون الثاني(يناير) 1952 وبعد عقد من الازمات والصراعات السياسية التي شهدتها مصر عقب حادثة 4 شباط (فبراير) 1942 أنهى الملك فاروق هذه المرحلة، بتحريضه مجموعة من قوات الحرس الحديدي على إضرام النار في عاصمة ملكه، لاتخاذها ذريعة للقضاء على كافة الجماعات الوطنية (السياسية والاجتماعية) المعارضة له ولنظام حكمه الفاسد. لقد صور له قصر نظره السياسي وبعض مستشاريه انه باقدامه على هذه الفعلة سوف يسود الاستقرار والأمن في أرجاء المملكة المصرية، ولكن التاريخ أثبت لنا عقم هذا المنطق. فبالتضافر مع ما حدث للجيش المصري في فلسطين 1948 من هزيمته هو وخمسة جيوش عربية وأستمرار الاحتلال البريطاني لمصر، كانت حادثة حريق القاهرة أخر مسمار دق في نعش الملكية العلوية في مصر. فقد قامت ثورة 23 يوليو المجيدة بعدها بشهور معدودة بتغيير نظام الحكم في مصر، ونفي الملك وأعوانه للخارج.
ما أوجه الشبه بين حادثة حريق القاهرة وما يحدث في مصر (المحروسة) هذه الايام؟ إننا نجادل بإنه بسبب فساد وتبعية النظام السياسي المصري، وتجبر المؤسسات الأمنية، وجهل المؤسسات الاعلامية وأستقطاب المؤسسات الدينية، وتردي العلاقة بين الدولة والمجتمع، فإن القاهرة مقبلة على حريق سياسي عظيم، ستفوق آثاره وعواقبه ما حدث منذ ستة عقود.
تبعية النظام السياسي للقوى الخارجية
النظام السياسي القائم في مصر منذ 1981 بلغ مداه في الفساد محلياً والتبعية للخارج. حيث باتت مصر مدعاة للسخرية وتقليل الشأن في كافة الدوائر السياسية والاكاديمية الخارجية. فبسبب سياساته الحكومية العشوائية والمتخبطة داخلياً، فساد النخبة الحاكمة، وتبعية ومسايرة ركب الولايات المتحدة الأمريكية ولو على حساب الأمن القومي المصري فإن درجة الرفض الشعبي لهذا النظام بلغت مدى لم تعهده مصر من قبل.
بدأت مؤشرات هذا الفساد والتبعية عقب حرب الخليج الثانية 1991، عندما بدأ الرئيس مبارك في مسايرة الركب الأمريكي والإسرائيلي، الداعي للهيمنة على المنطقة العربية. وبلغت ذروتها أثناء حرب الخليج الثالثة 2003، التي وقف منها مبارك موقف المتفرج ويقال الحليف كما ذكر بوب وودورد والجنرال تومي فرانكس في مذكراته رغم الأعتراض الشعبي الجارف على احتلال العراق. وهو الأمر الذي افقد الشعب المصري الثقة في سياسات مبارك الخارجية ومصداقيته. وهي القرارات والسياسات التي ادت إلى تراجع مكانة مصر الاقليمية إلى حد غير مسبوق، حتى قبل قيام ثورة يوليو. بصورة هزت للغاية الأمن القومي المصري، الذي أصبح مستباحاً من قبل قوى إقليمية مثل إسرائيل وإيران واثيوبيا حيث وصل الأمر برئيس وزرائها زيناوي إلى تهديد مصر بإنها لن تستطيع الانتصار في الحرب عليها في مقر الرئاسة المصرية أثناء زيارته لمصر أواخر العام الماضي.
