زوال إسرائيل العلو الأول فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً تأتي هذه الآية الكريمة في سياق الأخبار عن أحوال الغيب، وهي خاصة بالوعود المنزلة على سيدنا موسى بالتوراة وتكشف عن حقائق مجريات الوعد ا...لأول ضمن سياق متوالياتها الزمنية ومحدداتها الجغرافية. فالفاء هنا إستئنافية تلقي مزيداً من الأضواء على تسلسل أحداث ذلك الوعد، أما " إذا " فهي ظرف لما يستقبل به، فالوعود نزلت في الكتاب على سيدنا موسى بصيغة المستقبل، وأداة الشرط هذه تسلب كلمة " جاء " صيغة الماضي التام. في المقابل تمنحه صفة الحتمية بمعنى لابد أن يفعل، فالفعل الماضي هذا يحمل أيضاً في محتواه الدلالي عنصر التحدي والتحقير لكل مكابر وناكر لجدلية الغيب بواقع الحركة المتطورة. في حين نرى باقي سياق الآية قد جاء بصيغة الماضي التام في إشارة صريحة إلى الوقائع والأحداث التي تحققت في زمن سيدنا داود، فلقد بلغت هذه المملكة شأناً عظيماً لم يحظ به بنوا إسرائيل منذ بدايات التفضيل والإستخلاف في الأرض ضمن المرحلة القومية في تطور الإنسانية آنذاك لتكون بديلاً حضارياً مقابلاً للحضارة الفرعونية. وقد إزدهرت تلك الحضارة البديلة وإزدادت رقعة المملكة في عهد سيدنا سليمان حتى إمتد سلطانها إلى مملكة سبأ التي كانت تؤلف مع الأحباش مملكة واحدة. وبعد وفاة سيدنا سليمان بدأ سرطان الصراع والإنحلال والتفكك والإنقسام يدب رويداً رويداً في جسد هذه المملكة بعد التخلي عن التوحيد المطلق لله. وذلك بالإنسياق وراء ربط التوحيد بالزمان والمكان أي ربطه بإله خاص وهو نقيض التوحيد كما عرفه النبي إشعيا بأن الله ليس رب إسرائيل بل رب العالمين. وقد حذر أنبياء تلك الحقبة بخراب إسرائيل القريب فقد حذر النبي آرميا بأن الإصلاحات المطلوبة من أجل الحفاظ على إسرائيل قد تحولت على أيدي الكهنة إلى ممارسات لخدمة أهدافهم قائلاً: كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقاً إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب. والمثير هنا ليس في إخبار الأنبياء عن أحداث مستقبلية إنما في تحديد تواريخها وظواهرها الإنسانية بدقة، الشيء الذي يقطع بقدرية الغيب الناظمة للصيرورة التاريخية في إطار إرادة أزلية محيطة بحركة الأشياء. وبعد أن أعرض الملك صدقيا عن نصيحة النبي آرميا بالخضوع لملك بابل واصفاً إياه بخادم الرب جاء رد نبوخذ ناصر سريعاً على تمرد صدقيا فحاصر مدينة القدس ثم إستولى عليها وهدم أسوارها ونهب وحرق قصورها وكل ما شيدوه. ووقع صدقيا أسيراً ونفي مع الحاشية وباقي الطبقة العليا إلى بابل إلا أنه مات وحكم على الأبناء بالإعدام ما يعني إندثار سلالة داود الملكية بعد إن إستهلكت مرحلة التفضيل الإسرائيلية كل معانيها. عندئذٍ من الطبيعي أن يتحول التفضيل لصالح شعب آخر حيث تعهد العرب كلمة الله ضمن ظروف تاريخية مغايرة، دون إتكالية تفرغ الفعل الإنساني من معانية الموضوعية. وفي ضوء هذا التحول أصبح العرب علماء زمانهم الأجلاء ومثّلوا ظاهرة خارقة في تاريخ المدنية حيث إستخلف الله العرب ومكن لهم في الأرض، فأقاموا دولة فكرية أخذت بزمام العالم زهاء ربع قرن رفعت على أساسها راية الإنسانية ومرت بتجربة من أروع وأنجح النظم الإجتماعية. لكن جدلية نشوء وسقوط الحضارات فرضت سنة ومكر التاريخ إذ إنهار نظام الإستخلاف حين إفترق السلطان عن القرآن بعد سقوط أولى عرى الإسلام ممثلاً بالحكم