النظام العربي: تنازلات للعدو حتى قعر الهاوية!
مطاع صفدي
إنه الاستغراب عينه الذي يبديه مثقف غربي في حوار يتكرر مع آخر عربي، كلما وصل الحديث إلى سر الاستعصاء العربي على التغيير. يُطرح هذا السؤال التقليدي المتجدد: لماذا يعجز العرب عن استثمار قواهم. ليس هذا (التعجّب) اشتقاقاً للتعجب الأهم والأشمل: لماذا تأخر العرب وتقدم الجميع، أو معظم الآخرين، وإن كان التعجبان متضايفين في التوصيف وفي أسلوب الاستغراب. فالتساؤل في الصيغتين لا ينتظر جواباً، لأنه ينطلق من مسلّمة جاهزة غير محتاجة للتدليل أو البرهان، كما لو أن العجز لم تعد له أسبابه الخارجية عينها.
فقط صارت متضمنة فيه. صار العجز علّة ذاته. عوامله وآلياته تُضاعف من مساوئه، فتتغذى هذه من بعضها، كل ذلك يحدث والإنسان العربي يعيش مثبط الهمم، يقف هو كذلك عاجزاً وسط بحرانها، لم يعد يدري كيف يتصدى لها، إن سمحت له ظروفُ الواقع السياسي الجاثمة على صدره، بالتنفس قليلاً، بعيداً عن هوائها المسمم الفاسد.
يتلقى الجمهور العربي خبر عودة النظام إلى المربع الأول من المفاوضات مع العدو الإسرائيلي. بأمر رجال هذا النظام ما يسمى السلطة الفلسطينية بالتراجع عن آخر شروطها وأضعفها، فيما يتعلق بوقف الاستيطان. رغم أنه شيء يمكن أن تقدمه إسرائيل إلى أقطاب النظام والسلطة الفلسطينية، سوى ما كانت عليه دائماً من العسف والتدمير المنظّم لكل ما هو فلسطيني. فهل ستتغير إسرائيل بعد مهلة الأربعة أشهر، المعطاة كإنذار لنهاية التفاوض؛ وهي التي لم تتزحزح قيد شعرة عن مشروعها الاغتصابي طيلة الستين عاماً من إنشائها. فما هو المقصود الفعلي من وراء هذا الإجراء المصطنع الذي تفتَّقت عنه عبقرية الدبلوماسية العربية الحاكمة. تقول أوساطها في معرض التبرير وليس التصديق البرهاني على صحة القرار العليل، إن هذا التنازل الجديد هو كرمى لعيون أمريكا ورئيسها (المختلف) أوباما؟
ذلك أن أصحاب النظام يشفقون على سمعة رئيسهم الأمريكي هذا من أن تذهب أدراجَ الرياح مع وعودها الفاشلة بدءاً من خيبتها مع يهودية مؤسسة الحكم والمال المُطِّوقة لضواحي البيت الأبيض والمتغلغلة في دهاليزه وشرايينه. فما هي المعجزات التي ستحققها مهلة الشهور الأربعة، ما لم تستطع إنجازه خلال عقدين تقريباً من مناورات الخبث التفاوضي العقيم.. والأنكى من كل هذا ليس جبروت الجلاد الذي من (حقه) أن يمارسه ما دام قادراً على ممارسته، ليس هو ضعف الضحية، بل انصياع الضحية مُسوَّغاً بوهم الضعف. السؤال الممنوع ليس هو: لماذا الضعف؟، بل هو بالأحرى: لماذا إنكار القوة. فالنظام العربي الحاكم مجمعٌ على التنكر لقوة أمته. لا يزل ممعناً في إشادة أسوار العزل والفصل بينه وبين شعوبه. خوفه من أهله وعشيره، يعلمه الحرص على عدوه، إن الى درجةِ بذل الكرامة والأصالة من أجل مرضاته. فقد يدَّعي بعض رموزه الكبار أنهم لم يعودوا مجرَّدَ أتباع للقوة العظمى في العالم، فقد ارتقوا إلى مستوى الحلفاء لها.لعلَّ هذا الحلف يعوضهم عن احتقار شعوبهم وكراهيتهم لهم. وبذلك لم يعودوا مجرَّدَ حكام ضعفاء. أصبحوا أقوياء بقوة أسيادهم الغرباء عنهم وعن أقوامهم. لكن من يقول في مثل هذه العلاقات الشاذة أن الحليف الكبير سيظل محتاجاً لحليفه الصغير. هذا النوع من شكوك المصير المستقبلي يكاد يرهن النظام العربي كلياً للإرادة الأجنبية. إلى ذلك الحد الذي يكبِّلُ فيه حريةَ خياراتِه بما يدفعه أكثر إلى قمع حريات مواطنيه، والمضي في ارتكاب المساومات المريبة على حقوق الاستقلال والسيادة لدولته، مع خصوم هذه الدولة، التقليديين منهم والطارئين.
