هو أحد الشعراء المشهورين بالعصر العباسي، اسمه كاملاً الوليد بن عبيد بن
يحيي الطائي أبو عبادة البحتري، يقال عن شعره " سلاسل الذهب" وذلك نظراً
لجودته، كان البحتري واحد من ثلاثة من أشهر شعراء العصر العباسي وهم
المتنبي وأبو تمام والبحتري.
سئل أبي العلاء المعري ذات يوم عن أي من الثلاثة السابقين أشعر من غيره في
الشعر فكان رده " أن المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر هو البحتري".
النشأة
ولد البحتري عام 206هـ - 821م بمنبج بالقرب من حلب وتلقى فيها علومه في
الدين واللغة والأدب، والبحتري يمني قحطاني من ناحية أبيه وعدناني من ناحية
أمه، عشق الشعر وعمل على تدعيم هذا العشق بحفظ أشعار الأقدمين والتدرب على
النظم الجيد للقصائد الشعرية.
وإمعاناً في صقل موهبته الشعرية رحل البحتري إلى حمص حيث كان أبو تمام فقام
بعرض شعره عليه وتقرب إليه ليتعلم منه وكانت من نصائح أبو تمام إليه أن
قال له: " يا أبا عبادة، تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم ..
فإذا أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان
الصبابة، وتوجع الكآبة، وخلق الأشواق، ولوعة الفراق، وإذا أخذت في مدح سيد
ذي أياد، فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى
حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من
شعر الماضين، فما استحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه".
انتقل البحتري بعد ذلك إلى بغداد واتصل بعدد من الشعراء مثل دعبل الخزاعي،
ابن الرومي، علي بن الجهم، ابن المعتز، ابن الزيات، ابن طاهر.
حياته
يقال عن البحتري انه نشأ فقيراً وتوفى غنياً وذلك نظراً لكونه مثل باقي
شعراء عصره سعى للتكسب بشعره فقام بمدح الخلفاء والوزراء وغيرهم فأفتتح
شعره بالغزل وأدخل به الحكمة والعاطفة والفخر والوصف، كما عمل على تسجيل
الأحداث المختلفة من خلال قصائده الشعرية.
كان أول الخلفاء الذي اتصل بهم البحتري بالعراق الخليفة المتوكل فقام
بمرافقته ومدحه في كل مناسبة وعمد إلى تسجيل مآثره وذلك على مدى خمسة عشر
عاماً قضاها البحتري في رعاية المتوكل، مما قاله في مدحه:
يا اِبنَ عَمِّ النَبِيِّ حَقّاً وَيا أَزكى
قُرَيشٍ نَفساً وَديناً iiوَعِرضا
بِنتَ بِالفَضلِ وَالعُلُوِّ iiفَأَصبَحتَ
سَماءً وَأَصبَحَ الناسُ iiأَرضا
وَأَرى المَجدَ بَينَ عارِفَةٍ iiمِنكَ
تُرَجّى وَعَزمَةٍ مِنكَ iiتُمضى
وحينما قام المتوكل بتولية أولاده الثلاثة ولاية العهد قال:
حاطَ الرَعِيَّةَ حينَ ناطَ iiأُمورُها
بِثَلاثَةٍ بَكَروا وُلاةَ iiعُهودِ
قُدّامَهُم نورُ النَبِيِّ وَخَلفَهُم
هَديُ الإِمامِ القائِمِ iiالمَحمودِ
لَن يَجهَلَ الساري المَحَجَّةَ بَعدَ ما
رُفِعَت لَنا مِنهُم بُدورُ iiسُعودُ
كما اتصل البحتري بمستشار المتوكل ونديمه الفتح بن خاقان فمدحه فقال في وصف واقعة لابن خاقان قام فيها بمبارزة أسد
فَلَم أَرَ ضِرغامَينِ أَصدَقَ iiمِنكُما
عِراكاً إِذا الهَيّابَةُ النِكسُ iiكَذَّبا
هِزَبرٌ مَشى يَبغي هِزَبراً وَأَغلَبٌ
مِنَ القَومِ يَغشى باسِلَ الوَجهِ أَغلَبا
أَدَلَّ بِشَغبٍ ثُمَّ هالَتهُ iiصَولَةٌ
رَآكَ لَها أَمضى جَناناً iiوَأَشغَبا
فَأَحجَمَ لَمّا لَم يَجِد فيكَ مَطمَعاً
وَأَقدَمَ لَمّا لَم يَجِد عَنكَ iiمَهرَبا
تألم البحتري كثيراً بمقتل المتوكل وعزف عن قول الشعر فترة من الزمن، ثم
ما لبث أن عاد مرة أخرى إليه فقام بمدح المنتصر ثم المستعين والمعتز من
بعدهم، ولكن لم تكن له بهم نفس الصلة القوية التي كانت مع المتوكل، مما
قاله في مدح المنتصر:
وَبَحرٌ يَمُدُّ الراغِبونَ iiعُيونَهُم
إِلى ظاهِرِ المَعروفِ فيهِم iiجَزيلِهِ
تَرى الأَرضَ تُسقى غَيثَها بِمُرورِهِ
عَلَيها وَتُكسى نَبتَها iiبِنُخولِهِ
أَتى مِن بِلادِ الغَربِ في عَدَدِ iiالنَقا
نَقا الرَملِ مِن فُرسانِهِ iiوَخُيولِهِ
فَأَسفَرَ وَجهُ الشَرقِ حَتّى كَأَنَّما
تَبَلَّجَ فيهِ البَدرُ بَعدَ iiأُفولِهِ
وقد قام البحتري بهجاء المستعين بعد أن نزل عن عرش الخلافة وصعد المعتز
ليتولى الخلافة بدلاً منه، وقد عاش البحتري في عصر المعتز في سعة من المال
ورفاهية في العيش.