على يد معاوية. وبسقوط نظام الإستخلاف بدأ الضعف يدب في جسد هذا العملاق الحضاري بعد أن خلا الميدان من القادة المبدئيين وتحولت دولة الإستخلاف وحكمها الرشيد إلى ملك عضوض إستأثر بالحكم وقمع إرادة الأمة وصادر حريتها. وحكمة الإقتضاء بأن يضع الله الظاهرة العربية قبالة الظاهرة الإسرائيلية كقوتين متناقضتين تتبادلان الوجود بالتدافع والصدام، تتجلى بتبلور نهجين مختلفين لفلسفة الوجود تربطها علاقة نفي ومجابهة أبدية. إذ يعمد كل طرف في فترات الهدنة إلى حماية نفسه بالمزيد من الإستعدادات عبر تطوير قواه ترقباً للحظة يدرك كل منهما أنها آتية لا محالة. بالتالي لا تقبل هذه العلاقة المتضادة علاقة الكينونة أي توسط أو مصالحة. العلو الثاني قضت حكمة الله بعودة بني إسرائيل بعد أن حمت وجودها بالشتات من خلال التلازم بين الدين والقومية، فإن تلاشت إحداها بقيت الأخرى، فداخل كل منها شيء من ذات الآخر فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً وقد تزامنت هذه العودة مع تخلي الدولة الإسلامية عن مبادئ الإنفتاح الفكري والتفاعل الحضاري التي قام عليها نظام الإستخلاف الذي ساهم ببناء الثقافة العربية المتطورة وتكون نمطها الإنساني. وليس مصادفة تزامن العودة مع إستهلاك الحضارة الإسلامية دورتها الأولى منذ سقوط نظام الإستخلاف ونشوء الملك العضوض الذي بدأ يفقد تماسكه الكياني نتيجة تعدد أوثانه الفكرية التي إنكفأت على الذات. الشيء الذي نال من وحدة السلطة ووحدة الفكر الذي تشكلت ضمنه تاريخياً، حتى وصلنا إلى هذه المحتويات والأشكال الممسوخة المتناقضة مع منطلقات البدء. إذ كان للإنغلاق داخل أوثان مذهبيه إحيائية متعددة وتشعب آرائها الطوطمية دوراً بل السبب الأساسي في التفكك والإنقسام إلى دويلات متناحرة نالت من إستمرارية الدولة ودوام المجتمع بعد أن إتجه العرب نحو التمركز حول الذات القومية ونقلوا مسؤولية الفرد من الدولة إلى القبيلة. وتجلت أبرز سمات هذه العقلية القبلية التي أعادت تشكيل كيانها منذ بدايات الملك الأموي في الإمتثال للسلطة العضوضية على حساب تطور الشخصية والرأي المستقل، وتتمظهر في نمط التربية القائمة على التلقين والعقاب في آن واحد، من حيث أنها تدعوا الطفل إلى الحفظ لا التفكير، والقبول لا المناقشة، والإنقياد لا القيادة، إلى إتقان الدور المطلوب بدل التصرف الصادق. وهذا التنازل أفرز بدوره أجيالاً ممسوخة الشخصية مهزوزة تميل إلى إسقاط المسؤولية على عوامل خارجية، أجيال إتكالية لا تأخذ بالأسباب بعد أن إستحكم في سويدائها وباء النزعة القدرية. وهذا ما كان له أثر محوري في إنحسار التطور السياسي والإجتماعي والثقافي نتيجة الإنغلاق على الجدل الفكري داخل تيارات طوطمية مضى زمانها إتخذها المجتمع أوثان وكأنها حبة دواء أو تعويذة لها قداسة ولا مساس بها، رغم تجاوزها حدود صدقها التاريخي لذا أضحى الركود والجمود سمة طاغية. ونلاحظ بوضوح أن الآية تكشف عن أهم علامات البعث الإسرائيلي وقيام كيانه الموعود، وتضع حداً لكل الإستفهامات الخاصة بزمان ومكان الوعد الأول والآخر. وكلمة " الآخرة " تسلط الضوء على عمق المحتوى القرآني وتعكس مدى دقة البلاغة القرآنية، من حيث أن كلمة الآخرة تشمل كل مرات الإفساد والعلو، وتعطي إجابة صريحة وشافية لشرطية إن عدتم عدنا العائدة على مرات الإفساد الغير مقترن بالعلو بين العلو الأول والثاني الأخير هذا الإفساد الذي