جبروت الأجهزة الامنية
إن سبب البلاء الداخلي الذي تعيشه مصر مرجعه (جهاز أمن الدولة). الذي تحول إلى أداة لإرهاب وترويع وتعذيب المواطنين المصريين بمنهجية كما تذكر تقارير المؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان. إن هذا الجهاز الأمني الأخطبوطي بات يتدخل في كافة جوانب الحياة العامة في مصر بصورة هيكلية، من التعيين في الجامعات إلى تعيين الوزراء، ومن معالجة القضايا الزوجية إلى معالجة قضايا الفتنة الطائفية، بصورة بات معها هذا الجهاز الأمني مرادفاً للغستابو الالماني أو قوات الحرس الثوري الإيراني، الذي يتولى مهام القضاء على كل أعداء الوطن هل نسينا أحمد سبع الليل في رائعة الراحل عاطف الطيب 'البريء'؟
فبتدخله السافر في الأزمات والمشاكل الداخلية، وبعقلية أمنية متخلفة، فاقم هذا الجهاز من وتيرة عدم الاستقرار والاحتقان والغضب الشعبي من النظام السياسي. حيث أنتهج هذا الجهاز مبدأ (الكل عدو للدولة) فمسألة مثل المطالب المسيحية والأزمات القائمة بين الأقباط والمسلمين كان من الممكن حلها وإدارتها بيسر وهدوء دون تكدير السلم العام وتهديد التكامل الوطني. ولكن كيفية إدارة هذا الجهاز لهذه الازمات أوصلت مصر التي عاشت ما يزيد عن ألف عام من الزمان من التناغم الطائفي والديني لحالة الحرب الأهلية، نتيجة الغبن والجهل والإكراه الذي عالج به هذا الجهاز هذه الأزمات.
ناهيك عن انتهاك الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، وتعذيبهم وترويعهم دون سند قانوني أو باشراف قضائي. حيث بات الشعب المصري وليس فقط المعارضة السياسية متهم ومجرم في نظر البهوات ضباط أمن الدولة،حيث لا فرق بين القاضي وطالب الجامعة والمجرم. والأدهى من ذلك حظي هذا الجهاز (الذي يذكرنا بعالم جورج أورويل المرعب في رواية 1984) بمساندة وتأييد رأس النظام الحاكم وقيادته.
عدم مسؤولية وسائل الإعلام
إن تحكم الدولة وسيطرتها التامة على وسائل الاعلام (المرئي والمسموع والمقروء) جعل من هذه الأداة الخطيرة (السلطة الرابعة) مجرد بوق ينطق كذباً وجهلاً وكفراً. ومن جانب أخر، فإن تردي مستوى القائمين على الإعلام الخاص، وأهتمامهم بتحقيق المكاسب المالية والفرقعة الإعلامية دون مراعاة لمصالح الدولة أو حتى للصالح العام، جعل الفضائيات ساحة للحروب والفتن الوطنية، بين المسلمين والأقباط، الشعب والحكومة. بل ووصل الامر إلى حد تهديد علاقات مصر الخارجية بواحدة من أقرب حلفائها العرب التقليديين (الجزائر) اثناء فتنة السودان، بسبب مذيعين جهلة. وبدلا من أن تقوم هذه الاجهزة بدورها الرقابي والاصلاحي والتعبوي والتوعوي التقدمي، قامت بصب النار على الزيت، فزادت البلبلة وتمزق النسيج الوطني المهترىء أصلاً. دون أن تتعب نفسها وتقوم بطرح الحلول والبدائل للخروج بالدولة والمجتمع من النفق المظلم الذي تمر به البلاد والعباد كأي إعلام مسؤول ومحترم.
أستقطاب المؤسسات الدينية
إن السياسة التي اتبعها النظام في تدجين السلطة الدينية (الأزهر الشريف) وأستقطابه لفقهاء السلطان الذين يقلبون الحق الى باطل والباطل الى حق بتبريرهم لسياسات النظام، وتحريضها على معاداة الاخرين من جانب، وعدم ثقة الطرف الأخر من الجماعة الوطنية (الأقباط والكنيسة القبطية) في النظام الحالي، وشعورها بالارتباك تجاه ما يقوله على الملأ، وما ينتهجه على أرض الواقع من أفعال مضادة له، جعلها تلجأ للأحتماء والأستقواء بالخارج لحمايتها من بطش النظام ونفاقه.
