النصر لليمن
عبد الحليم قنديل
2011-06-05
مهما كانت تلاعبات علي عبد الله صالح في اليمن، فسوف يذهب ـ كما مبارك وبن علي ـ إلى النهاية التي يستحقها .
صالح يشعل النار في اليمن، ويريد أن يحرق الأخضر واليابس، وأن يحولها إلى حرب أهلية، وعلى سبيل الفرار من مصيره المحتوم، ودفع شباب الثورة السلمية الباهرة، والمتصلة إلى الآن على مدى زاد عن أربعة شهــــور، يريد صالح أن يدفـــع الثـــائرين إلى مبادلته سلاحا بسلاح، وأن يفقدهم ميـــزة التفــوق الأخلاقي، وأن يحل صــراع القبائل محل كفاح اليمنيين الباسل من أجل الحرية.
ورغم ماهو معروف من تعقيد التركيب القبلي في اليمن، ووعورة الجغرافيا، وانتشار السلاح الذي هو زينة الرجال، رغم إغراءات الاحتكام للصدام المسلح، فقد بدت الثورة اليمنية على وعي غريزي مدهش، قدمت آلاف الشهداء والجرحى، ومن دون أن تهتز عقيدتها التلقائية الثابتة، ومن دون أن تهن أو تضعف، أو تقع في فخاخ الخلافات القبلية والجهوية، وكان التحرك السلمي النقي الرائع مؤشرا أكيدا للنصر، وتشديدا للضغط على الديكتاتور وجماعته، الذي بدا في صورة دراكولا مصاص الدماء، وبدت مناوراته مكشوفة، وأوراقه محترقة، وفشلت جهوده لكسب الوقت، وإلى أن وقع خطأ الصدام بالسلاح، الذي سعى إليه صالح، وحول أجزاء من العاصمة اليمنية إلى ساحة حرب مع أنصار شيخ مشايخ قبائل حاشد، وهي أكبر مجموعة قبلية في اليمن، وينتمي إليها صالح نفسه.
وهدف صالح مفهوم من افتعال الحرب المسلحة مع أنصار الشيخ صادق الأحمر، فهو يريد أن يدفع بخبر الثورة السلمية إلى الظل، وأن يتقدم عليه بخبر الحرب الأهلية والقبلية، وأن يؤجج صداما داخليا في قبائل حاشد، يبلور به جماعة مؤيدة له، وبدعوى أولوية الدولة على القبائل، في حين حول صالح الدولة إلى قبيلة، لا تنتمي إلى شرف أصول وأعراق وتقاليد، بقدر ما تنتمي إلى أصول النهب وأعراق القمع وتقاليد التسلط استنادا إلى البطش المسلح .
وينبغي أن يعود الصدام في اليمن سياسيا لا قبليا، ونثق في نضج تفكير قبائل حاشد وبكيل وأخواتها، وفي هذه الوحدة الوطنية الرائعة التي بدت عنوانا للثورة السلمية الباسلة، وجمعت قبائل اليمن كلها كقبضة يد، ومحت فوارق الشمال والجنوب، وخلافات السياسة وأحزابها، وجعلت قضية الشعب اليمني ظاهرة، ومؤثرة في ضمائر الدنيا الحرة كلها، فقد قدم اليمنيون واليمنيات مثالا ملهما، وتوافدت حشودهم إلى ميادين الحرية في المدن الكبرى والصغرى، واجتمــــعت أجـــــيالهم على مبدأ الحرية الموحد لليمن، تماما كما وحدته كراهية الناس لدموية الديكتاتور، ونهب عائلته لموارد البلد، وعمله في خدمة الأمريكيين وبأوامرهم، وتحويله اليمن إلى دولة فاشلة لا تترك سوى البؤس والضياع لأبنائها وبناتها، وتغذي مشاعر الانفصال والتقسيم، وتنشر الفقر والبطالة والعوز وإهدار الكرامة الإنسانية .
نعم، الثورة اليمنية خلقت حراكا وطنيا جامعا، بوحدة الدم السيال من أجل الحرية، وبصحوة الشبان والشابات، وبانضمام حركات المعارضة للثورة الكبرى، كل ذلك ـ وغيره ـ مما جعل اليمن الحزين يحلم باستعادة سعادته، وبالوحدة الطوعية الجامعة لجهاته، وببلورة شعور موحد يستعيد لليمن عافيته، وتألق صورته، وانبهار الدنيا كلها بوعي ثائريه، ورقى سلوكهم الميداني، ورفضهم الانزلاق إلى دوامة العنف، واستعدادهم الهائل للتضحية، ومن دون كلل أو ملل من استطالة الأيام، وتثاقل شهور الانتظار، وزيادة الفواتير والتكاليف، واتصال الصمود بالصدور العارية، والنفوس المشتاقة ليوم النصر القريب، وهم يحسبونه بعيدا .
