فشل مشروع الديمقراطية الليبرالية الأميركية في العراق
قاسم محمد داود
فشل مشروع الديمقراطية الليبرالية الأميركية في العراق
بعد مرور أكثر من عقدين على الغزو الأميركي أصبح من الواضح أن الجهود الرامية إلى جلب الديمقراطية إلى العراق قد فشلت نتيجة الانتكاسات الكبيرة التي واجهت هذه التجربة، حتى أضحت العملية الانتخابية لا تلبي إرادة الشعب الفعلية. وأن حلم المحافظين الجدد الأميركيين في إنشاء شرق أوسط محرر وديمقراطي حسب رؤيتهم قد تبدد بسرعة كبيرة بعد التاسع من نيسان 2003، وهو تاريخ وصول الأميركيين إلى بغداد، وان ذلك الحلم كان "سراباً سياسياً" تم تصوره في واشنطن، ولم يكن معتادا على حرارة الأجواء العراقية. وهكذا كانت رؤية التحول الإقليمي وشرق أوسط جديد، من خلال عراق ديمقراطي في نهاية المطاف مجرد وهم، سرعان ما تبخر. يمكن أن يُعزى ذلك الفشل إلى عدة أسباب معقدة ومترابطة، منها:
بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، عندما واجه العراق فترة طويلة من عدم الاستقرار السياسي. والصراعات الطائفية والعرقية والفراغ الأمني ساهمت في زيادة العنف وعدم الاستقرار. بالتزامن مع صعود الجماعات المسلحة وانتشار الفوضى وعدم الاستقرار، مما زاد من تعقيد الوضع الأمني والسياسي في المنطقة. ولم يستطيع الحاكم الأمريكي بريمر وعدم قدرة النخب السياسية التي جاء بها على بناء مؤسسات حكومية فعالة ومستقرة في العراق أدى إلى تدهور الوضع العام في البلاد. وكان للفساد وسوء الإدارة لهما دور كبير في هذا الفشل.
ولإن المشروع الأمريكي كشف عن حقيقة أنه مشروع محتل وليس محرر كما زعم من قبل فقد واجه مقاومة شديدة من قوى محلية وإقليمية كل بحسب أهدافه من تلك المقاومة، بما في ذلك إيران التي لعبت دورًا كبيرًا في دعم الفصائل الشيعية المناهضة للوجود الأمريكي الذي ارادت أزاحته والحلول مكانه. وفي هذا الجو من انعدام الثقة العميق، نظم السنة مقاومة، مما أجبر الأميركيين على مراجعة استراتيجيتهم بالكامل في العراق وإعادة تأسيس الحوار مع هذه النخب في إعادة إعمار العراق الجديد، الذي يُنظر إليه على أنه نموذج ديمقراطي للشرق الأوسط. "وقد تفاقم هذا الوضع مع ظهور الجهاديين الأمميين، الذين استولوا على تمثيل المقاومة السنية، وقدموا وتبنوا الإرهاب باعتباره الخيار الوحيد القابل للتطبيق. ولم يقتصر سقوط بغداد في 9 نيسان 2003 على الانتشار المكثف للقوات الأمريكية في العراق فحسب، بل شهد أيضًا وصول الآلاف من الجهاديين الأمميين من جميع أنحاء العالم. واتجه الجميع نحو العراق الجديد الذي تصوره المحافظون الجدد. وهكذا، وجد الأميركيون والجهاديون أنفسهم هذه المرة ليس في نيويورك بل في بغداد. وفي المواجهة المباشرة، قام هذين الفاعلين، وكلاهما غريبان عن السياق العراقي وكل منهما يضم مشروع التدمير المتبادل -الديمقراطية المثالية مقابل المثل الأعلى للجهادية- بتحويل العراق بسرعة إلى جحيم حقيقي على الأرض."