علق عليه المؤرخ اليهودي يوسيفيوس فلافيوس قائلاً: إن الكوارث التي حلت باليهود كانت من صنع أيديهم بما أشاعوا من فتن وحاكوا من مؤامرات. بيد أنه لو جاءت كلمة الثانية بدل الآخرة فلن تفي بالغرض، ولن تبدد سدم إشكالية تحديد الفوارق بين صور ومظاهر الإفساد الغير مقترن بالعلو والإفساد المقترن بالعلو. وستبقي المجال مفتوحاً أمام التخبط والتخمين وضرب الأخماس بالأسداس دون يقين قاطع عن نهاية إسرائيل التامة كما هو سائد الآن بسبب هيمنة العقل الإحيائي المشوب بالخرف على التفسير والتأويل. والعاجز بطبيعته عن التمييز بين الإفساد الجزئي الغير مقترن بالعلو والإفساد الكلي المقترن بالعلو وحتى عاجز عن تحديد المكان. وما زاد الطين بلة هو ما صاحب الردة الإحيائية من فساد في اللسان العربي جراء عمليات الإنتشار والإمتداد الحضاري وغياب السلطة الشرعية الحامية والحافظة للغة كون اللغة جزء أساس من الحضارة وعامل مهم من عوامل وحدتها. وهذه التغيرات التي طرأت على اللغة في حياتها الطويلة لم تصب أصول التركيب في كثير، بالتالي لن يضر رصدها وتسجيل تلك التغيرات بموضوعية لما فيها من خطر محدق بلغتنا الجميلة التي يجب أن نصونها صوناً للقرآن الكريم ولآثارنا الفكرية والأدبية. فعملية الرصد هي واجباً علمياً سيوسع آفاق فهمنا للغتنا الجميلة وتاريخها المشرق، فالفهم الصحيح للغة وتاريخها هو أول الخطوات اللازمة للإرتقاء بها حتى تجاري مقتضيات التقدم الحضاري. وفي ضوء هذه العلاقة الجدلية بين لغة الضاد الحية وبين مكنونات الوحي الخصبة، لن تفهم دلالات الوحي المكثفة وإشعاعاتها الحضارية إلا بفهم اللغة العربية الفصيحة. وبهذا التلازم العضوي بين لغة الضاد والدين حمى الله الوجود العربي من كل عوامل النفي والإندثار، وهكذا دواليك فإن تلاشي الدين بقيت القومية وإن تلاشت القومية بقى الدين، لذا حرص الأوائل على إجتناب اللحن في اللغة إجتناب الذنوب بإعتبار تعلم اللغة ومعرفتها فرض عين. من هنا نعرف مدى خطورة جواز قراءة القرآن بالفارسية كما ذهب أبو حنيفة الذي أفتى بجواز شرب أنواع من الخمور. كذلك خطورة التتريك كما حاول يهود الدونمة وخطورة ما يجري الآن من دعوات ومحاولات لشرعة اللهجات العامية وترسيمها لعزل اللغة الفصيحة وهجرها لقتلها مع الإنتباه أن عدونا الأزلي يعتبر لغة الضاد لغة ميتة بمعنى أنها لا تصلح أن تكون لغة حضارة. جئنا بكم لفيفاً هذه الدرة الكريمة تعكس بإشعاعها الباهر سمات عودة بني إسرائيل، إذ تقطع بأنها ليست محل إختيار فهي آتية لا محالة طوعاً وإكراهاً، لأن كلمة " جئنا " هي فعل أمر لا يدع مجالاً للإختيار. وعودة اليهود على شكل جماعات متعاقبة من أوساط إجتماعية مختلفة إلى فلسطين بعد إستقرار في الشتات دام آلاف الأعوام لا ينفي فهم الواقع وإستخلاص الشروط الموضوعية للعودة. فمسألة العودة لم تكن مسألة مثل عليا أي حباً في أورشليم أو ليرددوا حلمهم: في القدس عيدنا القادم. لقد كانت العودة إستجابة شرطية لأبعاد وإتجاهات الواقع الموضوعي، ولا يمكن فهم دوافع ومشاريع الوجود الإسرائيلي في منطقتنا إلا إذا فهمنا حقيقة وجودهم ومسارهم التاريخي في فلسطين. فما أن بدأت ملامح الشيخوخة والوهن على كيان الملك العضوض من تدهور وإنحسار إنفراجه التاريخي نحو الأطراف حتى بدت تتشكل ملامح الحضارة الإسرائيلية وبوتيرة متسارعة بفعل إتصالها بحضارة المسلمين في الأندلس. وإنكباب هذه الحضارة