بيان كبار العلماء في العراق.. رؤية وحلول : د. مثنى عبدالله
بيان كبار العلماء في العراق.. رؤية وحلولد.
مثنى عبدالله September 9, 2013
في أوقات الازمات العصيبة التي تصيب الاوطان والشعوب، وعندما يختلط الحق بالباطل وتضيع الحقوق وتنتهك الحرمات الخاصة والعامة، وتتداخل الخنادق حتى لا تكاد تبين حدودها وملامحها في منظار العامة من الناس، تتجه الانظار الى القيم السماوية والمُثل البشرية العليا، فتصبح هي المنقذ من المأساة. قد يتوهم البعض أن الدافع في ذلك هو حالة اليأس التي تنتاب البشر، فتسقط من البابهم روابط التعلق بالحياة فينشدون الحياة الاخرى، لكنها في الحقيقة هي غير ذلك اطلاقا.. انها عودة صادقة الى جادة الصواب بعد أن جلت قسوة وجبروت الظلم الصدأ الذي ران على النفوس، فيعود البشر يهزون شجرة القيم السماوية الحقة ومُثل الارض العليا، علّها تُساقط عليهم عزيمة الصمود والشجاعة والمطاولة كي يهزموا الباطل وأهله، حينها يرتفع تأثير السلطات المعنوية في المجتمع، باعتبارها الممثل الحقيقي لهذه القيم والمثل، فتصير رأس الحربة في التعبئة الجماهيرية حتى ان كانت متوارية لعقود طويلة لاسباب سياسية، وتصبح دور العبادة ودواوين زعماء القبائل والعشائر جامعات تتخرج منها جُموع غفيرة من المقاومين. وليس بعيدا عنا تاريخ
العراق السياسي الحديث، وتاريخ الكثير من الدول العربية المشرقية والمغربية، حيث كانت طليعة المقاومة ضد الاستعمار والاحتلال دائما بيد السلطات المعنوية ممثلة برجال الدين وشيوخ العشائر. واذا كانت السلطات المعنوية في
العراق ابان الاحتلال البريطاني قد وضعت نصب عينيها مصلحة الشعب والوطن، فقاتلت وحرّضت على القتال في سبيل المجموع ونصر قيم الحق على الباطل حتى طرّز التاريخ اسماءهم بأحرف من نور وشرف، فان البعض ممن هم محسوبون على هذه السلطات مالوا في ‘
العراق الجديد’ بعد العام 2003 الى مصالحهم الفئوية الضيقة، حزبية وطائفية ومذهبية واثنية ومناطقية، حتى انغمسوا فيها، رغم وقتيتها على حساب دورهم التعبوي الدائم، فتغاضوا عن الاحتلال وعطلوا الجهاد ضده بل وتعاونوا معه، وحوّلوا أماكن العبادة الى ساحات يدعون فيها الى انتخاب هذا والاعراض عن ذاك، ودعم هذه الجهة الحزبية وتقبيح الاخرى، فأثاروا الغبار في وجه الحقيقة وساهموا في وضع أشخاص غير مناسبين وغير نزيهين في أماكن كان يفترض ألا يكونوا فيها، بل تحولوا بفعل هذا الدور المشبوه الى أصحاب رؤوس أموال وشركات وعقارات ووعاظ سلاطين. واذا كان هذا هو الدور الذي اضطلع به هؤلاء، فان هنالك أخرين مازالوا يؤمنون بأهمية دور السلطات المعنوية في حياة الناس، ومازالوا يتصدون بقوة وحزم لكل فلول الباطل ولم يستبدلوا الدائم بالمؤقت من الادوار، واضطلعوا بدور مشهود منذ بداية الغزو والاحتلال وحتى اليوم.