التكلفة الباهظة للحرب على العراق سواء من حيث الأموال أو الأرواح البشرية جعلت الدعم الداخلي في الولايات المتحدة لهذه السياسات يتضاءل مع مرور الوقت. وأدرك المخططون للغزو أن التوقعات غير الواقعية بتحقيق انتقال سريع وسلس إلى الديمقراطية أثبتت أنها غير واقعية في ظل التعقيدات الثقافية والاجتماعية والسياسية في المنطقة. وكانت أول ظواهر الفشل بدت واضحة عندما تخلي بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، عن الوعود السابقة التي قطعها للمجموعات العراقية المعارضة، فقد تبين لهؤلاء أن بريمر جاء بمهمة محددة من قبل الإدارة الأمريكية لإعادة هيكلة السلطة في العراق، وهذا يتطلب تغييرات جذرية تتعارض مع التزامات ووعود سابقة تم قطعها لهم.
ومن القرارات المثيرة للجدل التي اتخذها بريمر كمرحلة من مراحل مهمته، كان قرار حل الجيش العراقي. هذا القرار أدى إلى فقدان العديد من النخب العسكرية والسياسية لمواقعهم ونفوذهم، مما زاد من الشعور بالخيانة بين تلك النخب. تفكيك المؤسسات الحكومية والعسكرية، بما في ذلك حل الجيش العراقي، خلق فراغاً أمنياً وسياسياً. هذا الفراغ أدى إلى زيادة العنف وانتشار الجماعات المسلحة التي استغلت هذا الوضع لتعزيز نفوذها..
صار جلياً لدى عرابي الغزو والاحتلال الأميركي إن بريمر كان يتبع سياسات وضعتها الإدارة الأمريكية في واشنطن، والتي كانت تركز على إعادة بناء العراق وفق رؤية جديدة، تخدم توجهات المحافظين الجدد والحفاظ على أمن إسرائيل من مصدر تهديد محتمل، بغض النظر عن الالتزامات السابقة وأن الضغوط من واشنطن كانت تعني أن بريمر عليه اتخاذ قرارات تعكس السياسات الأمريكية الجديدة بدلاً من الالتزامات السابقة.
ومما زاد الطين بلة أن الجهود الأمريكية لبناء مؤسسات ديمقراطية قوية فشلت بسبب الفساد وسوء الإدارة وقلة الخبرة في الحكم. هذا الفشل أدى إلى فقدان الثقة في الحكومة وعدم قدرتها على توفير الخدمات الأساسية والأمن للمواطنين.
ولم يعد خافياً على أحد في العراق أو في الولايات المتحدة الأميركية نهاية الحلم الأميركي وأن مغامرة اميركا في العراق لن تتبع المسار المنشود ليصبح نموذجاً مستقراً وآمناً ومتطوراً وديمقراطياً للشرق الأوسط بأكمله. بل على العكس من ذلك، كان العراق يجسد "نموذجاً مضاداً"، يولد الخوف، وانعدام الأمن، وعدم الاستقرار، ونشر الموت. هذه العوامل مجتمعة جعلت تحقيق حلم المحافظين الجدد بإنشاء شرق أوسط محرر وديمقراطي حسب المقاسات الخاصة بهم مهمة شبه مستحيلة.
وهنا وبعد أن صارت عوامل الفشل واضحة وان الوضع في العراق متجه بقوة نحو التدهور في كافة المجالات واولها الوضع الأمني ولتلافي تدهور الوضع الأمني بشكل سريع بعد الغزو، وزيادة الهجمات والتمردات، جعل بريمر يتخذ قرارات سريعة تهدف إلى تحقيق الاستقرار الأمني، حتى لو كانت هذه القرارات تعني التخلي عن الوعود السابقة.
وبعد أن زالت نشوة انتصار الغازي ومن تعاون معه من القوى المحلية والأجنبية تبين أن هناك فجوة ثقافية وسياسية بين النخب العراقية والإدارة الأمريكية، حيث أن فهم النخب العراقية للوضع ومتطلباته والأهداف التي كانت تدور في بال كل منهم لم يتطابق مع الرؤية الأمريكية لإعادة بناء العراق. ولتخبط السياسة الأمريكية المتغيرة وعدم الاستمرار في استراتيجية واضحة لبناء العراق، بالإضافة إلى سوء التقدير للتعقيدات الثقافية والاجتماعية والسياسية في العراق، ساهمت في الفشل في تحقيق الأهداف المرجوة.
بعد هذا التدهور والانفلات الأمني كانت هناك دول وقوى إقليمية تتحين الفرص لتجد لها موطئ قدم في العراق المحتل والمستباح مثل إيران التي زاد تدخلها في الشؤون الداخلية للعراق، قد زاد من تعقيد الوضع السياسي والأمني، حيث دعمت هذه القوى فصائل مسلحة لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب استقرار العراق.
ونتيجة لعدم وجود استراتيجية واضحة من قبل لدى الإدارة الأميركية فأن السياسات الاقتصادية والسياسية الجديدة التي سعى بريمر لتطبيقها كانت تستلزم إصلاحات جذرية قد لا تتماشى مع التزامات سابقة للنخب العراقية، خصوصًا إذا كانت هذه النخب تبحث عن مصالحها الخاصة سواء كانت فردية أو حزبية. هذه العوامل مجتمعة تفسر لماذا تخلى بول بريمر أو بالأحرى الإدارة الأميركية عن الوعود السابقة التي قطعها للنخب العراقية، حيث كان عليه التعامل مع واقع جديد وتحديات ملحة تتطلب قرارات جذرية وسريعة.
وكنتيجة حتمية لهذا التخبط الأميركي وحلفاؤه العراقيين بعد سقوط نظام صدام حسين، ظهرت الانقسامات الطائفية والعرقية إلى السطح بشكل واضح، وكان الصراع بين الطوائف السنية والشيعية، بالإضافة إلى الصراع الكردي مع الحكومة المركزية، قد أدى إلى تفاقم العنف، وانعدام الأمن، وعدم الاستقرار والفوضى الأمنية، وإلى ظهور جماعات إرهابية مثل تنظيم القاعدة ثم تنظيم داعش، والتي زادت من حدة العنف والفوضى وأدت إلى انتشار الرعب والموت.
لم تتحقق الوعود الأمريكية بالشكل المتوقع وكما روج لها، مما أدى إلى خيبة أمل واسعة بين العراقيين. هذا الشعور بالخذلان وعدم الرضا غذى المزيد من الاضطرابات والعنف. بالإضافة إلى أن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة ونقص الفرص الاقتصادية ساهمت في زيادة الاستياء والاضطرابات بين السكان، مما جعل من الصعب تحقيق الاستقرار والتنمية.
كل هذه العوامل أسهمت في تحويل العراق من "نموذج" للديمقراطية والاستقرار إلى "نموذج مضاد" يجسد الخوف والعنف وعدم الاستقرار، وهو ما أدى إلى تبديد الحلم الأمريكي في هذا السياق، وتحول العراق، الذي يجسد الأمل في التغيير الإيجابي في المنطقة، بسرعة إلى "نموذج مضاد" للدور المقصود منه، الأمر الذي أثار الخوف ليس فقط بين دول المنطقة، بل وأيضاً داخل مجتمعات الشرق الأوسط التي تبين لها بوضوح، أن بوش ارتكب الخطأ الأكبر في العراق خلال تلك الفترة بمحاولته تطبيق خطة والده بوش الاب والتي اعلنها خلال تسعينات القرن الماضي مؤكدا نيته تحويل العراق الى دولة ديمقراطية ليبرالية، وأن "الكوارث" التي تسببت بها الولايات المتحدة في العراق، بدأت قبل الغزو مع اطلاق "الأكاذيب" حول امتلاك البلاد أسلحة دمار شامل، لتتبعها لاحقا بمنطلقات صدرت عن جهل وعدم فهم لطبيعة المجتمع العراقي او النظام الذي قضوا عليه داخل البلاد قادت الى اهم الأخطاء وهو تفكيك الدولة العراقية وحل قواتها الأمنية بشكل كامل.