المادية بنهم على علوم ومعارف حضارتنا آنذاك، فغرفت منها بنزعة بدائية قلما تحرروا منها ما دفع روجر بيكون لتوصيف تلك الحالة أن يقول: من أراد أن يتعلم فليتعلم اللغة العربية. وإنطلاقاً من إدراك الحضارة الإسرائيلية لهذه المعادلة من البدايات، ووعيها بمدى التلازم بين اللسان العربي والإسلام، أيقنت من ضرورة غرس جزء أصيل منها في عقر دار العرب ليكون ذراع ضارب متقدم لتدمير الذات العربية بوسائل منهجية تجسيداً لمنطق الصراع وإستمرارية نزعتها التدميرية لكل مقومات الوجود العربي تحسباً لأي طارئ مفاجئ يساهم بنهوض عملاقنا الحضاري من سباته العميق ويخرج عن دائرة السيطرة فيعيد سيرته الأولى. ووجدت ضالتها بالمشكلة اليهودية في أوروبا كجزء وإمتداد أصيل لها فعمدت الحضارة المادية إلى حل المسألة اليهودية من خلال تهجيرهم وعزلهم في محجر عالمي. لذا نرى الحضارة الغربية تسعى مع إختلاف المظاهر والتفاصيل والإتجاهات جاهدة بوعي غير عادي لتحطيم كل مقومات الحضارة العربية حتى لا تتكرر ظاهرتها من جديد عبر تدمير كل مقومات الوجود العربي. فما أن أجهز الغرب على الملك العضوض أو الرجل المريض حتى طفت على أنقاضه دويلات جبرية إرتدت نحو أصولها السابقة على الإسلام حيث إعتنقت بدائل ثقافية ممسوخة نفت عمقنا القومي وبعدنا الإنساني، بدائل صورية مغايرة لشروط تكويننا الحضاري. وكان لهذا التغيير الثقافي الأفقي والقصري آثار مدمرة على كياننا الذي صرعته هذه الثقافات بسحرها الزائف ومزقته إلى كانتونات ثقافية تتناقض بإطلاق مع الأسس التكوينية الأولى. ويرجع هذا التمزق الثقافي والتناحر بين هذه الكانتونات الجبرية بالأساس إلى إرتهانها بالكامل للحضارة المادية التي إصطنعتها فهي مسخرة بقدها وقديدها لخدمة المشروع الإسرائيلي. ودورها هو الحفاظ على واقع التجزئة وضرب كل محاولة نهضوية جدية سواء كانت ثقافية أو إقتصادية أو تطويرية وغيرها للإرتقاء بواقع الأمة وبعث دورها الحضاري. مقدمات الزوال إن فلسطين جزء أصيل من كيان الهلال الخصيب، ولد من تعاقب الشعوب عليها لون من التطور العضوي لثقافة واحدة نتيجة التداخل والتمازج والتكامل بين مكتسبات متعاقبة وهبت أهلها دوراً مميزاً في عملية التطور الروحي للإنسان. وقد أختزل تاريخ فلسطين كأحد أعرق الحضارات في التاريخ في فترة زمنية لا تتعدى ربع قرن هي عمر الانتداب، حيث كان تاريخ فلسطين عرضة للتزييف دوماً جراء تعليلات دينية وسياسية نابعة من علاقات الصراع بين القوى الاستعمارية. وانطلاقاً من إدراك الحضارية الاستعمارية لهذه المعادلة من البدايات، ووعيها بمدى التلازم بين اللسان العربي والإسلام، أيقنت من ضرورة غرس جزء أصيل منها ليكون ذراع ضارب متقدم يتداخل دوره ويتكامل مع أدوار هذه القبائل الجبرية لتدمير الذات العربية بوسائل منهجية وترسيخ واقع التجزئة والإسراع بالقضاء على كل إنسان ثوري يخرج من بين هذه القبائل المرتهنة ويتمرد على السياسة الإستعمارية مثلما جرى مع الريس عبد الناصر وصدام. وما دعوات تأليف معاجم محلية وإعادة تبويب النحو وتدوينه من جديد إلا أبرز تجليات الحملة المسعورة لإستئصال لغة الضاد تحت ستار الحفاظ على التاريخ والتراث وحرية البعث وتضع مناهج للتعليم والتأليف لا تلتزم قواعد اللغة العربية لهجرها، في ظل معادلة أن الجهل باللغة العربية هو علة الجهل بالإسلام وهجرها هو هجر الإسلام يا رب إن قومي إتخذوا هذا القرآن مهجوراً . وتعكس كلمة " لفيفاً " حالة إجتماعية مختلفة إجتمعت من أماكن شتى لخلق حالة التعاضد والتكاتف بين شرائح هذا المجتمع الهش من خلال بلورة ثقافة إستعلائية مغلقة تصطنع الأعداء حتى يعيش هذا المجتمع في حالة قلق دائم يخلق نوعاً من الحذر واليقظة تستنهض كل الطاقات الداخلية والإستعدادات للمجابهة دوماً. وهو نموذج حي للمجتمعات الإسرائيلية المغلقة المستمدة من تراثها المتوحش الذي يتغذى على الدم ولا يولّد إلا دولاً متجابهة. ويعود فشل نخبتنا المريع في فهم الظاهرة الإسرائيلية إلى العجز عن رؤية الفواصل الأساسية بين التفاعل الثقافي كحالة صحية، وبين التغيير الثقافي الأفقي أي المستورد كحالة مرضية. فالتحول الثقافي الصحي يجب أن يكون فوقياً أي داخلياً ويتغذى جنينه من أحشائه الحضارية حتى يكون الجنين صحياً مكتمل النمو يكون إمتداداً طبيعياً وليس مشوهاً هزيلاً ومستنسخاً كما هو واقعنا الآن. لذا فمن أولى موجبات الإلتزام بالمشروع العربي هو الإتصال بتراثه الحضاري وتجاوز الفهم السطحي الذي طرحته شريحتنا النخبوية التي إنسلخت عن التراث ووقعت في الإنفصام. ليسيؤوا وجوهكم وهي أولى بشائر زوال الظاهرة الإسرائيلية بكل إمتداداتها، فمرحلة الإساءة هي تعرية وجه هذه الظاهرة القبيحة والبشعة لكشف زيفها ومدى فظاعتها وبربريتها لخزيها، من حيث أنها وصلت إلى أعلى درجات غرور وصلف وطاغوت الإفساد، بالتالي سيكون مصيرها الذل والدمار والبوار بعد الخزي والعار. وقد جاءت أفعال هذه الآية بصيغة مضارعة تحمل دلالة الإستمرارية المستقبلية، وهي إشارة إلى أنها مرحلة مفتوحة إلى ما شاء الله تكشف أن مصير من يتبقى من الظاهرة الإسرائيلية سيبقى تحت وطأة الهوان والإذلال إلى يوم الدين. ذكرنا أن القدس وأرضها المباركة هي مركز العلو الأول والثاني وأن اليهود هم ذراع ضارب للظاهرة الإسرائيلية ككل، وحتماً سيكون هناك ذراع مقابل هو ذراع الظاهرة العربية ففلسطين هي مركز الصراع فما هو ذراع الظاهرة العربية؟ ببساطة هي الطائفة المنصورة، فالطائفة المنصورة مكانها فلسطين أرض الرباط وهي الطائفة التي تقيم نظام الإستخلاف من جديد فالحكم الرشيد الذي بشرنا به الرسول مركزه فلسطين في القدس وليس مكة. ولكن من هي الطائفة المنصورة أو الناجية؟ لنبدأ من صفاتها.. أول صفات أبناء الطائفة المنصورة أنهم يتصنعون الفسوق بعكس مظاهر التقوى والتدين عند الجماعات الأصولية والسلفية. وسأذكر هنا مثال لتصنع الفسوق فقد سأل المرحوم عبدالله عزام أحد مناضلي فتح: ما هو دين فتح؟ فقال المناضل الثوري: فتح لا دين لها.. ثاني صفة لأبنائها أن الشياطين تنفر من بذاءة ألسنتهم بعكس مظاهر الأدب الجم وحمرة الخجل عند التيارات الدينية يا أخي في الله يا حبيبي في الله يا شيخ قال تعالى قال الرسول.. ثالث صفة أن لها رايتان صفراء وبيضاء بعكس كل الأحزاب في الدنيا فكل حزب في الدنيا له راية إلا الطائفة المنصورة لها رايتان. رابعاً قائد الطائفة المنصورة يموت في ظروف غامضة وهو محاصر وهذا القائد ياسر عرفات. إن الطائفة المنصورة هي حركة فتح بشهادة الرسول وليس بشهادة الحركة فالحركة وأبنائها لا يعرفون أنهم الطائفة المنصورة وربما لن يصدقوا. لقد شاءت الأقدار تخليد ذكرى عبد الناصر العطرة في مسيرتنا الحضارية، ففي مرحلة البعث القومي في تاريخنا كانت تتشكل في أحشائها ثورة المستحيل، وقبل أن يقضي هذا القائد العظيم نحبه غدراً شهد أولى