المحرر الشراتحة .. يتحدث عن عمليتي أسر 'سبورتس وسعدون'

على رائحة القهوة البدوية، والنار المشتعلة بأعواد الحطب اليابسة، جلس الأسير المحرر "محمد الشراتحة" تحت سقف خيمته التي يستقبل فيها مهنئيه بتحرره يستعيد ذكرياتٍ غابرة تعود لما قبل 23 عاماً قضاها في سجون الاحتلال.

تجاعيد وجّه الرجل الخمسيني بدت كصفحة غامضة المعالم حفر عليها الزمن تجربة مجيدة ومريرة في الوقت ذاته، من مقاومةٍ للاحتلال، وسجنٍ وبوسطة، وعذابات في السجون كان سببها أسر جنديين صهيونيين ومن ثمّ قتلهم، وعمليات أخريات ضدّ "أعداء سرقوا الأرض وانتهكوا حرمات فلسطينيين أحرار".

والمحرر الشراتحة من مواليد 1957، ويسكن عزبة "عبد ربه" شمال قطاع غزة، حيث اعتقل في العاشر من مايو/ أيار لعام 1989، وحكم عليه آنذاك بالسجن لمدة ثلاثة مؤبدات و30 سنة على قضية أسر جنديين، وعمليات أخرى.

(101)

بهدوء أعصاب جلس المحرر الشراتحة يتحدث عن تجربته الفريدة في أسر جنود صهاينة والكيفية التي فعل بها ذلك، والتعامل مع قوات الاحتلال وكسر هيمنتها الأمنية والاستخباراتية ضدّ الفلسطينيين ومقاوميهم، من خلال الخلية التي عرفت حينها باسم (101) بشكل عفوي.

بدأ الشراتحة حديثه بنظرات ثاقبة وتركيز عال،ٍ كي لا يتيه مع "عالم الصحافة" في أمور لا يريد التحدّث عنها خاصة بعد تجاربه مع "العصافير" –اسم يطلق على العملاء في سجون الاحتلال- وفشلهم في استدراجه للإدلاء بأيّ اعتراف.

وبصوت خافت قال: "إن القائد العام لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس الشيخ الشهيد "صلاح شحادة" بدأ بتنظيم أفراد في الكتائب بمنتهى السرية، وكان يعطي لكل فرد منهم رقماً عسكرياً لتلاشي التعامل بالأسماء لأسباب أمنية تتناسب مع الظرف آنذاك.

وقد كان رقم المحرر الشراتحة وقتها (101)، حيث كُلّف يومها، كما يقول، :"بالتواصل مع أفراد آخرين وتنظيمهم ضمن الجهاز العسكري لكن بدون أن يعرف أحدهما الآخر"، فكانت نقطة البداية له للشروع في العمل حسب رؤيته الشخصية ومستلزمات الأمور، فكان الشرط حينها ألا تعرف القيادة العليا كذلك الأفراد المنظمين معه حرصاً على أمنهم.

ونظّم الشراتحة المجاهد "عبد ربه أبو خوصة" كأول فرد تابع له وأعطاه رقم "101"، وبعدها نظّم المجاهد "محمد نصار" وأعطاه الرقم نفسه لكن دون معرفة أيٍّ من الفردين أحدهما.

وبعدها كلّف الشراتحة نصار بتنظيم شخص دون أن يعرفه هو، فنظّم الشهيد "محمود المبحوح" وأعطاه الرقم نفسه لتصبح الخلية تحت اسم "101" وبشكل عفوي، لتكون مُقاوِمة لمجموعات رئيس الوزراء الصهيوني وقتها "أرائيل شارون" المضطهدة للفلسطينيين بشكل غير مسبوق.

ومع الوقت تدرّبت الخلية جيداً في العديد من "البيارات" على يد "أبو خوصة" الذي كان خبيراً في الأمور العسكرية، حيث كان الأفراد ملزمين بارتداء القناع طيلة فترة التدريب لكي يبقون جميعهم تحت إمرة الشراتحة دون أن يعرف أحدهم الآخر حرصاً على سرية الخلية وأفرادها.

"سبورتس"

ارتشف الشراتحة قليلاً من القهوة وتابع حديثه عن "أول الغيث" من عملياته التي كانت بمشاركة زميله "أبو خوصة" لأسر مهندس طيران صهيوني كان يعرف باسم "سعاديا" خلال إجازته من الجيش، إلا أن المحاولة باءت بالفشل.

