مقترحات عملية للقمة المقبلة
عبد الباري عطوان
تجسد مؤتمرات القمة العربية قمة 'العمل العربي المشترك'، باعتبارها الهيئة الاعلى، أو 'مجلس ادارة' الأمة العربية، ولكن اللافت أن قيمة هذه المؤتمرات تتراجع بشكل متسارع، ولم يعد هناك 'عمل عربي' حتى يكون مشتركا أو غير مشترك.
يخرج المراقب بانطباعات لا بد من التوقف عندها من خلال متابعة أعمال القمة هذه على مدى اليومين الماضيين:
الأول: أن زعيمي أكبر دولتين عربيتين من حيث الثروة أو عدد السكان، غابا عن هذه القمة، الاول، أي الرئيس حسني مبارك لأسباب مرضية صحية، والثاني العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز فلأسباب سياسية، بعضها يعود لخلاف قديم مع الزعيم الليبي معمر القذافي، فشلت جهود مصالحة قطرية وسورية في ازالته أو التخفيف من حدته، وبعضها الآخر يعود الى عدم التورط في خلافات أو مصادمات جديدة، أو حتى قرارات محرجة.
الثاني: ان الزعماء العرب الذين شاركوا في القمة بدأوا يتحدثون مثل محللي الفضائيات، بل باتت نسبة كبيرة منهم تشكل خطابها أمام القمة بما يناسب الفضائيات، ويرضي جماهيرها. وهذا تطور خطير يتناقض مع مكانتهم ودورهم.
الثالث: اذا كان الزعماء العرب يعترفون بتقصيرهم، وملل القاعدة الشعبية العربية من قراراتهم التي لا تطبق، واداناتهم وشجبهم، فلماذا لا يغيرون هذا الواقع، فهم يملكون الجيوش والارصدة والنفط وأجهزة الاستخبارات، وكل أسباب القوة والتأثير الأخرى.
الرابع : تقلص الاهتمامين، الشعبي والاعلامي بالقمة الاخيرة الى الحدود الدنيا، وتقلص حجم ومستوى المشاركة ايضا، فمؤسسة القمة العربية ظلت دائما مغلقة على الزعماء، أي انها قمة زعماء وليست قمة دول، ولكن اللافت ان 14 ملكا ورئيسا وأميرا شاركوا فيها، بينما غاب الآخرون، وتدنى التمثيل الى مستوى السفراء في بعض الحالات. فماذا يفعل السفراء جنبا الى جنب مع الزعماء؟
الخامس: الشارع العربي بات يرفض ظاهرة 'النقد الذاتي' التي بدأ يقدم عليها زعماء عرب لتبرير عجزهم عن اتخاذ قرارات حاسمة، لان هذه الظاهرة تُستخدم لتبرير العجز، وامتصاص النقمة، وليس بهدف الاصلاح واتخاذ خطوات عملية. فالشعور بالذنب يجب أن يكون مقدمة أساسية للعمل، وليس للتهرب من المسؤولية.
' ' '
تستطيع الزعامات العربية، ورغم كل التحفظات على أمراضها الجسدية أو السياسية، وخلافنا الجذري مع توجهات معظمها الديكتاتورية، أن تتخذ اجراءات عملية لنصرة قضايا الأمة، وفرض وجهة نظرها اذا ارادت. فها هي ليبيا التي تستضيف القمة، تجبر الدول الاوروبية على التخلي عن سويسرا، وتتنصل من تبني موقفها بمنع تأشيرات الدخول عن الراغبين الليبيين، لسبب بسيط هو ان ليبيا عاملتها بالمثل وأوقفت منح رعاياها الأوروبيين تأشيرات دخول. فالاوروبيون يفهمون لغة المصلحة المادية، وليبيا لديها اسواق مربحة، وعوائد نفطية ضخمة.