أدى كل ذلك، وغيره، إلى أنعدام الثقة بين المسلمين والأقباط. فالمسلمون ينظرون للأقباط على إنهم وكلاء وعملاء للأمريكان وللغرب، والأقباط ينظرون للمسلمين (وللدولة) على إنهم يحاربونهم ويضيقون عليهم الخناق. والنتيجة، أزمة ثقة حادة بين الطرفين، وصلت إلى حافة الهاوية. إن النظام مازال يتبع أسلوبا بدائيا ومتخلفا في معالجة وإدارة الأزمة بين المسلمين والأقباط. والحقيقة أن هذا النظام هو المسؤول وحده عن بزوغ هذه الأزمات. فهي نتيجة لسياساته الـــخاطئة والعدائية سواء ضد الأقباط أو المسلمين. فكيف يدير ضابط شرطة أو مسؤول أمني مشكلة دينية؟ لقد أثبت توالي وقــــوع المصادمات بين الدولة والأقباط عن عجز شديد في كفاءة النظام الحاكم وعدم قدرته على إدارة العلاقة مع الجماعة الوطنية بنجاح.
تردي العلاقة بين الدولة والمجتمع
أساس الاستقرار الوطني في أية دولة هو العلاقة السلسلة والجيدة بين الدولة والمجتمع. بمعنى نجاح السلطات الرسمية في تلبية أحتياجات الأمة الاساسية وإدارة شؤون الحياة العامة بصورة عقلانية مقبولة تحوز قبول الشعب، بصورة تساعد الحكومة على حشد تأييد المجتمع وقبوله الطوعي لشرعيتها والرضا بقراراتها والسياسات التي تقوم باتخاذها. وهو ما تشهد مصر عكسه منذ ما يقارب على عقدين من الزمان.
إن هناك فئات شعبية مصرية لم تخرج معترضة على السياسات الحكومية طوال تاريخ مصر الممتد لأبعد من سبعة ألاف عام، كالفلاحين والموظفين. إن البـــيروقراطية المصرية العتيدة (متمثلة في الموظفين الحكوميين) كانت أبداً أحد أهم اذرع الدولة ، وكذلك الفلاحين، الذين لم نسمع عن ثوراتهم أو خروجهم على الحاكم منذ رسالة (الفلاح الفصيح) للفرعون. هذه الفئات بدأت منذ النصف الثاني من العقد الماضي في الخروج من سباتها الأبدي، وأعلنت عن رفضها الشديد وكراهيتها للسياسات الحكومية الجائرة بصددهم. فمن كان يتصور أن يعتصم الفلاح أمام المجلس المحلي لمدينة سوهاج، أو أن يقوم مزارعون من محافظـــــة المنيا بإضرام النيران في مركز للشرطة أعتراضاً على تجبر وغطرســــة أحد ضباط الشرطة في معاملته لأبنائهــــم؟ حتى ان الموظفين العموميين، كانوا الظاهرة الأكثر وضوحاً خلال العاميــــن الماضيـــين، وأستمر أحتجاجهم وأعتصامـــهم لمدة تزيد عن الثـــلاثة شهور، وأجبرت الدولة على الأستجابة لمطالبهم العادلة والمشروعة.
إن أزمة عدم الثقة (بل والتخوين) بين المجتمع والطبقة الحاكمة تلقي بظلال قاتمة على مستقبل الدولة المصرية. وقد تكون رياح التغيير القادم في مصر من أحدى هاتين الفئتين ( الصامتون أبداً) على حد قول العلامة المصري العظيم جمال حمدان. فسياسات (رد الفعل) و (سد الذرائع) التي ينتهجها نظام الرئيس مبارك، والادعاء كذباً بانها واقعية أو معتدلة كما يروج ويدعي دهاقنة السياسة المصرية الذين ضحى كبيرهم بتراثه العلمي والمعرفي كأحد كبار علماء السياسة العرب المعاصرين من أجل مكاسب دنيوية رخيصة أصبحت عديمة الجدوى وسط الحراك الإجتــــــماعي والســـياسي الذي تشهده مصر هذه الأيام. فالوعي الجمعي العربـــــي بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات بات يمثل تحدياً حقيقياً لمستقبل نظام الحكم القائم في مصر. والنظام السياسي المصري بسلوكه وسياساته الحالية قادم على عاصفة ... لا تبقي ولا تذر. ويعلمنا التاريخ أن الشعوب كالبحر، إذا ما تحركت أمواجه فلن يستطيع أحد إيقاف حركتــــها. والظلم مهما طال أمده قصير ... والنظم مهما بلغ جبروتها فإلى زوال... وستبقى الشعوب.
' باحث في العلوم السياسية دبي