ابو عمار و.. دولة 'الشبر' الفلسطينية
براء الخطيب
5/11/2010
في منتصف عام 1977 والحرب الأهلية مستعرة في 'بيروت' حضر الشاعر الفلسطيني الكبير 'معين بسيسو' إلى الشقة الاوستوديو التي كنت أعيش فيها في بناية 'بيست هوم' في شارع الحمرا، وأخبرني بأني مدعو للحضور في مكتب 'الختيار' على شرف الكاتب المصري الكبير 'عبد الرحمن الخميسي' ضمن بعض المصريين الذين التحقوا في وقت مبكر بمنظمة التحرير الفلسطينية، كان 'الخميسي' يعيش في 'موسكو' وقد حضر إلى 'بيروت' بدعوة من زعيم الثورة 'ياسر عرفات' رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ذهبت مع 'معين' إلى مكتب 'الختيار' في بناية الـ'17' بالفاكهاني، وطبعا لم يكن هناك 'أبو السعيد' الذي كان مديرا لمكتب الزعيم 'ياسر عرفات' وهو الذي طالما استقبلني بنظراته المتفحصة كما لو كان يفتشني بحثا عن أي سلاح لدرجة أني قلت له ذات مرة: 'يا أخ أبو السعيد لقد تعلمت من الكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور مقولته الشهيرة بأن الكاتب يحمل القلم ولا يحمل السلاح حتى يستمر في الحياة في الشارع الأخير'، كان 'رشاد أبو شاور' يطلق تسمية 'الشارع الأخير' على حي 'الفاكهاني' الذي توجد به كل مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية وكذلك مكاتب كل المنظمات الفلسطينية على اختلاف توجهاتها وكان جميع الكتاب والصحافيين في هذا الزمن يحملون السلاح الشخصي دفاعا عن النفس أو يحتفظون به في بيوتهم كنوع من الوجاهة النضالية أكثر منه للحماية الشخصية ما عدا الكاتب الفلسطيني 'رشاد أبو شاور' الذي كان صاحب نظرية عدم حمل السلاح الشخصي مع أنه كان من أشد المنادين بحمل السلاح للمقاتلين وأن فلسطين لن تسترد بغير السلاح، وفي هذه الليلة التي ذهبت فيها إلى مكتب 'أبو عمار' لم يكن هناك 'أبو السعيد' الحارس الشخصي لياسر عرفات لأنه كان قد أعدم منذ عام تقريبا بعد محاولته الفاشلة في اغتيال 'أبو عمار' بتدبير من الموساد، كان في هذه الجلسة على ما أذكر الآن 'معين بسيسو' و'فاروق القاضي/أحمد الأزهري' و'فهمي حسين' و'ماجد أبو شرار' و'زياد عبد الفتاح' و'عبد الرحمن الخميسي' و'شوقي عبد الحكيم' وربما 'نبيل عمرو' أو 'أحمد عبد الرحمن' وآخرين لم تستطع الذاكرة المجهدة تذكرهم ورحب 'أبو عمار' ترحيبا حارا بالخميسي لكن فجأة وبدون سابق تمهيد فوجئنا بالكاتب المصري 'شوقي عبد الحكيم' يسأل ياسر عرفات سؤالا بدا شاذا للجميع، حيث سأله: 'لماذا لا تصالحهم يا أخ أبو عمار؟ نعم لماذا لا تصالح الإسرائيليين؟'. لم يكن 'شوقي عبد الحكيم' مقيما في بيروت بل كان يأتي مرة أو مرتين في العام في ضيافة 'فهمي حسين'، أذكر أن الصمت حل على كل الموجودين ولم يكن يقطعه إلا صوت بعض طلقات الرصاص الذي كان يأتي إلينا من مكان قريب، لكن 'الخميسي' أشار بيده على شرفة المكتب وقال موجها حديثه إلى 'شوقي عبد الحكيم' : 'قم يا شوقي شم لك رصاصتين في الشرفة، هل جننت؟ عن أي صلح تتحدث؟ أنت مريض وتحتاج أن تشم الهواء فقم إلى الشرفة ربما تشم لك رصاصتين'، وضحك الجميع ليداروا خجلهم من سؤال 'شوقي عبد الحكيم' ما عدا ياسر عرفات، الذي جذب نفسا عميقا وتنهد تنهيدة عميقة وتجاهل تعليق 'الخميسي' والتفت إلى شوقي عبد الحكيم وقال: 'والله يا أخ شوقي لو أعطوني شبرا من أرض فلسطين لأقمت عليه الدولة الفلسطينية'.