وقد أحبطت الثورة السلمية مناورات صغيرة لعبد الله صالح، ومن نوع مقابلة حشود الحرية بحشود الديكتاتور، وتبديد موارد الدولة لشراء أنصار وهميين، وادعاء الحرص على سلامة اليمن، وعلى الانتقال المنتظم، وإبداء الرغبة في الرحيل بدون دليل فعلي، والمراوغة في المواقف، ومحاولة افتعال صدام سياسي بين أحزاب المعارضة والشباب في ميادين الحرية، وفشلت المناورات كلها بفضل وضوح رؤية المكافحين السلميين من أجل الحرية، وصمودهم العبقري في وجه الانتهاكات الشنيعة، وصبرهم الجميل، وكشفهم لدموية الديكتاتور المدعي للديمقراطية، وتشقق جماعة صالح من العسكريين والمنتفعين، وإدراك الجميع للحقيقة المنتصرة في النهاية، وهي أن أيام صالح في السلطة معدودة، وأن حكم الشعب صدر، ولم تبق إلا التفاصيل ومواعيد التنفيذ .
وقد كادت المبادرة الخليجية تحدث فتنة بين أنصار الثورة، خاصة في ما يتعلق بضمانات تمنح للديكتاتور، وتتيح له الهرب بجرائمه وسرقاته، والنجاة من محاكمة مستحقة. وبدت أحزاب المعارضة في 'اللقاء المشترك' أدنى لقبول المبادرة، لكن يقظة ثوار الميادين كانت حاضرة، ثم أن أكاذيب صالح اختصرت الطرق، وأزالت الخلافات، فقد تظاهر صالح بقبول المبادرة، ثم عاد ليعترض، ثم غير رأيه المعلن إلى ادعاء القبول، وتعامل مع المبادرة كطوق انقاذ، تعلق به، وتلاعب في تفاصيله وجداوله الزمنية، وبهدف كسب الوقت، وحين تحطمت الألاعيب كلها على صخرة صمود الثائرين، جرى نزع القناع عن الوجه الدموي الكئيب، وبدأ في افتعال صدامات مسلحة في صنعاء، وحاصر بقواته المسلحة مدن الغضب، وارتكب مذابح مروعة في زنجبار وتعز البطلة، وبهدف إلقاء الرعب في نفوس الثائرين، وخلط الأوراق، وحرق اليمن على طريقة نيرون روما .
وفي دراما الثورات الكبرى لابد من تجنب الأخطاء الكبرى، والحذر من الوقوع في الأفخاخ، والاستعداد الدائم لتجديد الأساليب المعتمدة على قوة الناس السلمية، وإعادة استظهار الأهداف الأصلية، والهدف الجوهري للثورة اليمنية الجارية، وكما هو هدف الثوراث العربية المتلاحقة، هو كسب الحرية والكرامة، وإرغام الديكتاتور على الرحيل بدون قيد ولا شرط، والتصميم على حق الشعب في محاكمة جلاديه وناهبي ثرواته، ومن دون الوقوع في خطأ مبادلة السلاح بالسلاح، وهو ما يعني مهام عاجلة، بينها وقف أي تفاوض مع الديكتاتور، وبالطريق المباشر أو غير المباشر، وإدانة عنف السلطة من دون مبادلته بمثله، والتركيز على استعادة حيوية التحرك في ميادين الحرية، وهو ما يصح أن تجتمع عليه الارادات الخيرة، وأن تجتمع عليه الطلائع السياسية، وأن تتوحد عنده قوى المعارضة وزعامات القبائل، وأن تعطي لوحدة التراب اليمني أولوية قصوى، وبتصور لبديل انتقالي يحمي وحدة الجيش والشعب، وبلا أي تمييز طائفي أو قبلي أو جهوي، وبرفض كل وصاية خارجية مهما ادعت من حرص، فلا أمريكا تريد لثورة اليمن أن تنتصر، ولا العائلة السعودية تريد، وخيارهم الأمثل في اليمن هو علي عبد الله صالح، أو ديكتاتور آخر يشبهه ويكرر مأساته.
' كاتب مصري