هل هذه مقدمات الساعة/ أستغفر الله
--------------------------------------------------------------------------------
من آخر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة نار تخرج من قعر عدن ، تحشر الناس إلى محشرهم ، وقد سبق أن ذكرنا الأحاديث التي عدد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أشراط الساعة ، وذكر أنها عشر ، قال : " وآخر ذلك نار تخرج من اليمن ، تطرد الناس إلى محشرهم " (1) .
وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ( أي مهاجراً ) فأتاه يسأله عن أشياء ، فقال : إني سائلك عن ثلاث : ما أول أشراط الساعة ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب " (2) . وفي سنن الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ستخرج نار من حضرموت قبل القيامة تحشر الناس ، قالوا : يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال : عليكم بالشام " ، وقال الترمذي هذا حديث صحيح (3) .
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن كيفية حشر النار للناس ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : " يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين راهبين ، واثنان على بعير ، وثلاثة على بعير ، وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، ويحشر بقيتهم النار ، تقيل معهم حيث قالوا ، وتبيت معهم حيث باتوا ، وتصبح معهم حيث أصبحوا ، وتمسي معهم حيث أمسوا " (4) وروى أحمد في مسنده ، والترمذي في سننه ، والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تحشرون رجالاً وركباناً ، وتجرون على وجوهكم ها هنا ، وأومأ بيده نحو الشام " (5) .
وآخر من تحشرهم النار راعيان من مزينة ، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يتركون المدينة على خير ما كانت ، لا يغشاها إلا العوافي ( يريد عوافي السباع والطير ) ، وآخر من يحشر راعيان من مزينة ، ينعقان بغنمها ، فيجدانها وحشاً ، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرّا على وجههما " (6) .
والأرض التي تحشر النار الناس إليها هي بلاد الشام ، ففي كتاب فضائل الشام للربعي عن أبي ذر بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الشام أرض المحشر والمنشر " ورواه أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه والربعي في فضائل الشام عن ميمونة بنت سعد " (7) .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا الحشر يكون في الآخرة ، وعزا القرطبي القول بذلك إلى الحليمي وأبي حامد الغزالي ( .
وذهب الخطابي والطيبي والقاضي عياض والقرطبي وابن كثير وابن حجر إلى أن هذا الحشر يكون في آخر عمر الدنيا ، حين تخرج النار من قعر عدن ، وتحشر الناس إلى بلاد الشام (9) .
يقول ابن كثير في هذه الأحاديث : " فهذه السياقات تدل على أن هذا الحشر ، هو حشر الموجودين في آخر الدنيا ، من أقطار محلة الحشر ، وهي أرض الشام ، وأنهم يكونون على أصناف ثلاثة :
فقسم يحشرون طاعمين كاسين راكبين ، وقسم يمشون تارة ويركبون أخرى ، وهم يعتقبون على البعير الواحد ، كما تقدم في الصحيحين : " اثنان على بعير ، وثلاثة على بعير ، وعشرة على بعير " يعني يعتقبونه من قلة الظهر ، كما تقدم ، كما جاء مفسراً في الحديث الآخر ، وتحشر بقيتهم النار ، وهي التي تخرج من قعر عدن ، فتحيط بالناس من ورائهم ، وتسوقهم من كل جانب ، إلى أرض المحشر ، ومن تخلف منهم أكلته .
وهذا كله مما يدل على أن هذا في آخر الدنيا ، حيث الأكل والشرب ، والركوب على الظهر المستوي وغيره ، وحيث يهلك المتخلفون منهم بالنار .
ولو كان هذا بعد نفخة البعث ، لم يبق موت ولا ظهر يسري ، ولا أكل ولا شرب، ولا لبس في العرصات . والعجب كل العجب أن الحافظ أبا بكر البيهقي بعد روايته لأكثر هذه الأحاديث ، حمل هذا الركوب على أنه يوم القيامة ، وصحح ذلك ، وضعف ما قلناه ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا )[ مريم : 85 ] .
وكيف يصحح ما ادعاه في تفسير الآية بالحديث ، وفيه : " إن منهم اثنين على بعير، وعشرة على بعير " وقد جاء التصريح فيه بقلة الظهر ؟ هذا لا يلتئم مع هذا ، والله أعلم . تلك نجائب من الجنة يركبها المؤمنون من العرصات إلى الجنات ، على غير هذه الصفة ، كما سيأتي تقرير ذلك في موضعه " (10) .
باب
ما جاء في سوق الناس إلى المحشر
عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال: لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات ... (فذكر الحديث، وفيه ونار تخرج من قعر عدن، تسوق (أو: تحشر) الناس؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن إلا النسائي . وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
وفي رواية لمسلم : وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم . وفي رواية أبي داود : وآخر ذلك تخرج نار من اليمن من قعر عدن، تسوق الناس إلى المحشر .
وقد تقدم هذا الحديث بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار).
قال ابن كثير في "النهاية": "وهذه النار تسوق الموجودين في آخر الزمان من سائر أقطار الأرض إلى أرض الشام منها، وهي بقعة المحشر والمنشر". انتهى.
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات (فذكر الحديث وفيه ...): ونار تخرج من قعر عدن، تسوق الناس إلى المحشر، تحشر الذر والنمل .
[ ج- 3][ص-244] رواه: الطبراني، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عمر رضي الله عنه: أنه قال: "تخرج من أودية بني علي نار تقبل من قبل اليمن؛ تحشر الناس، تسير إذا ساروا، وتقيم إذا أقاموا، حتى إنها لتحشر الجعلان، حتى تنتهي إلى بصرى، وحتى إن الرجل ليقع فتقف حتى تأخذه".
رواه ابن أبي شيبة .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستخرج نار من حضرموت (أو: من نحو بحر حضرموت) قبل يوم القيامة تحشر الناس". قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: "عليكم بالشام .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه". وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما". قال: "وفي الباب عن حذيفة بن أسيد وأنس وأبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهم".
وقد علق أبو عبية في (ص257) من "النهاية" على قول ابن كثير : "وإن أرض الشام هي بقعة المحشر والمنشر"، فقال ما نصه:
"هذا الكلام الذي يحدد أرض المحشر لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع، بل إن في القرآن الكريم ما ينقضه، قال الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ؛ فأين أرض الشام إذا؟!".
والجواب أن يقال: قد دل القرآن والسنة على أن أرض الشام هي أرض المحشر:
[ ج- 3][ص-245] فأما الدليل من القرآن؛ فقد قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ... الآية، وأهل الكتاب هم بنو النضير، أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أذرعات من أرض الشام.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من شك أن أرض المحشر هاهنا (يعني: الشام)؛ فليقرأ هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ . قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر .
رواه ابن أبي حاتم .
وعن الحسن؛ قال: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير؛ قال: "هذا أول الحشر، وإنا على الأثر .
رواه: ابن جرير، وابن أبي حاتم .
وقال الكلبي : "إنما قال: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ؛ لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
قال مرة الهمداني : "كان أول الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر ".
وقال قتادة : "كان هذا أول الحشر، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا".
وأما الدليل من السنة؛ فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لنا: إنكم تحشرون إلى بيت المقدس، ثم تجتمعون يوم [ ج- 3][ص-246] القيامة .
رواه: البزار، والطبراني . قال الهيثمي : "وإسناد الطبراني حسن".
وقد تقدم في حديث عمر رضي الله عنه: أن النار التي تحشر الناس تنتهي إلى بصرى، وبصرى من أرض الشام.
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في ذكر الحشر بالنار: أنهم قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: "عليكم بالشام". فهذا يدل على أن الشام هي أرض المحشر.
وأما قول أبي عبية : "إن في القرآن ما ينقضه؛ قال الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ؛ فأين أرض الشام إذا؟!".
فجوابه أن يقال: إن الحشر إلى الشام يكون قبل يوم القيامة؛ تحشرهم النار من المشرق حتى تنتهي إلى أرض بصرى؛ كما تقدم في حديث عمر رضي الله عنه، وأرض الشام لا تزال باقية على حالها إلى يوم القيامة، فأما تبديل الأرض؛ فإنما يكون يوم القيامة، والناس إذا ذاك على الصراط؛ كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم " من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي حديث ثوبان رضي الله عنه: أنهم في الظلمة دون الجسر. رواه مسلم . وفي "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد . وهذا لا ينفي أن تكون أرض الشام بهذه الصفة يوم القيامة، حين تسير الجبال وتنسف عن وجه الأرض.
والمقصود هاهنا أن اعتراض أبي عبية على ابن كثير لا وجه له، وهو مردود بما ذكرته من الآية والأحاديث. والله أعلم.