في ليلة رحيله الثالثة محمود درويش يسرق نار اورفيوس مرة اخرى
علي حسن الفواز
في ذكرى ليلة رحيله الثالثة تتوقف الكثير من الساعات، الساعات التي(تركض الخيول)كمايقول محمد خضير، او الساعات التي تشبهنا، ليس لانها عناوين فاضحة لمتاهات الزمن الذي يستعملنا كثيرا، بل لكي تحيلنا الى زمن اخر، يومي ومباح، ويمكن استعماله وصيانته والاحتفاظ به مثل روائح العائلة، تلك هي غواية محمود درويش ازاء الزمن، اذ لم يصدّق الكثيرون موته السريري او موته البايولوجي او موته عند سعاة البريد الذين لم يستلم رسائلهم، اذ هو حاضر بنوع من السكنى الدائمة، واللجوجة احيانا عند خاصرة اللغة بوصفها بيت الكائن، والتي تولّد ابناءها الضالون بسرانية خنثوية طاعنة. والتي تمنحهم غواية القصيدة المغسولة بالشهوات الكبرى، تلك التي يلتذ الجسد لهبوطها متوهجا لامعا وكأنه يصطدم بنيزك شائه ضل طريقه في السديم..
ذكرى ليلة رحيله الثالثة توقظ فينا نحن الابناء قسوة الاباء الغائبين الذين يشبهون السماء الخفيضة، مثلما توقظ في سوانحنا قسوة الكلام الذي تنكسر فيها الوصايا، والذي يخرج الى الشوارع العامة والزوايا والتكايا والحانات دونما رعبه القلق المشبوب باسئلة الاب القديم عن جغرافيا الامكنة والاصدقاء والعادات.
احسبه الشاعر الوحيد الذي لم يصدّق احد موته، ربما لانه اكثر حياة من الجميع، وربما لانه يملك القدرة على ان يشتري كل ازياء الشعر ليلبسها في الكارثة والشهوة، في العزاء والسرير، في نوبة اللذة او في نوبة الخوف..وربما ايضا لانه لايخشى الامكنة التي كثيرا ما توهم اصحابها بنوسالجيا الموت، لذا هو يستعيد فلسطين وعمان وباريس وبغداد وحيفا في القصائد مثلما يستعيد اوراقه من جارور مكتبه، لان هذه المدن تشاطره الكلام والقلق وحبّات القلب المرتبك في الخفقان...
في الليلة الثالثة لرحيله يعيدنا درويش الى القصيدة مرة اخرى، الى هذه اللزوجة الدسمة التي تبهرنا بالاشباع والقلق في آن معا، مثلما تمنحنا اطمئنانا ولو مغشوشا او فاضحا، اذ تضعه على رؤوسنا التي تمارس العاب الصخب والتمرد والاحتجاج، وتلجأ بعد هذه النوبات الصادمة والفارقة الى الغناء، اذ يكون الغناء هنا تعويضا عن الاحتباس اللغوي والاحتباس العاطفي، وخوفنا من ان لا يسمع احد اصواتنا المهموسة المذعورة من الحكومات والاحتلالات والاصدقاء العسس..
فهل يمكن ان تتحول استعادة قراءة محمود درويش بعد هذه الليلة الى نوع من المسؤولية الثقافية والجمالية؟ وهل يمكن لهذا الشاعر الذي غنى احزاننا كثيرا ان يتحول الى صانع احلام من الطراز النادر؟ وهل يمكن لدرويش المباح لكل القراءات ان يقف الان مزهوا بثورات الربيع السياسية وضجيجها المثير للجدل، والتي لم تتحول بعد ثورات شعرية للاسف؟
اظن ان هذه الاسئلة هي مدخل قد يبرر الحديث كثيرا عن ظاهرة انسانية وشعرية اسمها محمود درويش، ليس لان هذا الدرويش شاعر استثنائي وعابر للعادات الشعرية، او لانه ظل يغني حتى لحظة موته الاخيرة- وسط الموت العلني للكثير من مظاهر الغناء الشعري- بقدر ما ان درويش كان يدرك الكثير من سرائر هذا الموت المركب والفادح، موت التاريخ بمعناه اللامتخيل، والذي تحول عند البعض الى فقهيات سوداء والى حروب يافطات وايديولوجيات وتكايا، وموت السياسة بمعناها كدكاكين، وبمعناها كفرجة ظل يصنعها الطغاة لنا، والتي اصابت الكثيرين بالغفلة عن السرّاق الحقيقيين للارض والمعنى وكل اقنعة الاعداء، وبالتالي فانها اصابتنا بانواع لاتحصى من الكآبات الوطنية المزمنة..
في استعادة ذكرى الشاعر محمود درويش يبحث الكثيرون عن الترياق التاريخي والشعري، وربما يبحثون عن الشعر ذاته ليقلبوا الكثير من اوراقه، لادراكهم ان درويش كان يقلب اوراق الشعر دائما، وان علاقته بالاخرين هي علاقة شعرية خالصة، حتى علاقته بفلسطين وجسده واصدقائه ومنافيه وقلبه المرتعش كانت مصممة بطريقة شعرية، وبالطريقة التي تجعل طقوسها حافلة باللغة الانيقة واصواتها المتكسرة على بعضها البعض ومايتصاعد من اغواء فناجين القهوة وبهاء الضحك والكلام الذي يرشّ بلله على الحاضرين، لذا لامناص من استعادة الشاعر محمود درويش بهذه الطريقة التي يطمئن اليها كثيرا، اذ كان يعرف شفراتها، ويلتذ بكل ما يخرج من اشتباكاتها، حتى وان كان ضاجا وزاعقا، لانه يعرف بقين كامل، ان الشعر هكذا، اصوات يركبها اصحاب الشفرة لتبدو بمزاج اعتراف او اغنية اوهمس اورثاء، واحيانا تكون بالحكمة العميقة التي تفرّق بين القبلة او العضة كما يقول الشاعر خيري منصور..
محمود درويش لم يكن شاعر مراث كسولة لطلل الارض، ولاحتى لخسراناته الكثيره ولايامه المضللة بالمتاهات، انه شاعر بامتياز الفيلسوف او الحكيم، واحيانا يلبس قفطان العراف ليكشف عن الاسرار الخبيئة في اللغة، ويجلو عنها غبار حروبها ولهاث محاربيها، ويفصح عن ما في روحها من هتاف قديم، او احتجاج مؤجل، لذا هو يكتب ويرمم عبر الكتابة خرابات الروح قبل خرابات الارض، يستحضر اللذة العاطلة، والجسد المكسور والمشوه، والاصابع المخذولة، ليقول وبصوت عال ان اللغة تكفي والغناء يكفي، اذ ظل الطغاة والمحاربون يخشون لعبة التأويل والغناء، لانها اللعبة التي تكرر لعبة حامل النار اورفيوس الشاعر والحكيم والبطل الذي سرق نار الطغاة ليضيء بها العالم الذي يعيشه الفقراء.