ما يرفضه عقل النظام دائماً في ماضيه الاستبدادي، كما في حاضره المزعزع، هو التنبُّه لتطورات مجتمعاته، كما أنه يعاني من سوء فهم مزمن لتحولات موازين القوى العالمية والإقليمية من حوله. فالتخلّف ليس صفة مقيمة في بنية المجتمعات العربية، بقدر ما هي الوصمة المشتركة لمعظم أصحاب القرارات السياسية الحاكمة، والمصيرية، الشاملة.
أبسط الملاحظات في هذا الصدد تنطلق من القول: كيف يمكن أن تَحْكُمُ أكثرية الدول العربية بأنظمة سلطانية مستمرة في رموزها الإنسانية وأساليبها العشوائية، منذ عقود عديدة، وبعضها منذ قرن أو قرنين، فقد تثبت أبسطُ دراسات الاستقصاء الاجتماعي شساعةَ الفوارق بين حكام العرب، والعرب أنفسهم. فوارق الفهم والوعي العام، وفيما يخص الإحساس أو الإلمام بتطورات العصر، وفي جانبها السياسي والاستراتيجي تحديداً. هذا عدا أن الطبقة المسيطرة استساغت احتقار النزاهة الأخلاقية. لم يعد يحرك لديها النقد الشعبي المعمَّم ضدها أية اهتمامات بردود الأفعال، ليس على صعيد المعاناة الصامتة لمواقف الرفض الجماهيرية وحدها، بل إن مسالك القادة أمست تضرب في عرض الحائط بكل احتمالات التمرد على جبروت الدولة الأمنية. يحدث هذا بعد أن لعب استيراد النيوليبرالية إلى ما وراء حصون القطريات السلطانية القائمة، أدواراً حاسمة في فك بعض العزلة من حول الأنظمة الأحادية القائمة، إن تكونت ثمة شرائح من أغنياء أسواق السمسرة باقتصاديات الحاجات الاستهلاكية، الضرورية منها والنافلة.
خبراء صناعة العقول الجماعية في أمريكا قد يحق لهم أن يهنِّئوا أنفسهم وهم يرصدون حركة الهرولة العربية نحو حقبة النيوليبرالية، في الوقت الذي تنفجر فيه فقاعاتها الوهمية في عواصمها الرئيسية. فالمتغير البنيوي والأيديولوجي الذي تشحنه النيوليبرالية وراءها أينما تحل، نجح في اختطاف المرحلة الانتقالية النابعة من ذاتية المجتمع التقليدي. والمتجهة به نحو الحداثة المتطابقة مع نوازع تحرره التاريخي، وراح يفرض عليها كل عاهات البرجزة الزائفة، ساعياً إلى قلب دينامية التطور الطبيعي لمجتمعاتها، واستبدالها بآلية الاستنساخ لأشباه الظواهر النخبوية. لكنها ستظل فقاقيع عائمة على ضفاف جمهراتها الراكدة؛ كأنها بإنتظار شرارة من نار الأزمة الاقتصادية العالمية لتحولها أثراً بعد عين. إنها تلك الفئات أو الشراذم من حواشي ما تحت السلطة، التى ترفع دونها أعمدة أسواق المال والسمسرة وحدها، وليس إنتاج التنمية الاقتصادية المشروعة. وتلتحق بهما معاً_ السلطة والبرجزة ـ فئات الحلفاء الطبيعيين من حولها، من منظمي مسارح الاستعراض في كل شأن جماعي أو فردي، من فعاليات الاستهلاك اليومي في التجارة والصناعة النافلة، كل في تسليع الإعلام و الثقافة، وموضات العصرنة الشخصانية في المظهر و القول و الفعل.