الكرامة الليبية انتفضت بسبب اهانة نجل الزعيم الليبي في سويسرا، فلماذا لا تنتفض الأمة بأسرها انتصارا للقدس المحتلة ومسجد أقصاها بالطريقة نفسها؟ علينا ان نتخيل ماذا لو ان الدول النفطية والغازية (نسبة الى الغاز) قررت ممارسة ضغوط على الشركات ورجال الاعمال الاوروبيين لدفع حكوماتهم على تغيير سياساتها تجاه دعم الاستيطان الاسرائيلي، أو المشاركة في حروب ضد العرب والمسلمين؟
تخصيص 500 مليون دولار لدعم المرابطين في القدس المحتلة وصمودهم خطوة مهينة لهؤلاء الذين يدافعون عن مقدسات الامة بالدم، ولكن لم يقل لنا أحد عن الآلية التي ستستخدم لإيصال هذه الاموال الى من يستحقها، ثم هل سيظل الزعماء العرب يلوحون بدفاتر شيكاتهم في كل مؤتمر قمة، وإصدار شيكات بدون رصيد حقيقي، أو غير قابلة للصرف بسبب 'الفيتو' الذي يفرضه حلفاؤهم الامريكان، بتحريض اسرائيلي، ويمنع وصول أي أموال لأهل الأرض المحتلة دون المرور عبر قنوات الدول الغربية المانحة، مثلما هو الحال في قطاع غزة؟
نواجه دائما باتهامات بأننا ننتقد دون ان نقدم أفكارا أو حلولا عملية للمشاكل العربية، السهلة منها أو المستعصية، ولكن هل لو قدمنا أفكارا، نحن وغيرنا، ستجد طريقها للتطبيق العملي؟.. سنحاول وهذا هو بعضها:
أولا: طالما ان العرب منقسمون حاليا بين دول محور اعتدال واخرى ممانعة، فلماذا يستخدم هذا الانقسام كذريعة لاستمرار حالة الجمود الحالية الراهنة، والدوران في دائرة 'اللا فعل' كأنها قدر محتم علينا لا يمكن تغييره؟
ثانيا: عندما انقسم العرب الى معسكرين 'دول الـ(مع)' و'دول الضد' اثناء أزمة الاحتلال العراقي للكويت، خرجت الدول المؤيدة للتدخل الامريكي بتكوين تجمع عربي يحمل اسم 'دول اعلان دمشق'، وضم دول الخليج الست، علاوة على مصر وسورية. فلماذا لا تقوم الدول 'الممانعة' مثل سورية وليبيا والجزائر والسودان وقطر بتكوين تحالف جديد، أو تجمع اقليمي يضمها بعيدا عن المعسكر الآخر، وليكن اسمه 'تجمع دول الكرامة' تكون أول خطوة يقدم عليها سحب اعترافه بمبادرة السلام العربية، واستخدام السلاح الاقتصادي لنصرة القضايا العربية؟
ثالثا: أن يقوم التجمع العربي الجديد بالاتصال بدول الجوار مثل تركيا وايران، وبعض الدول الافريقية، والاندماج او التنسيق معها لتشكيل منظمة اقليمية اوسع تضع مصالح المنطقة الاقتصادية والسياسية على قمة الأولويات، وتتصدى لمشاريع الهيمنة الامريكية في المنطقة.
رابعا: يظل التجمع العربي الجديد تحت مظلة جامعة الدول العربية، ويبقى الباب مفتوحا لمن يريد الانضمام اليه من دول محور الاعتدال، التي تقرر الانحياز لقضايا الامة والخروج من عباءة الهيمنة الامريكية.
خامسا: يتم تبني ودعم جميع فصائل المقاومة العربية والفلسطينية بوجه خاص ومشاريعها، كبديل ضروري وحتمي لفشل 'خيار السلام' طالما ان القناعة بفشل هذا الخيار اصبحت راسخة ويؤمن بها الجميع تقريبا، معتدلين ومتطرفين.
' ' '
فكرة تجمع دول الجوار العربي التي طرحها السيد عمرو موسى امين عام الجامعة فكرة جميلة وعملية، ولكنها محاولة 'هروب' عربي، ورغبة في 'تصدير' المشاكل العربية الى الآخرين بسبب عدم القدرة، او 'عدم الرغبة' في حلها. ومع ذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو عما اذا كان هذا الجوار على هذه الدرجة من الغباء بحيث يتلقف قضايا عجز اهلها عن حلها؟ واذا كان هؤلاء اغبياء فعلا فماذا يمكن ان يقدم لهم حلفاؤهم الجدد؟
تركيا دولة بنت ديمقراطية على ارضية اقتصادية صلبة، وايران بنت قدرة عسكرية جبارة مدعومة بخيار نووي، سلميا كان ام عسكريا، فماذا لدى العرب غير الفساد والدكتاتورية، والتخلف والحكام المرضى والمسنين؟
الحوار مع ايران ممنوع حاليا 'بفيتو' مصري ـ سعودي مشترك، نتيجة لفيتو امريكي او بالتنسيق معه، فماذا يمنع الدول العربية الاخرى من كسر هذا الفيتو، اذا ارادت، والتحاور بشكل جدي مع ايران وتركيا واقامة محور او تجمع دول الجوار المذكور على اسس المصلحة المشتركة ونصرة الاماكن الاسلامية المقدسة؟
اليس من المفارقة ان يكون خطاب السيد رجب طيب اردوغان في قمة سرت هو الاقوى من بين خطابات اقرانه، بل والاكثر حرصا على المقدسات ومطالبة بانهاء الحصار عن غزة وأهلها؟
نخشى على السيد اردوغان من كثرة تردده على القمم والمؤتمرات العربية، نخشى عليه ان يصاب بفيروس العجز والدكتاتورية والفشل العربي، فنحن على ثقة راسخة ان اجسادهم وعقولهم محصنة، بل لديها مناعة قوية ضد فيروس الكرامة والديمقراطية المتغلغل في جيناته.
كان يقال في الماضي ان العرب 'ظاهرة صوتية'، حتى هذه باتت 'مدحا' نترحم عليه بالمقارنة مع الوضع الراهن، حيث أصبح العرب 'حالة مرضية' لا علاج لها.