المرة الثانية التي سمعت فيها عن 'الدولة/الشبر' كانت بعد العملية الفدائية المقدسة- بالنسبة لي على الأقل- التي قامت بها الشهيدة الجميلة 'دلال المغربي' في الأرض المحتلة حيث تركت خلفها بيتهم في حي 'الطريق الجديد' في بيروت في المساء لتذهب في الصباح وترفع العلم الفلسطيني فوق مقدمة 'الباص' في قلب فلسطين المحتلة وكتب يومها 'نزار قباني' عن 'دلال المغربي' التي أعلنت قيام الدولة الفلسطينية لتخرس مستشار الأمن القومي الأمريكي 'زبيجنيو برجينسكي' الذي كان قد قال في التصريح الشهير 'وداعا يا منظمة التحرير'، لكن 'أبو جهاد' في القطاع الغربي قام بتدبير عملية 'كمال عدوان' لتقودها 'دلال المغربي' ليثبت للعالم كله أن 'منظمة التحرير الفلسطينية' ما تزال على قيد الحياة وأنها سوف تقود النضال المقدس باتجاه فلسطين، في هذه الأيام المباركة طلب 'أبو عمار' من 'معين بسيسو' أكلة سمك على الطريقة المصرية، ولم يجد 'معين' أمامه غيري يستطيع أن يعد هذه الأكلة، وبقيت يوما كاملا في بيت 'معين' أقوم بإعداد طواجن السمك والقريدس بمساعدة السيدة الرائعة 'صهبا البربري' زوجة 'معين' أمد الله في عمرها والسيدة- كانت يومها آنسة- سهير بسيسو شقيقة معين، وجاء 'أبو عمار' ومعه كل القيادات الفلسطينية إلى بيت 'معين' وتناولوا الطعام وقوفا فلم تكن هناك مقاعد تكفي الجميع، ودار الحديث كله يومها عن عملية 'دلال المغربي' وأبدوا إعجابهم بمقالة 'نزار قباني' عن إعلان الدولة الفلسطينية داخل أوتوبيس، وقال يومها الشهيد 'عاطف بسيسو' الذي كنت أقف بجواره بصوت خفيض: 'بإذن الله سوف يرفع الأخ أبو عمار' علم فلسطين فوق كل أرض فلسطين' وبدا على 'الختيار' أنه سمع تعليق 'عاطف بسيسو' فنظر تجاهه وقال بصوت يسمعه الجميع 'والله لو أعطونا شبرا واحدا من أرضنا فسوف نقيم عليه الدولة يا عاطف'.
المرة الثالثة التي سمعت فيها عن هذا الشبر كانت في مدينة 'موسكو' عاصمة الاتحاد السوفييتي سابقا: كنا وفدا إعلاميا عن منظمة التحرير الفلسطينية (كنت عن وفا) وكنا في طريقنا إلى العاصمة الكوبية 'هافانا' لحضور مهرجان الشبيبة العالمي في كوبا سنة 1978 لكن 'الختيار' قرر أن يذهب إلى 'موسكو' قبل أن يذهب إلى 'هافانا' على رأس وفد منظمة التحرير الفلسطينية وأنزلتنا السلطات في بيوت الطلبة في جامعة 'باتريس لومومبا' وكان المرافق السوفييتي للوفد الفلسطيني هو 'يوري أغارشيف' رئيس تحرير جريدة 'كومسومولكايا برافدا' نسخة الشباب من جريدة 'برافدا' السوفييتية وكان 'يوري أغارشيف' يجيد اللغة العربية الفصحى إجادة تامة وإن كانت باللهجة المصرية مثله مثل 'أبو عمار' وكان على 'أبو عمار' أن يتسلم مقر 'الممثلية الفلسطينية' في موسكو ويرفع العلم الفلسطيني عليه، وقال لنا 'يوري أغارشيف' أن هذا المبنى في شارع 'فيدوتوفا' كان مخصصا لممثل الثورة الفيتنامية التي هزمت الإمبريالية الأمريكية وأقامت الجمهورية الفيتنامية مؤخرا، وحضرنا مراسم إنزال علم الثورة الفيتنامية من فوق المبنى وقام 'أبو عمار' برفع علم الثورة الفلسطينية لتقود حركة التحرر العالمي حتى قيام الجمهورية الفلسطينية وعلى مائدة العشاء في المطعم جلست مع 'معين' وصديقه 'يوري أغارشيف' نشرب شوربة الطماطم 'بورش' ونأكل اللحم المشوي 'الأوخا' فيما راح 'يوري' يتحدث عن العلاقات التاريخية التي تربط أهالي روسيا بفلسطين فعقب اعتناق روسيا رسمياً الدين المسيحي بمذهبه الأرثوذكسي أُرسلت من عاصمة روسيا القديمة كييف بعثة دبلوماسية إلى القدس، ثم زيارة كبير الرهبان 'دانيال' مع مجموعة مع الرهبان الروس وفي عهد القيصرين إيفان الثالث وإيفان الرهيب (الرابع) كانت ترسل إلى القدس من روسيا تبرعات حكومية ضخمة لدعم البطريركيات الأرثوذكسية الممثلة هناك، وفجأة قال 'يوري' أنه سمع من 'زعيم الثورة الفلسطينية' أنه مستعد لإقامة دولة فلسطينية لو أعطوه شبرا من أرض فلسطين، وسأل معين: 'من الذين كان يقصدهم أبو عمار بأنهم سوف يعطوه هذا الشبر؟' لكن 'معين' لم يجب ورفع كأسه الفودكا قائلا لصديقه: 'في صحتك'، وبعد 'أوسلو' سيئة السمعة كانت الإجابة على تساؤل 'يوري أغارشيف' حاضرة ولكن لأوسلو حديث آخر.
' روائي مصري