إنتصارات هذه الثورة في معركة الكرامة. فمنذ أن قبضت فتح على الجمر، عمدت بالدرجة الأولى إلى تثبيت مبدأ الحرية أول مبادئ نظام الإستخلاف الذي صادره معاوية. فلا عجب أن فتح ناظمة لكل أشتات الطيف الفكري حرصاً منها على تجميع كل شتاتنا الحضاري الناتج عن تفسخنا الثقافي وجمودنا الفكري وإنغلاقنا وضمورنا العقائدي. وفي ضوء هذه الحرية سكر زيادة تمكنت الحركة من توظيف شتاتنا الفكري وأطيافنا المنوعة بتوليفتها الحضارية توظيفاً إيجابياً في إطار الكتلة التاريخية، فلا عجب أن تجد داخل فتح السني والشيعي والسلفي والعلماني والقومي والشافعي والحنبلي والبهائي والأبيض والأسود والمسلم والمسيحي وحتى اليهودي. وهذا ما ساهم بفعالية في إكتساب الحركة قدرة فائقة ولياقة عالية للحركة في غمار أوضاع شائكة ومعقدة للغاية، ومنحها قوة متجددة قادرة على إمتصاص أعتى الضربات القاتلة. وما كل هذه الهجمات الهمجية الشرسة على فتح إلا لما تحمله من عبء رسالة تاريخية وعالمية، ما يعكس حقيقة أبعاد الصراع الحضاري وتبلوره بين مفهوم السلام كما تطرحه حركة فتح رأس حربة الظاهرة العربية المقابلة للظاهرة الإسرائيلية التي تتغذى على الدم. ولقد عبر الشهيد فيصل الحسيني عن مفهوم السلام الفتحاوي دون مواربة وبصراحة عندما سئل عن فتح الأندلس فأجاب: إن العرب كانت على حق. جواب ناصع خال من أية إحترازات دبلوماسية كاشفاً بوضوح عن مشروع فتح الحضاري الذي يحرم نقل ممتلكات الوقف. وأكد صحة ما ذهب إليه العدو الذي وصف وعرف فتح بأنها حركة كولونيالية تسعى وراء تحقيق حلم إحياء الأمة بطريقة الخليفة عمر، ولم تتخل أبداً عن أحلامها الكبيرة في الأندلس وباقي ما وصلت إليه فتوحات عمر. وقد جدد قائدنا الخالد ياسر عرفات تأكيد هذا الإيمان الراسخ وبشكل أكثر صراحة وفي عقر بيت الظاهرة الإسرائيلية في منتجع كامب ديفيد حين قال: القدس ملك للمسلمين ولا أملك حق التنازل عنها. لقد تجلت أسمى معاني مرحلة الإساءة بإنتفاضة الحجارة التي حرقت كل الأقنعة وأماطت اللثام عن الوجه الحقيقي لهذا النظام العالمي بكل مؤسساته وأدواته القذرة المسخرة للكيد والنيل من أمتنا وحضارتنا الخالدة تحت مسميات مجتمع مدني وحرية تعبير وحقوق إنسان ومكافحة إرهاب وأخوة إنسانية، ودفاع عن النفس وغيرها من مسميات ذئبية تلبس ثوب الحمل الوديع كما قال المسيح. فثورة الحجارة علامة فارقة على قرب زوال إسرائيل ولكن هذه العلامة أخذت شكلاً أسطورياً بفعل النزوع الإحيائي الذي جعل الحجر ينطق ويقول خلفي يهودي. فالبشارات النبوية أخذت طابعاً أسطورياً بفعل التحريف والنقل الفوضوي ولكن تبقى بشارات ستتحقق رغم التزييف ألم يقل نيتشه: الأسطورة هي الوجه الآخر للحقيقة. والعلامة الفارقة الثانية الأقرب على دنو أجل إسرائيل هي إتفاق أوسلو الذي وقعه البروفيسور محمود عباس بإسم الطائفة المنصورة وهو الإتفاق الذي ورد ذكره في الأحاديث، ويعرف بصلح الروم ويستمر عدة سنين ثم ينهار. فلا عجب إذن أن تخوّن حركة فتح ويؤتمن من خذلها، لا عجب أن يُخّون من خاضوا حرب الكرامة والليطاني وقلعة شقيف وملحمة بيروت ونهر البارد والبداوي ورفح وبيت حانون وجنين ووادي الحرامية وكنيسة المهد والمقاطعة وصنعوا الإنتصارات العسكرية والسياسية ويؤتمن من لم يخوضوا معركة واحدة بل اختبئوا في جحورهم تحت الأرض في أول معركة وحين خرجوا خرجوا ينهقوا علينا بالمقاومة والممانعة من قاعدة العيديد