في العام 1972 انتفض الشعب المصري لكرامته الوطنية والقومية التي جرحتها هزيمة حزيران 1967، فخرج ضد الرئيس أنور السادات ليحسم قرار معركة التحرير الموعودة. كان ميدان التحرير هو موعد الكبرياء الجريحة في تحركات المصريين آنذاك، تماما كما هو اليوم عنوان الغضب ضد نظام حسني مبارك.
ومن بين الحشود الغاضبة آنذاك خرج الشاعر المصري الراحل أمل دنقل (1940-1983) بقصيدة "الكعكة الحجرية"، في إشارة إلى ميدان التحرير مركز الحدث الذي يصنع فيه المصريون قدر مصر ومستقبلها، وهي القصيدة نفسها التي يستذكرها الوجدان المصري في هذه الأيام وتعبر عن أحلام الحرية والكرامة (المحرر الثقافي).
أغنية الكعكة الحجرية
أمل دنقل
(الإصحاح الأول)
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة.
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى.. أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي: عظمتان.. وجمجمة،
وشعاري: الصباح!
(الإصحاح الثاني)
دقت الساعة المتعبة
رفعت أمه الطيبة
عينها..!
(دفعته كعوب البنادق في المركبة!)
… … … …
دقت الساعة المتعبة
نهضت؛ نسقت مكتبه..
(صفعته يد..
- أدخلته يد الله في التجربة!)
… … …
دقت الساعة المتعبة
جلست أمه؛ رتقت جوربه..
(وخزته عيون المحقق..
حتى تفجر من جلده الدم والأجوبة!)
… … … … …
دقت الساعة المتعبة!
دقت الساعة المتعبة!
(الإصحاح الثالث)
عندما تهبطين على ساحة القوم؛ لا تبدئي بالسلام.
فهم الآن يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعام
بعد أن أشعلوا النار في العش..
والقش..
والسنبلة!
وغدا يذبحونك..
بحثاً عن الكنز في الحوصلة!
وغدا تغتدي مدن الألف عام.!
مدنا.. للخيام!
مدنا ترتقي درج المقصلة!
(الإصحاح الرابع)
دقت الساعة القاسية
وقفوا في ميادينها الجهمة الخاوية
واستداروا على درجات النصب
شجرا من لهب
تعصف الريح بين وريقاته الغضة الدانية
فيئن: "بلادي .. بلادي"
(بلادي البعيدة!)
… … …
دقة الساعة القاسية
"انظروا .."؛ هتفت غانية
تتلوى بسيارة الرقم الجمركي؛
وتمتمت الثانية:
سوف ينصرفون إذا البرد حل.. وران التعب.
… … … … …
دقت الساعة القاسية
كان مذياع مقهى يذيع أحاديثه البالية
عن دعاة الشغب
وهم يستديرون؛
يشتعلون -على الكعكة الحجرية– حول النصب
شمعدان غضب
يتوهج في الليل..
والصوت يكتسح العتمة الباقية
يتغنى لأعياد ميلاد مصر الجديدة!
(الإصحاح الخامس)
اذكريني!
فقد لوثتني العناوين في الصحف الخائنة!
لونتني.. لأني -منذ الهزيمة– لا لون لي..
(غير لون الضياع!)
قبلها؛ كنت أقرأ في صفحة الرمل..
(والرمل أصبح كالعملة الصعبة،
الرمل أصبح: أبسطة.. تحت أقدام جيش الدفاع)
فاذكريني؛.. كما تذكرين المهرب.. والمطرب العاطفي.
وكاب العقيد.. وزينة رأس السنة.
اذكريني إذا نسيتني شهود العيان
ومضبطة البرلمان
وقائمة التهم المعلنة
والوداع!
الوداع!
(الإصحاح السادس)
دقت الساعة الخامسة
ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب
ها هم الآن يقتربون رويدا.. رويدا..
يجيئون من كل صوب
والمغنون -في الكعكة الحجرية- ينقبضون
وينفرجون
كنبضة قلب!
يشعلون الحناجر،
يستدفئون من البرد والظلمة القارسة
يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب
يشبكون أياديهم الغضة البائسة
لتصير سياجا يصد الرصاص!..
الرصاص..
الرصاص..
وآه..
تغنون: "نحن فداؤك يا مصر"
"نحن فداؤ…"
وتسقط حنجرة مخرسة
معها يسقط اسمك –يا مصر– في الأرض!
لا يتبقى سوى الجسد المتهشم.. والصرخات
على الساحة الدامسة!
دقت الساعة الخامسة
… … …
دقت الخامسة
… … …
دقت الخامسة
… … …
وتفرق ماؤك –يا نهر– حين بلغت المصب!
* * *
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى أضرحة،
فارفعوا الأسلحة!
ارفعوا
الأسلحة!