أسلوبه الشعري
تناول البحتري في شعره المدح والرثاء والغزل والحكمة وإن برع في الوصف، فقد
تمكن من أدوات التصوير والوصف واستعان بالألفاظ المعبرة والمصورة لكل ما
يراه ويحسه.
هَذي الرِياضُ بَدا لِطَرفِكَ iiنَورُها
فَأَرَتكَ أَحسَنَ مِن رِياطِ السُندُسِ
يَنشُرنَ وَشياً مُذهَباً iiوَمُدَبَّجاً
وَمَطارِفاً نُسِجَت لِغَيرِ المَلبَسِ
وَأَرَتكَ كافوراً وَتِبراً iiمُشرِقاً
في قائِمِ مِثلِ الزُمُرُّدِ iiأَملَسِ
مُتَمايِلَ الأَعناقِ في iiحَرَكاتِهِ
كَسَلَ النَعيمِ وَفَترَةَ iiالمُتَنَفِّسِ
مُتَحَلِّياً مِن كُلِّ حُسنٍ iiمونِقٍ
مُتَنَفِّساً بِالمِسكِ أَيَّ iiتَنَفُّسِ
قال في الربيع
أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً
مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن iiيَتَكَلَّما
وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى
أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما
يُفَتِّقُها بَردُ النَدى iiفَكَأَنَّهُ
يَبُثُّ حَديثاً كانَ أَمسِ مُكَتَّما
وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ iiلِباسُهُ
عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشياً iiمُنَمنَما
أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ iiبَشاشَةً
وَكانَ قَذىً لِلعَينِ إِذ كانَ iiمُحرَما
تأثر البحتري كثيراً بشعر الكثير من الشعراء الكبار وعلى رأسهم أبو تمام
الذي أخذ الكثير من أقواله، ولكنه لم يأخذ الحكمة في أغراض شعره ولا قام
بصبغه بصبغة فلسفية، وقد اعتنى البحتري بانتقاء ألفاظه فتجنب المعقد منها
والغريب، وقد كان من أفضل شعراء عصره في المدح لذلك حصد الكثير من الجوائز
والعطايا من الخلفاء والملوك.
من قصائده الشهيرة القصيدة السينية والتي قالها عندما قام بزيارة إيوان
كسرى، فأسترجع فيها حضارة الفرس في وصفه لهذه الدولة التي كانت بها قوة
عظيمة ثم اضمحلت فقال فيها:
صُـــنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي
وَتَرَفَّعــــــــــتُ عَن جَدا كُلِّ iiجِبسِ
وَتَماسَكتُ حينَ زَعزَعَني iiالدَهـر
التِماساً مــــــــــِنهُ لِتَعسي وَنَكسي
بُلَغٌ مِن صُبابَةِ العَيشِ عِـــــندي
طَفَّفَتها الأَيّـــــــــــامُ تَطفيفَ iiبَخسِ
وَبَعيدٌ مابَينَ وارِدِ iiرِفَـــــــــــــــهٍ
عَلَلٍ شُـــــــربُهُ وَوارِدِ iiخِـــــــمسِ
وَكَأَنَّ الزَمانَ أَصبَحَ iiمَحــــــمولاً
هَواهُ مَـــــــعَ الأَخَسِّ iiالأَخَــــــــسِّ
لَو تَراهُ عَلِمتَ أَنَّ iiاللـــــــــــَيالي
جَعَلَت فيهِ مَأتَماً بَعدَ iiعُــــــــــرسِ
وَهوَ يُنبيكَ عَن عَجائِبِ iiقَـــــــومٍ
لا يُشابُ الـــــــبَيانُ فيهِم بِلَــــبسِ
وَإِذا ما رَأَيتَ صورَةَ iiأَنطـــــاكِيَّة
اِرتَعـــــــتَ بَينَ رومٍ iiوَفُـــــــــرسِ
وَالمَنايا مَواثِلٌ وَأَنوشَــــــــروان
يُزجي الصُفوفَ تَحتَ iiالدِرَفــــــسِ
في اِخضِرارٍ مِنَ اللِباسِ iiعـــــَلى
أَصفَرَ يَختالُ في صَبيـــــغَةِ iiوَرسِ
وَعِراكُ الرِجالِ بَينَ iiيَــــــــــــدَيهِ
في خُفوتٍ مِنهُم وَإِغمـاضِ iiجَرسِ
مِن مُشيحٍ يَهوى بِعامِلِ iiرُمـــــحٍ
وَمُليحٍ مِــــــــنَ السِنانِ بِتُـــــرسِ
الوفاة
توفى البحتري بمنبج عام 284هـ - 897م، بعد أن ترك ديوان ضخم، وكتاب الحماسة
على مثال حماسة أبي تمام قام فيه باختيار الشعر من ستمائة شاعر أكثرهم من
الجاهليين والمخضرمين، وجعله في ثلاثة أبواب واحد للحماسة والثاني للأدب
والثالث للرثاء، ويشترك أبو تمام والبحتري في الكثير من الشعراء الذين رويا
عنهم.