والسيلية الأمريكية. كيف نعجب والمصطفى يقول: سيخون فيكم الأمين ويؤتمن الخائن مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا حقاً يلعبون في الوقت الضائع كما قال البروف أبو مازن. وبسقوط صلح الروم أو إتفاق أوسلو نكون على أبواب حرب مدمرة فهذا الصراع بين الظاهرتين هو صراع وجودي وليس حدودي ولن يحسم إلا بالسيف.. وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيراً إذن فنحن على شفير حرب مرعبة سّمتها النبوءات بالملحمة الكبرى التي يسقط فيها الطير من السماء ميتاً من شدة نيرانها، فالطير لا يسقط من السماء مشوياً إلا بإنفجار نووي مركب أي إنفجار هيدروجيني وهو ما حدث بالفعل عندما قام الجيش الأمريكي بتجربة هيدروجينية في إحدى الجزر حيث إحترقت الجزيرة بالكامل وشاهدوا الطيور وهي تسقط من السماء ميتة. وهاهي مقدمات هذه الحرب تجري وقائعها على الأرض بين ظهرانينا ولا نعي حقيقتها بفعل أبواق ترسانة الدجل والتضليل الممنهج حتى أصبح الحليم حيران. فهذه الحرب واقعة لا محالة بين الظاهرتين كما تبين الآية وسندخل القدس بالبسطار كما قال أبو عمار في عقر البيت الأبيض عندما هددوه بالقتل عندما رفض التنازل عن ذرة تراب من القدس حيث رد عليهم بتحدي قائلاً: بعد سنتين أو خمسة سيأتي فاتح القدس.. ومهما حاول طرفي الظاهرتين التحايل على إعلان وفاة إتفاق أوسلو إدراكاً منهم لعواقب هذا الإعلان إلا أن كل طرف يستعد لهذه الحرب الرهيبة ويترقب إندلاعها في كل لحظة فهي قدر لا يمكن الإفلات من ويلات ريحه الأصفر الذي يفني خلقاً كثيراً كما تقول النبوءات في إشارة إلى رياح الإنفجارات الذرية، وليس من باب الصدفة أو الإستعراض أن يهدد قادة العدو بإحراق غزة أو ضربها بالسلاح الذري فهي تلميحات حقيقية تمهيداً لما هو آت. فالغواصة النووية التي ظهرت على شاطئ غزة في العدوان الأخير وما رافقها من إستنفار الطائرات الأمريكية في قاعدتي العيديد والسيلية لحماية أجواء كيان العدو تحمل دلالات واضحة بأن هذا العدو المتربع على عرش العالم قد أسلم ظهره للحائط النووي إستعداداً لحرب بتنا على شفا آتونها. وبالمناسبة هذه القواعد للجيش الأمريكي هي الأكبر في الشرق العربي ومن بين أحضانها خرج ذيول إسرائيل كهنة الخيانة أبو رغال وأبو سلول وإبن العلقمي وأبو ناجي ينهقوا بالمقاومة والممانعة والتطاول على فتح بألسنة حداد ورصاص غادر هؤلاء أمراء الهزيمة والعار الذين ولغوا بدماء أبناء وأطفال ونساء وشيوخ الطائفة المنصورة لتقويض أركان وهدم نظام الإستخلاف الذي شيدت صرحه حركة فتح وحدها فقط رغم التآمر والخذلان طوال مسيرتنا النضالية. ولكن هيهات أن تسقط فتح فهي طائفة موعودة بالنصر وغداً سيبزغ فجر نظام الإستخلاف الموعود أليس الصبح بقريب.. وليتبروا ما علو تتبيراً كلمة تشع بمعاني تأخذ الألباب بسحرها وهي أن إرادة الخير وإرادة الشر عندما تتقابلان في حومة المجتمع الإنساني إنما يحدث ذلك بأفكار محددة، فلكل إتجاه فكرة ينادي بها ونظام يدافع عنه. من حيث أن القوة المتكونة من تفاعل إتجاه الخير تقف في طريقها قوة متكونة من تفاعل إتجاه الشر، وهي تفاعلات متضادة تفضي إلى صراع دائم بين هاتين القوتين. ومن دلالات الآية أنها تسقط الضوء على محور الخير ومحور الشر وتلفت الإنتباه بأن إرادة الشر قد تنتصر في البداية فتضطر إرادة الخير إلى التقهقر. إلا أنها سرعان ما تعود ثانية أقوى مما كانت عليه الجولة