ومع بداية عام 1988، كما يتحدث الشراتحة، كانت المهمة في العملية الثانية هي إطلاق النار على جنود صهاينة كانوا بالقرب من دوار حمودة شمال قطاع غزة، حيث قتل فيها مغتصب ولاذ المنفذون بالفرار إلى بر الأمان.

وبعد هاتين العمليتين، أصبح التفكير ملياً لدى "مهندس الخلية" بأسر جنود صهاينة لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال ضمن صفقات، فبدأ التخطيط لعمليات التمويه والإغارة، تنحى خلالها الشراتحة وأبو خوصة عن مهمة التخفي كونهما بدويين لا يصلحان لعملية التخفي، وتركا الأمر لنصار والمبحوح لكي يقوما بعملية التمويه والتخفي والأسر من منطقة السبع، ومن ثمّ يقوم الشراتحة وصديقه بنقل "الأمانة" إلى غزة.

ويتابع الشراتحة:" بالفعل كان عام 1988 العام المشهود الذي قامت الخلية فيه بالإعداد للعملية جيداً وأحضرت المسدسات والسكاكين والملابس اللازمة لها بعدما أجريت عملية أسر وهمية لجندي أطلقت سراحه بعد نجاح المراد.

وبدأ التنفيذ.. وانتحل نصار الذي كان سائقاً متمرساً ويجيد اللغة العبرية، وصديقه المبحوح شخصيات يهود متدينين وتمكّنوا من أسر الجندي "آفي سبورتس" الذي كان يؤشر لهم ظناً منه أنها سيارة أجرة صهيونية، من بلدة "جلوس" القريبة من خط "عسقلان" القدس المحتلة .

ويضيف الشراتحة بنظرات ثاقبة: لقد اكتشفنا حينها من خلال الوثائق التي كانت مع "سبورتس" أنه كان على علاقة باغتيال الشهيد خليل الوزير "أبو جهاد"، فكان مصيره الإجهاز عليه بثلاث طلقات ودفنه على بعد يسير من موقع الأسر، خاصة وأن قرارهم المسبق كان قتل من يأسروه بعد رفض القيادة فكرة نقل أيّ أسير صهيوني خارج حدود قطاع غزة للمساومة عليه.

وأوضح الشراتحة أن من ضمن ترتيبات الخطة الأمنية لعملية الأسر أن يتم أسر الجندي بعد المغرب من مكان والوصول به بعد دقيقتين لمكان آخر "لا يوجد به مساكن ولا أعمدة كهرباء ولا سكان ولا زحمة سيارات"، لقتله ودفنه دون أن ينكشف الأمر.

وتابع: "عقب العملية مباشرة وضعت "غصن شجرة" كعلامة لأصدقائي الآسرين في مكان متفق عليه لأتسلم منهم الأسلحة والمعدات، وبعد العلامة بعشرين متراً توقفت السيارة وفتحا "المحرك" لإصلاحها بشكل تمويهي، ثمّ تقدم نصار إلينا وهو يقول كلمة السر "مبروك" فرددنا عليه بكلمة للتأكّيد وتسلمنا المعدات وغادرنا المكان".

وأكمل قوله: "عقب العملية قمت بتجميد الخلية نهائياً، ومنع التواصل بالمطلق بين أفرادها وكأنهم لا يعرفون بعضهم".

"سعدون"

وبعد شهرين من العملية الأولى، استعدت الخلية لتنفيذ عملية أسر ثانية، وقد عمل الشراتحة على تشغيل صديقه نصار مع أخيه في صيانة السيارات لكي يجعل سقفاً للتمويه ورفع أيّ شكوك عن علاقته بنصار، والتذرع بأنه فقط شريك أخيه.

ويقول الشراتحة: "أعدت الاتصال بالخلية، فكانت الخطة للعملية الثانية أن يتم الدخول بالسيارة إلى غزة بجندي آخر وهو على قيد الحياة، وقد تمّت عملية الأسر من الخط نفسه الذي خطفنا منه "سبورتس" لكن الموقع يبعد خمسة كيلو مترات عن الموقع الأول إلا أنه تمّ التخلص من الجندي ودفنه في المكان المتفق عليه لصعوبة الأوضاع".

