عبد الستار قاسم.. نموذج لمحاكم التفتيش في 'فلسطين الجديدة'
ناصر السهلي
أن تفكر وتكتب وتناقش وتنتقد قولا وكتابة، وأن تلتزم بقضية شعبك وتنافح في سبيل أمر تؤمن به ،جميعها من الأمور التي يكفلها لك ولي نظام الحريات النظري في فلسطين الجديدة.. في ذات الجغرافية الفلسطينية، كان الاحتلال يحجر على الفكر وأقصوصة الورق، كل الأدوات من الآلة الكاتبة إلى الكتاب (وليس أي كتاب) كانت محظورة وممنوعة بقانون عسكري احتلالي.. ورغم ذلك لم يتوقف العقل الفلسطيني عن ابتداع وسائل الاطلاع والمعرفة وممارسة الدور المنوط (ليس فقط بنخبة) بمجتمع يسعى نحو التحرر الوطني.
لننظر جيدا في مرآة ذاتنا.. على الأقل حين صار لهذا الشعب عشرون ألف مستشار ومتحدث سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي وفلسفي وفذلكي وتصنيفي ومشخصاتي من الطراز البائس جدا.. جدا.. لننظر جيدا ولنتمعن المشهد بعيدا عن الأحكام المسبقة التي يستخدمها 'السادة المستشارون والمتحدثون الرسميون'.
لنعد قليلا إلى الدكتور عبد الستار قاسم، فيوم الخميس 18 آذار (مارس) 2010 أجلت محكمة صلح مدينة نابلس الحكم في قضيته للمرة السادسة.. قضيته هي ' التشهير'.. كاتب ومفكر تعرض لحرق سيارته وإطلاق نار عليه بقصد القتل.. كاتب وناقد يتعرض للاعتقال والتهديد عديد المرات بوقفه عن مزاولة التعليم الجامعي.. تختزل قضيته في ' الذم والقدح والتشهير واتهام أحد المواطنين بالعمالة' على خلفية محاولة اغتيال النائب من حماس الشيخ حامد البيتاوي.
ألا يتعجب المرء من أن يتحول في ثقافة 'دولة القانون' الضحية إلى متهم وهو المعتدى عليه؟
المحير في الأمر أن الناطق الرسمي باسم الأجهزة الأمنية يصر منذ بداية القضية حتى يومنا هذا على أن 'المحاكمة ليست سياسية وأن القضية المقدمة ضده مدنية تتعلق بالذم والقدح والتجريح والتشهير واتهام بالعمالة لمواطن من المواطنين'.. وحتى لا نبقى ضمن دائرة الحيرة نسأل: هل لأستاذ جامعي مثل قاسم وغيره أيضا، مثلا فريد أبو ظهير من جامعة النجاح، أن يتعرض لما يتعرض له مرارا وتكرارا علاقة بما يقول ويكتب أم أنه يجري شيطنة هؤلاء وكأنهم على خلاف 'شخصي' مع بلطجية سياسية وأمنية؟
طيب، عبد الستار قاسم اتهم شخصا ما بالعمالة لأنه تعرض لمحاولة قتل كما جرى مع البيتاوي وكما يجري مع العشرات من أصحاب الفكر والقلم من اعتداءات جسدية ونفسية.. فما هو دور 'دولة القانون'.. الأجهزة الوطنية.. أليس التحقق مما هو منسوب لمن تعرض لهؤلاء؟
في نهاية 2009 تعرض أحد بنوك رام الله لسطو.. ساعات قليلة مرت وإذ بهذه الأجهزة الأمنية تكشف اللغز.
و إذا ما تعرض أنيق، لمضايقة سيارة أجرة، سهوا من السائق 'المجرم' فماذا تكون النتيجة؟.. رميه بالرصاص حتى الموت.. بشبهة أنه كان يخطط لاغتيال 'القائد الفذ'.
أما أن يتعرض الكاتب عبد الستار قاسم للتهديد بالقتل بعد محاولة قتله فهذا أمر مختلف تماما.. لا نجد لجان تحقيق تكشف عن البلطجة التي تسود للتعامل مع أصحاب الفكر والقلم.
اغتيل في آذار (مارس) 2004 خليل الزبن.. من قتـــله؟ بل ومن عاد يذكره؟.. خرج 'المناضلون' في جنازته، ودعوه كشهيد وقالوا: لنقلب الصفحة .
ما هو المطلوب ليكون أمثال عبد الستار قاسم غير ممنوعين من السفر وغير مهددين بسيف المحاكمة و التهديد الدائم بالقتل؟
ببساطة، وقبل الإجابة على سؤال ساذج مثل سؤالي.. لنعيد النظر في مرآة ذاتنا..هذه المرة المرآة المتكسرة.. التي يرى فيها الواحد نفسه بأشكال وألوان.. أناه تتضخم.. وتغـــيب عنها بحكم هذا التهشيم روح الجماعة.. فلا يكون للكتاب والصحافيين و الأكاديميين وبقية النخبة المتسلقة للسلم الوظيفي سوى المزيد من التسلق.. لتعم حالة تسفيه للفرد الذي يغرد خارج سرب المؤسسة والشعور بالخوف من الاقتراب من هؤلاء الأفراد في حالة إنكار فاضحة لدور هؤلاء في مهمة التسلق والسير على الصراط المستقيم لأصحاب الياقات البيضاء في المؤسسة التي تحشر أنفها حتى في نقابتهم التي أسموها 'عرسا ديمقراطيا'..