إنه منهج الانفكاك السياسي عن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي دفعة واحدة. ذلك المنهج الذي يوفر للسلطة احتكار القرار والسلوك السياسيين معاً، ويجعلهما بمنأى عن رقابة ما يسمى بالرأي العام، الذي يفقد هو بدوره، عوامله الذاتية المكونة لأفكاره ومواقعه الواضحة في ظل هذا المجتمع الانقسامي الجديد، ما بين البرجزة النيوليبرالية في طبقاته العليا، اللاهية في عقد صفقات الشراكة الخبيثة مع المال والسلطة، وبين كتل الطبقات الدنيا الغارقة في بحران العوز والحرمان والغيبيات، وضياع الطبقة الوسطى بينهما. إنه الانقسام البنيوي للكيان الاجتماعي الذي تستغله السلطة في منح ذاتها أكبر قسط من الحرية العابثة، بينما تمنع أقّلها عن بقية جماهيرها. تلك هي حرية اللامبالاة بالمصالح القومية على مستوى الأمة، كما هي حرية الاستهتار بأبسط حقوق المشاركة السياسية للمنظمات المدنية على مستوى الوطن الصغير لدولتها.
فحين تطلب السلطة الفلسطينية تغطية جديدة لمرحلة التنازلات الأخطر القادمة، من قبل النظام العربي فليس أسهل عليه من منحها إياها بالطبع، كما كان يفعل دائماً منذ ابتُليت فلسطين كقضية تحرر وطني بعاهات السلم الكاذب، مع اتفاقية أوسلو المشؤومة، بينما كان من المفترض، ولو شكلياً، ألا يتداعى أركان النظام العربي لحل المأزق الإسرائيلي الأمريكي الذي تعانيه إسرائيل من انهيار سمعتها العالمية كدولة إرهاب وحرب ضد الإنسانية، كما تعانيه رئاسة أمريكا في افتقادها المتسارع لبقية مصداقيتها، ووعودها المبذولة جزافاً، وتحديداً فيما تدَّعيه من الأولوية الممنوحة لقضية (الشرق الأوسط)، بحسب مصطلحها الملغوم هذا في تداوليات أدبيات الغرب.
التناقض العجيب الغريب بين قوى العرب العظمى وتفاهة الثقل السياسي لكياناتها الدولانية، حتى لا نقول مع انسداد مسارات التقدم الحقيقي بأبسط معاييره الحضارية والمادية أمام أجيال الأمة.. هذا التناقض من هو المسؤول عنه في ثقافة العصر النهضوي الذي من المفترض أن العرب يعيشون إرهاصاته ونكباته معاً، ولكن كما لو كان ذلك العصر والعيش الإنساني في كنفه، صارا أسيرين فقط لإيقاع الخيبات في سياق كل رهان حيوي تناقلته هذه الأجيال دون أن تضيف سوى الركام فوق الركام.
حديث القوى العربية المتوفرة بما لا تعرفه أفضل النخب، ولا تقرُّ به أية سلطة مسؤولة، هو كذلك حديث المنع والإجهاض والتشويه في الوقت نفسه لأية مبادرة سياسية أو فكرية، حاولت استكشاف شذرات من هذه القوى في الإنسان والجماعة والأرض، واستثمارها في تصحيح بوصلة هذه الدولة أو تلك.
مثلما ألهبت فلسطين شعلة الحراك السياسي في غابر الزمن، وشكلت معايير الصدقية وعكسها في مختلف الحركات (الثورية) وأنظمتها الحاكمة طيلة عقود متوالية، فإنها تنتهي اليوم إلى ما يشبه البضاعة الأخيرة لكل الخاسرين، من أهلها القريبين والبعيدين، بينما الرابح الوحيد هو العدو، إسرائيل التي ستكون هي الخاسر المحتوم، في نبوءات البعض من طلائعها المثقفة، كما عند الكثير من أصدقائها وأوليائها الغربيين. لكن انقلاب الأدوار والمصائر ليس من صنع الأقدار وحدها.
' مفكر عربي مقيم في باريس