ويضيف:" هذه المرة استطاعت الخلية أسر الجندي "إيلان سعدون" من دوار المسمية – القدس المحتلة، وبرغم كل الاحتياطات والإجراءات العسكرية وتشديدها من قبل الاحتلال، نجحنا بإدخال السيارة إلى غزة فاستبشرنا بأن نتمكن من إدخال جندي آخر المرة القادمة، لكننا للأسف لم ننجح في عملية إخفائها، فاكتُشف أثرها من قبل الجنود وطلبوا نجدة من معسكر الجيش شرق جباليا فخرجت السيارات العسكرية الصهيونية لمطاردتها".

ويتابع الشراتحة حديثه: "ترك أفراد الخلية السيارة في شارع مغلق من الطرف الآخر، لكن جنود الاحتلال ضبطوا السيارة وكشفوا بصمات عليها تعود لـ"نصار والمبحوح وشقيقي".

وبقي الشراتحة يذهب إلى بيته بشكل طبيعي لاسيما وأنه لا يعرف المبحوح، فيما تجمعه علاقة قرابة بأبي خوصة، وليس لديه بصمات على السيارة، في حين كان نصار مبعداً، وقد كانت تلك اللحظات الأولى التي يتعرف فيها الشراتحة على المبحوح بعد عمليات المطاردة له عقب العملية، "فكنت أجلس معه كل يوم للاطمئنان عليه دون أن يعرف أننا نعمل بشكل مشترك".

ومع استمرار مطاردة الاحتلال لأفراد الخلية تمكّن المبحوح ورفيقه من اجتياز الحدود المصرية، فيما اعتقلته السلطات على الحدود مدّة أربعين يوماً، ومن ثمّ تمّ ترحيله إلى ليبيا ليستقر بعد ذلك في سوريا إلى أن اغتاله الموساد في دبي في يناير 2010.

فيما تمّ اعتقال الشراتحة بعد عملية مطاردة داخل فلسطين المحتلة عام 48م ، بعدما وقع عن السياج وأصيب في كليته وساقه ويده نقل على إثرها إلى المستشفى.

فشل الصفقة

ولفت الشراتحة إلى أن الاحتلال عثر على مكان جثّة الجندي "سبورتس" خلال بحثه عن جثّة "سعدون"، فيما صار يفاوضهم مدّة 7 سنوات على الجثّة الثانية مقابل الإفراج عن أسرى وأسيرات من سجون الاحتلال بتفويض من مؤسس حركة حماس الشيخ الشهيد "أحمد ياسين".

وقال: "لقد تمّ الاتفاق بداية عام 1997 على صفقة للإفراج بموجبها عن (48 أسيراً و28 أسيرة)جميعهم من ذوي المحكوميات العالية، وقد كانوا يفاوضونني وأنا في السجن من خلال: رئيس الحركة الإسلامية عبد الله نمر درويش، ورفيق الحاج يحيى رئيس بلدية الطيبة".

وأضاف الشراتحة: "للأسف الصفقة لم تخرج إلى النور، بعدما أفشلتها السلطة الفلسطينية وأبلغت عن مكان الجثّة التي توصلت إليه من خلال حملات اعتقالات وتعذيب ضدّ أفراد الكتائب وحصولها على خرائط ووثائق"، موضحاً أن السلطة رأت في الصفقة حينها "ضربة بحقها" فأفسدت المخطط.

أخيراً خرج الشراتحة بعد 23 عاماً من الأسر في سجون الاحتلال بصفقة "وفاء الأحرار" التي جرت بين حركة حماس والكيان مقابل إطلاق سراح الجندي "جلعاد شاليط" الذي كان قد اختطف في عملية معقّدة من قبل فصائل فلسطينية.

» استشهاد الأسير المحرر وليد شعث جنوب خانيونس
» فيديو - نوري المالكي يتحدث عن غلق الحدود بين العراق و سوريا وتحركات الجيش الأمريكي فيديو - نوري المالكي يتحدث عن غلق الحدو
» الشهيدان أمير فؤاد نعيم الجنيدي (22 عاما) وقاسم فريد عبد العزيز جابر (31 عاما) منفذا احدى عمليتي الدهس واطلاق النار التي وقعت قرب الخليل صباح اليوم
» والدة المحرر المغير: وداعا لعذابات 42 عيدًا
» قلم رصاص يتحدث

صفحة 1 من اصل 1