هل بالضرورة أن نتفق مع عبد الستار قاسم في كل ما يكتب ويقول؟
ليس شرطا في مواجهة محاكم التفتيش أن تتفق مع من يتعرض للاغتيال الجسدي والمعنوي.. فيراد لنا أن نفهم بأن أستاذا جامعيا على خلاف شخصي مع فرد من الأجهزة الأمنية.. وبأن حرق سيارته وإطلاق النار عليه لا دخل لها بمحاكمته أبدا..
في الثالوث المقدس للمؤسسة السياسية ثلاثة أضلاع من الأسئلة محرم عليك الاقتراب منها: العمالة ( بما يشملها تدمير المشروع الوطني) والفساد( بما يشمله من نهب وسرقة علنية وسرية) وعصمة القيادة ( من المستشار الصغير الأنيق إلى الرأس المعروض علينا بأن الله لم يخلق له مثيلا في تمايزه وعبقريته).
غير ذلك، أكتب ثم أكتب وقل ما تشاء عن الفن الهابط والدعارة بأوجهها المختلفة.. فكر بما تريد الوصول إليه ولو أصبحت متحدثا باسم الشعب كله.. فهذا الشعب لن يرفع دعوى بحقك لأنك تتحدث باسمه.. لسبب بسيط.. هو ليس في الحسبان.. وإلا لكانت ' دولة القانون' قد أخذت لهذا الشعب حقه ممن تهكم عليه واتهمه بالغباء بالصوت والصورة.
في فلسطين الجديدة وضعنا عال العال.. فقد اكتشفنا أخيرا بأننا تحررنا دون أن نعرف.. ويا لجهلنا.. نحن الذين لم نفهم عبقرية قياداتنا الأمنية والسياسية وهي التي حررت البلاد بدون أن نعرف.. وصرنا نعرف الآن..' وكفى الله المؤمنين شر القتال'.
لا معتقلين سياسيين ولا معتـــقلي رأي.. لا نهب ولا سرقة.. لا فساد وإفساد.. لا بلطجة ولا زعرنة أمنية وسياسية.. شفافية وانفتاح ومحاسبة.
إعلامنا ما شاء الله عليه، إعلام متعدد وديمقراطي ومنفتح.. وحر في كل شيء إلا السباحة في العمق.. مسموح لك أن تكون ما تشاء وتكتب فيما تشاء وتنتقد الحالة السياسية والقيادية.. لكن تذكر التركيز بالردح على من في الجانب الآخر.. خطبة الجمعة لا أحد يتدخل فيها.. والخطيب لا أحد يجبره على الدعوة بطول العمر لهذا القائد وذاك.. برامجنا ترفيهية من الدرجة الأولى التي تعرفك بتفاصيل ماهية الإتحاد الأوروبي بمسابقات لا يرعاها أحد ولا هدف منها.. نعم المعرفة جيدة وممتازة.. لذلك صار عندنا تخمة من معرفة 'البلاد' وانتقلنا لنعرف البلاد الأخرى فحيفا ويافا وعكا.. والقدس لا تستدعي التذكير بها بعد هذه التخمة.
ليس هناك سوى حرفية ومهنية وأخلاق عالية جدا.. بدليل أن الاعتقال السياسي يسمى 'أمني'.. وأحيانا 'احترازي'.. يعني لو سألت عن اعتقال مراسل لهذه المحطة أو تلك فلا تشغل بالك لأنه بالتأكيد هناك ' أدلة سرية' حتى ضد أعضاء المجالس البلدية المنتخبين.
أصلا سؤالك وسؤالي يجعلنا مشبوهين فإعلامنا يجيب على كل الأسئلة بدون أن نطرحها.
صُحفنا، المطبوعة والإلكترونية تهتم بأدق تفاصيل ما يدور حول المشروع الوطني التحرري.. لذا تقرأ حتى الملل كم بــــئر ماء تم حفره وكم شريط أحمر تم قصه لمشاريع قادمة.. وكم زائر تم استقباله.. وكم مرة تم فرد السجادة الحمراء لمبعوث من الغرب والشرق.. كم جرة غاز انفجرت.. وكم نفق انهار.. وارباح شركات الهاتف وغيرها من الخدمات وموجودات البنوك.. لذا تعج صحفنا المطبوعة والإلكترونية بالأسماء ذاتها، تكرر علينا ما قالته أمس.. دليل ثبات على موقف.. أو على أساس أن التكرار يعلم الحمار.
كاتب فلسطيني