بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : (
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125) ، وقال تعالى : (
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ
(104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
(آل عمران:104 ،105) .
فهذه
الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الإنسان ينبغي له أن يكون داعياً إلى
الله ولكن لا يمكن أن تتم الدعوة إلا بعلم الإنسان بما يدعو إليه ؛ لأن
الجاهل قد يدعو إلى شيء يظنه حقاً وهو باطل ، وقد ينهى عن شيء يظنه باطلاً
وهو حق ، فلابد من العلم أولاً فيتعلم الإنسان ما يدعو إليه
وسواء
كان عالماً متبحراً فاهماً في جميع أبواب العلم ، أو كان عالماً في نفس
المسألة التي يدعو إليها ، فليس بشرط أن يكون الإنسان عالماً متبحراً في كل
شيء ، بل لنفرض أنك تريد أن تدعو الناس إلى أقام الصلاة ، فإذا فقهت أحكام
الصلاة وعرفتها جيداً فادع إليها ولو كنت لا تعرف غيرها من أبواب العلم ؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية )(248)
ولكن
لا يجوز أن تدعو بلا علم ابداً ؛ لأن ذلك فيه خطر ؛ خطر عليك أنت ، خطر
على غيرك ، أما خطره عليك فلأن الله حرم عليك أن تقول على الله ما لا تعلم ،
قال الله تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ)
(الأعراف:33) ، وقال تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم)
(الإسراء:36) ، أي لا تتبع ما ليس لك به علم ، فإنك مسئول عن ذلك ، ( إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْؤُولاً) (الإسراء:36) .
ولابد
أيضاً من أن يكون الإنسان حكيماً في دعوته ، ينزل الأشياء في منازلها ،
ويضعها في مواضعها ، فيدعو الإنسان المقبل إلى الله عز وجل بما يناسبه ،
ويدعو الإنسان الجاهل بما يناسبه ، كل أناس لهم دعوة خاصة حسب ما يليق
بحالهم ، ودليل هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى
اليمن قال له : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب )(249)
، فأعلمه بحالهم من أجل أن يستعد لهم وأن ينزلهم منزلتهم ؛ لأنهم إذا
كانوا أهل كتاب صار عندهم من الجدل بنا عندهم من العلم ما ليس عند غيرهم ،
فالمشركين جهال ضلال لكن أهل الكتاب عندهم علم ، يحتاجون إلى استعداد تام ،
وأيضاً يجابهون بما يليق بهم ؛ لأنهم يرون أنفسهم أهل كتاب وأهل علم ـ
فيحتاج الأمر إلى أن يراعوا في كيفية الدعوة ، ولهذا قال له : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) .
ولنضرب
لهذا مثلاً واقعياً : لو أن رجلاً جاهلاً تكلم وهو يصلي ، يظن أن الكلام
لا يضر ، فهذا لا نوبخه ولا ننهره ولا نشدد عليه ، بل نقول له إذا فرغ من
صلاته : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح
والتكبير وقراءة القرآن ، لكن لو علمنا أن شخصاً يعلم أن الكلام في الصلاة
حرام ويبطلها ، لكنه إنسان مستهتر والعياذ بالله ؛ يتكلم ولا يبالي فهذا
نخاطبه بما يليق به ونشدد عليه وننهره ، فكل مقام مقال .
ولهذا قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
) والحكمة أن تضع الأشياء في مواضعها ، وتنزل الناس في منازلهم ، فلا
تخاطب الناس بخطاب واحد ، ولا تدعوهم بكيفية واحدة ، بل أجعل لكل إنسان ما
يليق به .
فلابد
أن يكون الإنسان على علم بحال من يدعوه ؛ لأن المدعو له حالات : إما أن
يكون جاهلاً ، أو معانداً مستكبراً ، أو يكون قابلاً للحق ولكنه قد خفي
عليه مجتهداً متأولاً ، فلكل إنسان ما يليق به .
ثم
ذكر المؤلف قوله تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )
وسبيل الله هي دينه وشريعته التي شرعها الله لعباده ، وأضافها إلى نفسه
لسببين :
السبب الأول :
أنه هو الذي وضعها عز وجل للعباد ، ودلهم عليها .
السبب الثاني:
أنها موصلة إليه ، فلا شيء يوصل إلى الله إلا سبيل الله التي شرعها لعباده على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم .
وقوله : ( بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
) الحكمة قال العلماء : إنها من الأحكام وهو الإتقان ، إتقان الشيء أن
يضعه الإنسان في موضعه فهي وضع الأشياء في مواضعها ، وأما الموعظة فهي
التذكير المقرون بالترغيب أو الترهيب ، فإذا كان الإنسان معه شيء من
الأعراض فإنه يوعظ وينصح ، فإن لم يفد فيه ذلك فيقول تعالى : ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
) فإذا كان الإنسان عنده شيء من المجادلة فيجادل ، والمجادلة بالتي هي
أحسن أي من حيث المشافهة ، فلا تشدد عليه ولا تخفف عنه ، انظر ما هو أحسن ،
بالتي هي أحسن أيضاً من حيث الأسلوب ، والإقناع ، وذكر الأدلة التي يمكن
أن يقتنع بها ؛ لأن من الناس من يقتنع بالأدلة الشرعية أكثر مما يقتنع
بالأدلة العقلية ، وهذا هو الذي عنده إيمان قوي .
ومن
الناس من يكون بالعكس لا يقتنع بالأدلة الشرعية إلا إذا ثبت ذلك عنده
بالأدلة العقلية، فتجده يعتمد على الأدلة العقلية أكثر مما يعتمد على
الأدلة الشرعية، بل ولا يقتنع بالأدلة الشرعية إي حيث تؤيدها عنده الأدلة
العقلية، وهذا النوع من الناس يخشى عليه من الزيغ والعياذ بالله ؛ إذا كان
لا يقبل الحق إلا بما عقله بعقله الفاسد فهذا خطر عليه، ولهذا كان أقوى
الناس إيماناً أعظمهم إذعاناً للشرع أي: للكتاب والسنة، فإذا رأيت من نفسك
الإذعان للكتاب والسنة والقبول والاقتياد ؛ فهذا يبشر بخير، وإذ رأيت من
نفسك القلق من الأحكام الشرعية إلا حيث تكون مؤيدة عنك بالأدلة العقلية؛
فاعلم
أن في قلبك مرضاً؛ لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ) يعني: لا يمكن أن يختاروا شيئاً سوى ما قضاه الله ورسوله،
( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)
(الأحزاب:36) .
وقوله: ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
)جاء في آية العنكبوت (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ )(العنكبوت:
46) ، فهؤلاء لا تلينوا معهم إذا كانوا ظالمين، فقاتلوهم بالسيف حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون، وعلى هذا فتكون المراتب أربعة: الحكمة، الموعظة،
المجادلة بالتي هي أحسن، المجادلة بالسيوف لمن كان ظالماً ، والله الموفق
موقع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله