صراع السلطتين التشريعية والتنفيذية في العراق اسبابه ونتائجهد. مثنى عبدالله
May 27, 2013
عار عن الصحة كل ما يقال عن وجود مؤسسات دستورية في العراق، انها كذبة كبرى حاولت قــــوى الغــــزو رسمها على ارض الواقع في هذا البلد، لاسباب تتعلق بصورتها امام العالم، كي تقول هذه هي ثمار تدخلنا فيه واحتلالنا له، وليـــس لاسباب تخص مصلحته ومستقبل شعبه. في السياسة الدولية من الســهولة ايجاد مبررات للتدخل في شؤون الاخرين، فمنطق القوة الغاشمة جاهز لصناعتها، لكن يستحيل ايجاد مبــررات للنتائج لان الصورة تصبح واقعا سياسيا يوميا، وهذا هو الحاصل اليوم في العراق.
لقد صفق الكثيرون للغزو، عراقيين وعربا وقوى اقليمية ودولية ومنظمات اممية، لكنهم صمتوا بعد ذلك وهم يشاهدون النتائج الكارثية، وشعبنا وحده هو الذي تحمل النتائج لحد الان.
الجريمة الكبرى ان هذه المؤسسات رُسمت كي تحفظ توازن القوى السياسية الطائفية ونسب حواضنها السكانية، وليس مستقبل العراق كوطن، فما تسمى الاكثرية الطائفية تمت تسمية منصب رئاسة السلطة التنفيذية لها، ومن يقرا صلاحيات رئيسها الدستورية يجد بوضوح تام انه يحتكر كل شيء وفق الدستور. اما الاخرون فقد صُنعت مناصب لهم وفق احجام طوائفهم وقومياتهم. كانت خطة الحاكم المدني الامريكي بريمر تقضي بان يتوافق الجميع على هذه المناصب، وان يؤمن الجميع بان قوى الاسلام السياسي الشيعي هي الممثل الشرعي الوحيد للطائفة، وان قوى الاسلام السياسي السني هي الممثل الشرعي الوحيد للطائفة، اما الاكراد فلهم القدح المُعلى بين الجميع، فلهم مملكتهم الخاصة في الشمال، ومن حق اذرعهم الاخطبوطية ان تلعب في بغداد.
كان هذا الاتفاق يقضي بان يتولى كل فريق احتكار ارادة طائفته، وان يتولى تنفيس احتقاناتهم كي لا تنفجر على الاخرين، وان يقاتلهم بالنيابة عن الكل ان وصلت الجرأة ببعضهم للخروج على الاحتلال وسلطاته المتعاقبة الى يوم يبعثون. وقد اثبت الجميع جدارتهم في كل ذلك، حيث قاتلت جبهة التوافق السنية نسيجها الاجتماعي الذي قاوم المحتل، وخدعت جمهورها بتمرير الدستور والاتفاقية الامنية الامريكية العراقية، وكانت مُخبرا سريا فاعلا للقوات الامريكية في مناطقها، وانشأت قوى اخرى الصحوات لمساندة القوات الامريكية وطعن المقاومة في الظهر. كما وقف حزب الدعوة والمجلس الاعلى ضد التيار الصدري الذي قاتل القوات الامريكية لفترة من الزمن، اضافة الى صولة فرسان الدعوة في البصرة ومحافظات جنوبية اخرى.
هذه المواقف كلها لم تكن محسوبة لتحقيق المصلحة الوطنية العليا اطلاقا، بل كانت محسوبة لمصلحة هذه القوى في اثبات جدارتها امام المحتل اولا، والامساك بتلابيب السلطة ثانيا، كل على رأس طائفته. وبما ان السياسة متحولة لا تحب الثبات كحال المبادئ، ولان التحرك من اجل تعزيز مواقعها وتثبيت انتصاراتها هو ديدنها، فقد تحركت قوى الاسلام السياسي الشيعي للاكل من جرف الاخرين وتقليم اظافرهم، فتغولت سلطاتها، خاصة بعد تقلص الوجود الامريكي في العراق، وباتت تتحرك سريعا باتجاه مزيد من افراغ الهياكل السياسية الاخرى التي بيد الاخرين، واعتقال الكثير من الكوادر المهنية والقوى الوطنية، بل سعت باطراد الى الاستعانة بقادة الخط الثاني في قوى الاسلام السياسي السني، كي تتخلص من قادة الخط الاول، فتساقط عدنان الدليمي وخلف العليان ومحمود المشهداني ومحسن عبد الحميد بنيران صديقة، وكان اخرهم طارق الهاشمي الذي لاذ زملاؤه في القائمة بالصمت على مصيره السياسي.
هذا المشهد جعل رئيس السلطة التشريعية (البرلمان) يحاول الخروج عن الدور المألوف والمسموح له ضمن اللعبة السياسية العراقية، وان يتخذ من منصات عربية واقليمية ودولية مكانا للبوح بهواجسه، لذلك كان تصريحه الشهير عند زيارته الى واشنطن من ان التهميش والاقصاء والاحباط قد يدفع السنة الى البحث عن اقليم او الانفصال.
فتحول دوره المتفق عليه كأداة تنفيس لطائفته الى اداة تحريض، فاصبح عدوا في عرف العملية السياسية، وبات افراغ الهيكل الذي يتزعمه من قوته المعنوية واجبا، خاصة عندما تحرك لعقد صفقات سياسية مع الاكراد ومقتدى الصدر، لذلك استفتى المالكي محكمته الاتحادية فاصدرت قرارها بسحب تشريع القوانين من البرلمان، الا في حدود ضيقة، وكان ذلك ايذانا باعلان الحرب بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. لكن الحدث الابرز والاهم كان هو الحراك الشعبي الذي انطلق من الانبار وتبعته المحافظات الاخرى. هذا الحراك الذي انحصر بنسيج اجتماعي واحد اعطى انطباعا نهائيا للطرف الاخر، بان قوى الاسلام السياسي السني قد تخلت تماما عن دورها الوحيد وهو لجم الطائفة، فاعتبر ذلك تمردا على ما تم الاتفاق عليه في حضرة بريمر، وبات واجبا عليهم اخراجهم من هذه المسيرة واستبدالهم بقادة الخط الثاني او الثالث او غيرهم، فلا يهم من الذي سيأتي، لكن المهم هو من الذي سيقبل بدور الديكور.
لذلك كان هجوم المالكي غير مسبوق على مؤسسة البرلمان مؤخرا، وكان هجوم النجيفي على المالكي غير مسبوق ايضا. لكن حقيقة الوضع الراهن تؤكـــــد ان قــــادة الاسلام السياسي السني لم يعد بأيديهم اعادة سيطرتهم على الطائفة، كما كانوا في السابق، بل هم اليوم يركضون لاهثين كي يمسكوا بالحراك الجماهيري. بعضهم يسعى لاستثماره كي يقول انا من يملك القوة امامكم، كي يطالب بالثمن مستقبلا، مناصب وامتيازات، والبعض الاخر يسعى جاهدا لافراغه من محتواه كي يأتي قائلا انا القوي الامين الذي يمكن الاعتماد علي، كي يتم تكريمه بالمناصب والامتيازات ايضا.
واذا كانت هذه هي الاسباب الحقيقية للصراع الناشئ بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فان نتائجه لم تعد خافية على احد بعد اليوم. فالسلطة التنفيذية المتعصبة لامتلاك كل شيء لا تريد التخلي عن عنجهيتها، وهي اليوم قد شرعت في عملية تثقيف واسعة هدفها انزال الصراعات السياسية الى ارض الواقع وجعلها شأنا طائفيا، واستثمار ردات الفعل العاطفية والغرائزية للحشد ضد الاخر.
فالتصريح المستمر بأن التظاهرات والاعتصامات هي سبب التفجيرات والقتل اليومي واختطاف المسافرين على الطريق الدولي، وانها مدفوعة الثمن عربيا واقليميا، وقادتها قاعديون وتكفيريون وماضويون، كلها وسائل سياسية هدفها التحشيد الطائفي الذي بات بارزا في كل مناطق العراق، خاصة العاصمة بغداد. ان انتشار الميليشيات الطائفية مجددا والجهر ببيانات تأذن بالاستعداد اليوم الحسم’، والتشجيع على خطف الابرياء لمبادلتهم بابرياء اخرين لا يُعرف من هم خاطفوهم، كلها مؤشرات قد تدفع بالبلاد الى مصير مجهول، وتسقط كل مراهنات البعض على عدم حصول صدام طائفي.
نعم الصدام الطائفي ليس خيارا بين الاهل في البلد الواحد، لكنه قد يستعر بين قوى سياسية باتت تملك الكثير من المال والسلاح على مدى عشرة اعوام من السلطة، وسيكون شعبنا مجرد حطب فيها الا سمح اللهب. ان الصلاة الموحدة ا السنية الشيعية ا المنعقدة بقرار سياسي من طاغية طائفي لن تمنع انزلاق البلاد الى المجهول. انها اعلان رسمي عن وجود طرفين ذي لونين مختلفين تجري محاولات جمعهما وليس شعبا واحدا. اننا بحاجة الى عفوية اللحظة التي كنا فيها عديمي الشعور بالطوائف، بل كان نعرف فقط ان هذا مسلم على مذهب والاخر مسلم على مذهب اخر .
‘ باحث سياسي عراقي