كانت الصحراء العربية، قبل ظهور الإسلام، تمتلئ بحكايات العشق والهوى،
كأنها نوع من التعويض الذي يغني النفس في مواجهة جفاف الرمال.
عندما أراد ابن عتيق أن يتزوج من عفراء لم يشك أحد في قبيلة طيء فيأنها سوف ترفضه فورياً، لم يكن إلا شاعرا صعلوكا لا يملك إلا ناقة وحيدة وخيمةنائية ومرعى يابساً والعديد من القصائد التي لا ثمن لها، أما عفراء بنت قسامة فقدكانت تملك كل شيء تقريباً، الحسب والنسب، وثروة أبيها الضخمة، وقوافله التي لا تكفعن الترحال، ولكن هذا كله لم يكن يمثل شيئا مقارنة بجمالها الأخاذ، كل ما يمكن أنيقال إنه كان جمالا مكتملا كأن كل قطعة من جسدها قد خلقت بمفردها وقدت بعناية ثمجمعت معا في دقة وإحكام.
وعندما رآها ابن عتيق للمرة الأولى بجانب إحدى عيون الماء ظل يهذي وقدطارت منه الكلمات وتكسرت القوافي، لم تكن هناك كلمات يمكن أن ترتقي لمستوى جمالها،لم يكن هناك شيء في الصحراء في هذه الصحراء الرتيبة كمثل تفردها.
وعندما عزم على التقدم للزواج منها نصحه أصدقاؤه قائلين: أنها كنجومالليل المضيئة، عليه أن يكتفي فقط بالتطلع إليها، وعندما أصر أخذوا يسخرون من ذلكالصعلوك يحلم بامتلاك النجوم، ولكن حالته كانت تدهور، أصبح عاجزاً عن اليقظةوالنوم، قرر أن يذهب إلى أبيها بمفرده وليكن ما يكون.
استقبله أبوها بدهشة واستمع إليه بغرابة، ولم يبد أنه استمع إلى أيكلمة حاول أن يزين بها نفسه، ولكنه قال له فجأة:
- قد زوجتك إياها، فلا تبرح مكانك.
واندفع خارجا من الخيمة، وسمع ابن العتيق كلمات وغمغمات تتناهى منالخيمة الأخرى، أخذ يفكر في كلمات الأب، أهو رفض حسبه لشدة لهفته قبولا، كان الأمرأجمل من أن يكون حقيقة، ولكن الأب عاد مسرعا وهو يقول باللهفة نفسها.
- العروس قد قبلت الزواج بك، وهى تقول لك أيضاً لا تبرح مكانك.. سوفتدخل إليها الليلة.
وقبل أن يفيق من صدمته، جاء الشهود، ودقت الدفوف، وأعلن الخبر فيأرجاء القبيلة، وعقد العقد وزفت العروس، فبدأ الشك يلعب في صدر ابن عتيق، ظل واجماطوال الاحتفال الذي أعد على عجل، يتلقى التهاني ونظرات الحسد بذهن شارد، وعندماأصبح وحده أخيرا مع عروسه كان متأكداً أن هناك شيئا ما غير صحيح.
كان أول شيء أصر عليه هو أن تتم المضاجعة الأولى بينهما في النور، لنيسمح بوجود أي ظلام يمكن أن يقوده إلى الخديعة، ولكنها لم تكن في حاجة إلى ذلك، كانجسدها يتألق بضوء خفي يشع منه ويترك ذراته معلقة في الهواء، كان كنزا حيا تخفيالثياب أجمل ما فيه، عذراء حقيقية، دماؤها قانية ولمساتها حيية، ولهفتها صادقة، مرتعليه سبعة أيام كاملة وهو معها داخل الخيمة نفسها، وهو يراقبها بعيون مفتوحة، دونأن يكتشف فيها عيبا واحدا، تركها قليلا وسعى إلى أقرب أصحابه، تحدث معه عن انشغالهبهذا الكمال البشرى الذي لا يشوبه نقصان، وأنه لا من شائبة ما، شيء لا يعرفه جعلتهميوافقون عليه بهذه السهولة، قال صديقه:
- ربما لأنها أجمل بكثير مما ينبغي.
هل يمكن أن يكون هذا عيباً؟
ببطء شديد استطاع أن يعي ماذا يعنى أن يكون الجمال الفائق عيبا، في أيمكان تذهب إليه «عفراء» لم تكن هناك امرأة تجرؤ على الاقتراب منها، أو الوقوفبجانبها، كن جميعا يعرفن أن المقارنة ستكون صارخة، وأن جمالها يمكن أن يزرى بجمالأي امرأة أخرى، أي زهرة، أي ظبية، أي نجمة متألقة، كان بهاؤها لا يحتمل، وكمالهاعصي عن الاحتمال، كانت تجلس دوماً وحولها فراغ قاحل وتحول هذا الخوف من الاقترابمنها إلى نبذ مستمر، اكتشف أيضا أن هناك اسما سريا يطلقه الجميع عليها ويتبادلونهحولها، «الجرباء» تلك الناقة التي تتحاشاها بقية النوق، كان التشبيه دقيقا وقاسياولكنه حقيقي.
حتى ابن عتيق أحس بوطأة هذا الجمال الطاغي، رغم أنها كانت تهبه ذاتنفسها دون تحفظ أو تكبر، رغما عنه بدأ يتأملها وهى تتحرك في المنزل ويقارنها بنفسه،إذا ما جمعتهما مرآة واحدة أو انعكس وجهاهما على صفحة الماء أو جلسا في الفراشبجانب بعضهما البعض، كان يحس أنه مجرد قرد قبيح ابتلاه الله وجعله قيما على أجملزهور الأرض، وفي الأسواق عندما يسيران معا، وتلتفت الأنظار إليهما، كان يدرك أنهميجرون المقارنة بين وجهها الصبوح ولحيته المغبرة، بين ملامحها التامة التناسق،وانفه المفلطحة، كانوا جميعاً يسلخون جلده في صمت.
بدأ يغضب دون سبب ويثور بلا مناسبة، كف عن قول الشعر وتفرغ للإساءةإليها، وهي هادئة كغدير صاف لا تتعكر ولا تغضب منه، كانت تشفق، ليس عليه وحده، ولكنعلى ذلك العالم القبيح الذي يحيط بها؛ والذي حاولت أن تعطيه بعضا من ذات جمالها،ولكن القبح كان أكثر من أن يقاوم، وأخيراً انهارت مقاومة ابن عتيق، هتف بها فيمرارة:
- يجب أن نفترق، لا أستطيع أن أواصل التحديق في ضوء الشمس طوال الوقت،يجب أن أغمض عيني قليلا.. ربما أرتاح وأنساك.
وطلقها ابن عتيق ورحل بعيدا وظلت أجمل نساء الصحراء وحيدة، كأنها ناقةجرباء يتحاشاها الجميع.
..........
من كتاب قصص
د.محمد المنسي قنديل
قاص وروائي