وفي هذا السياق جاء اجتماع
كبار العلماء في العراق للفترة من 21 22 من شهر آب (أغسطس) الماضي، وبيانه الذي يُعتبر الاول في الاهمية، كونه يصدر عن كوكبة كبيرة من
العلماء ذات مكانة وثقل دعوي مؤثر في المجتمع، وفي ظل ظرف استثنائي يستوجب النهوض والجهر بالحق بعد أن أصبح القتل منهجا سياسيا للسلطات في العراق، يستهدف من دون خجل التخلص من كل المعارضين حتى من غير المنتمين الى تيارات سياسية، مما عزز دور الاطراف الاخرى التي تتصيّد تذمر الناس وشعورهم بالخوف من القادم، فبدأت تدعو وتثقف وتبشر بأن الحل هو تمزيق العراق الموحد الى حصص وكيانات هزيلة، بحجة أنه يضمن الخلاص من جور السلطات ومن الاعتقالات العشوائية والقتل الكيفي والجوع والبطالة، وسوء الخدمات والفساد المالي والاداري والتهميش والاقصاء، لكن
العلماء الافاضل كانوا بحق على دراية تامة بهذا المخطط الخبيث، وما يقابله من مخططات حكومية لا تقل خبثا عنه، لذلك لم تكن محض صدفة افتتاحية بيانهم، حينما أكدوا فيها على الاسس والثوابت، التي هي سيادة العراق وضروة العمل على تحقيقها بصورة ناجزة، وليس كما هي عليه اليوم منقوصة تتداخل فيها مصالح وأهواء الاخرين من القوى الاقليمية والدولية، وكذلك وحدة الخارطة الجغرافية له وواجب الالتزام بها وصيانتها بكل ما يتطلبه هذا الواجب من نبذ التفرقة ورفض الاهتمام بالجغرافية الطائفية، واهمال المؤسسات الوطنية الجامعة، كما أكد البيان على هوية العراق العربية الاسلامية ودوره التاريخي، وهو رد واضح على كل التخرصات التي تدعي عكس ذلك. كما كان من الثوابت الرئيسة في البيان عدم التهاون في وصف العملية السياسية والدستور بأنهما العلة الرئيسية التي جلبت الكوارث للعراق والعراقيين، وبذلك لا يمكن أن يكونا هما العلاج لمشاكل الوطن والمنقذ له. وفي
رؤية واضحة المعالم حدد المجتمعون مسؤولية الحكومة عن الاوضاع الحالية والمستجدات، وحوادث التفجير اليومي والاعتقالات والتهجير والتطهير العرقي، الذي شمل مناطق محددة من العراق، وكذلك الفساد المالي والاداري المتهم فيه الكثير من المسؤولين الحكوميين، وهذه كلها مسببات وأسباب تنزع الشرعية تماما عن السلطات الحالية، ان كان لديها أدنى شرعية. أما التظاهرات والاعتصامات في كل العراق، شماله وجنوبه شرقه وغربه، فقد وجد
العلماء فيها وقفة عز وشرف وفخار لكل عراقي، وهي راية خفاقة من رايات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووسيلة ناجعة للوصول الى تحقيق الاهداف العليا للشعب في رفع الظلم عنه. ولان مراهنة
العلماء عليها جازمة فانهم دعوا بشكل واضح المتظاهرين الى الصبر والمطاولة، وعدم السماح بتسيسيها وركوبها من قبل الاخرين، يرافق كل هذا ضرورة الحفاظ على سلميتها وردع الذين يحاولون الاندساس فيها لتشويهها. واذا كان السادة
العلماء الافاضل واضحين جدا في تقرير الحقائق عبر سطور البيان الصادر عنهم، فان ما بين السطور من رسائل كانت أيضا في غاية الوضوح. فالرسالة الاولى تؤكد على أن خيار المقاومة هو الحل في العراق، لان آثار الاحتلال وهيمنته لم تنته بعد، من خلال المعاهدات والاتفاقات السرية والعلنية المتضمنة التعهد الامريكي بحماية العملية السياسية وشخوصها، أو من خلال السيطرة على الاجواء العراقية والتدخل السياسي الذي تمارسه السفارة الامريكية في كل شاردة وواردة في العراق، يضاف الى ذلك النفوذ الايراني الذي يمارس نشاطه في كل زوايا المجتمع، وان كل ذلك يستدعي عدم أسقاط خيار المقاومة. أما الرسالة الثانية فكانت ضمنية في ما ورد من مناشدة للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي خصوصا، حيث ان هاتين المنظمتين قد قصرتا بشكل كبير في سياستهما تجاه العراق، لذلك جاءت المناشدة لهما بمثابة التحفيز بالابر عسى أن ينتفض جسد هذه المؤسسات فيعبر عن حقيقة الموقف في العراق، بعيدا عن الحسابات الدولية والعربية والاقليمية.
لقد كان
بيان السادة
العلماء تعبيرا صادقا عن ضمير كل عراقي أصيل، واذا كان الموقف الذي عرضوه يعبر عن حالة المرحلة الراهنة بكل ما فيها، فان الامل يحدونا جميعا أن يتطور موقفهم هذا بالتزامن مع تطور الموقف على الارض أيضا، كي يبقى التعبير أصيلا عن حاجات الشعب ومعاناته. كما أن أنظار جميع من تهمه مصلحة العراق تبقى مشدودة في انتظار لحظة توسيع هذا الجمع الخيّر، ليضم كل علماء الوطن من جميع الاديان والمذاهب والطوائف، كي تتكرر صورة علماء العراق المجتمعين عند اعلان ثورة العشرين ضد القوات البريطانية في عشرينيات القرن المنصرم.
‘ باحث سياسي عراقي