الأولى. وهكذا دواليك في عملية كروفر متواصلة وهبوط وصعود متصلة يحاول فيها كل إتجاه التغلب على الآخر. ليس هذا فحسب، بل تحدد الآية عناوين محور الخير ومحور الشر فضلاً عن سمات الكتلة التاريخية لكل محور كإطار عام لقوى النور والظلام. وكذلك تحدد البقعة الجغرافية لبؤرة الصراع الدائرة رحاه بوتيرة إستئصالية على إمتداد الأرض المباركة بين الذراع الضارب للقوى النورانية والذراع الضارب للقوى الظلامية. إن هناك صدام حي وليس تكهن بين مشروع حضاري يحمل قيم إنسانية وبين مشروع إستعلائي يحمل قيم بربرية فوق تراب فلسطين المباركة. الأول يحمل قيم سماوية يرفع لواء مدنيتها طائفة منصورة تجنبت أدبياتها الخطاب الكهنوتي وعمدت إلى خطاب حداثي رفيع يعمل بهدوء رتيب لإحياء وبعث الحكم الرشيد وتشييد صرحه الحضاري وإختزلت مراحل هويتها الحضارية بألوان العلم الأسود والأخضر والأحمر والأبيض. والثاني يحمل قيم أرضية يرفع لواء ماديتها عصابات إسرائيلية متوحشة تجنبت الخطاب الكهنوتي أيضاً وعمدت لإحياء مجلس السنهدرين وعدد أعضائه مئة وعشرون وهم نفس عدد أعضاء الكنيست الحالي لبعث وتشييد مملكة القبيلة البيضاء أو مجتمع النمور النيتشوي وإختزلت هويتها بلون العلم الأزرق والأبيض والنجمة السداسية. بذا تتضح معالم هذه المعادلة الدينية العاتية بين ذراع ضارب لمحور الخير أو الإصلاح والإضاءات الخلاقة وبين ذراع ضارب لمحور الشر أو الإفساد والفوضى الخلاقة، إنها حرب دينية بإمتياز فمن ليس معنا فهو ضدنا. من هنا نفهم سر حقد الجماعات الأصولية تحديداً وعدائها المستطر لحركة فتح ومحاولتها الدنيئة لسرقة دورها الريادي والإستئثار برسالتها التايخية فهي حركة لم تتصنع التقوى وجمعت في وعائها النوراني بين تيارات الأصالة وتيارات المعاصرة بشتى شرائحها المحافظة والإنفتاحية، فلا يمكن لحركة فتح أن تضمن لنفسها أسباب النجاح أسبابه الذاتية وهي الأساس إلا إذا إنطلقت من الواقع كما هو وأخذت بعين الإعتبار كل مكوناته الإجتماعية وإنطلاقاً من إيمانها بأننا في الهم سواء، وبأن الفشل ليس فشل أفراد أو تيار بل هو فشلنا جميعاً وفشل تجربة تاريخية لم تتوفر لها أسباب النجاح كاملة. فالمنتصر من وراء فشلنا هي القوى المعادية محلياً ودولياً، فلا أحد يستطيع أن يجادل في دور القوى الخارجية في إفشال المشاريع القومية والدينية خاصة أن هذه القوى المعادية لا تخفى وتدرك أنها المستهدفة أولاً وأخيراً سواء إنتصر المد القومي أو المد الأصولي. لذا يجب إستحضار هذه الحقيقة دائماً. بذا تتضح ملامح حركة فتح وسر قوتها بأنها تعبر عن آمال وطموحات الكل ولم تهمل أي جزء وهذا ما منحها مناعة طبيعية. وكلمة التتبير هنا تعني التدمير بشقيه الجزئي والشامل في إشارة بليغة بأن الأسلحة المستخدمة في هذه الحرب أكبر من السيف والرمح والمنجنيق والخيل، فهي تشير إلى أسلحة مغايرة قوتها التدميرية أشبه بالزلزال والخسف ونيرانها تسقط الطير ميتاً من سماه. فماذا بها غزة من أسلحة حتى يحشد لها العدو غواصات وطائرات مدججة بأسلحة نووية ويهددها قادته بالمحرقة؟ ببساطة أن حصار غزة هو حصار الشام المشار إليه بالنبوءات ولن ينتهي الحصار إلا بالملحمة الكبرى قريباً شاء من شاء وأبى من أبى. وبإمكاننا الآن أن نفرح لفلسطين ونغني لأبي عمار: لن يدخل القدس قائداً فاتحاً غير تابوتك يا ملك الثوار يا سيد الأحرار وكفانا شرفاً وفخراً أننا جنودك ويا جبل..