قراءة الثابت والمتحوِّل في ديوان ‘فساد الملح’ لإبراهيم محمد إبراهيم: التكوين الشعري بين الأنا والمكان
حمزة قناوي
January 28, 2014
الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم من رواد جيل الثمانينيات في المشهد الشعري الإماراتي، وظلَّ في طليعة أقرانهِ ممن يثرون هذا المشهد، عبر إبداعه المتواتر، ومنذ بدأ ينشر قصائده الأولى منذ ذلك العِقد، قبل أن ينتظِم ما أبدعه في مجموعاته التي تتالت (صحوة الورق)، (فساد المِلح)، (هذا من أنباء الطير)، (الطريق إلى رأس التل)، (عند باب المدينة)، (خروجٌ من الحب دخولٌ إلى الحُب)، (مسٌّ من شتاء). وهي مجموعات اختلفت سِماتها الفنية من حيث الرؤية، فالتشكيل الشعري المنبني على أساسها، وخلف الرؤية والتشكيل المراحل الفنية التي مرَّ بها الشاعر عبر ديوانٍ لآخر، متنقلاً بين الرومانتيكية، والواقعية والطبيعة والفلسفة، ومناوشة الرمز.
في ديوانه ‘فساد الملح’ تعمد الشعرية إلى عناصر التشكيل لتستمد منها مكونات البناء الفني، متكئةً على عناصر أخرى فاعلة وحقيقية تعد بمثابة الأسس التي انبنى عليها الديوان، أهم هذه العناصر الذات، واستمداد هويتها من المكان/البيئة، ومن هذه الذات- الأنا، تنطلق رؤية الشاعر إلى العالم، في جدلية ثبات الركائز الأساسية التي ينطلق منها (الوطن، البيئة، السُلَّم القيمي، الانشداد للجذور والتاريخ)، وبين التحوُّلات التي تعتري عالماً يتبدَّل من حوله ويحاول ملاحقته تصويراً وإيقاعاً وإن لم يكن تطابقاً وتماثلاً، وهي ‘الأزمة’ الوجودية التي يقع فيها الشاعر وتمثلها قصائده المتمردة على القبيلة في التبدُّلات التي تعتريها مع التطور والحداثة، حتى إن فساد الملح يُعد ملمحاً هاماً في هذه الرؤية، مثقلةً ومحملةً بدلالاتٍ هي ابنة بيئتها.
التكوُّن. الثبات والتحوُّلات
يقول الشاعر في قصيدة (فساد المِلح) :
‘كساقيةٍ فوق هذا اليباب
تفيضُ بِدهرٍ من الصمتِ
تُقاسمك الريحُ وحشتها والمدى
والعيون اللواتي اشترينكَ من ألفِ عام
أتيتَ وقد فسَدَ المِلحُ
لملمتِ الأرضُ أطرافها للرحيل
وبحرٌ تجرَّعتهُ موجةً موجةً
باع زُرقتَهُ للظلام
تدورُ وعيناك نافذتان تجوبانِ هذا الظلام
وقلبُكَ نافذةٌ للقمر’
إن المكان يفيضُ بعناصره في المقطوعة السابقة من النص الذي يمثِّل عنوان الديوان. ‘اليباب والريح والمِلحُ والأرضُ والبحرُ’ كل هذا التكثيف لهذه العناصر إنما يوضَّح الالتصاق الشديد بين أنا الشاعر والمكان، ما يطرح التساؤل حول القيمة الرمزية للدلالات المكانية في النص، فالإدراك الحسي من قِبل الشاعر هنا للموجودات التي تُشكل الرؤية من حوله تضع الطبيعة في مركز الوعي، ولا تفصل أنا الشاعر عنها، وهنا تتبدى فكرة ‘التموضع′ Localisation، التي تشير إلى مكان الأنا المبدعة من عناصر الإبداع/النص، وهي هنا في قصيدتنا المذكورة لا تكاد تُفصل عن العناصر السابقة.
وإذا اعتبرنا أنه لا يُمكن إقصاء فكرة الذات عند قراءة وتحليل العمل الأدبي، وأن استنطاق النص يعتمد- إضافة إلى التحليل البنائي له من مفردات وصور وتشكيل- يعتمد أيضاً على المسرح النفسي الذي يتجلى في الصياغة البصرية وظلال الصورة ودلالاتها، نستطيع من خلال قراءة الأبيات السابقة التوصل إلى قناعة أن شاعرنا يمرُّ بأزمة انفصال عن واقعه ربما ناتجٌ عن رفضٍ نفسي له وشعورٌ بالاغتراب عنه، فالمِلح الذي فسد هيَّأ الأرض للرحيل، بعدما لم يبقَ سوى اليباب، والبحر باع زرقته ولم يبقَ إلا الظلام.
صورةٌ قاتمةٌ للغاية، تتكامل في وحدةٍ فنية من حيث تناسق وانسجام العناصر، غير أنها تتشظى في نفسية الشاعر الموزَّعة في صراعه بين ما يرى ويعيش من مظاهر الفناء وما نشده من الاكتمال والتحقق:
‘أناديك يا بدويَّاً تغرَّب في جلدهِ
لم يعد في الزمانِ المسافرِ متسعٌ للبقاءِ
ولا موضعٌ للسفر
نخيلاتك الباقيات على عهدهنَّ
تحنينَ بالحزنِ
أقسمنَ ألا يبايعن هذا الشتاءَ
وألا يُغنين هذا المطر’
فالتصريح بالغربةِ مُتجلٍّ في الأبيات، والمسرح النفسي الذي تهيئه مفردات النص، يرتكز على مفهوم الاغتراب المكاني/ الزماني. فالمكاني في قول الشاعر (أناديك يا بدوياً تغرَّب في جلدهِ). فالشعور بالغربة متجذَرٌ في الذات وحيثما يحل الشاعر، والتغرب الزماني في قوله (لم يعد في الزمانِ المسافر متسعٌ للبقاء ولا موضعٌ للسفر). والزمن لا يتحرك أو يسافر سوى في اتجاهٍ واحدٍ هو الآتي أو المستقبل، فالشاعر الذي يرفضُ مسايرة الزمان في اندفاعه الطبيعي، يتخذ من النخل رمز الجذور والأصالة والقِدم- متكئاً لثباته عند اللحظة التي قرَّت في ضميره ووازت الأصالة والبقاء، وقد وقفت النخيلات معه في ثباته، متوحدات نفسياً معه. هذه الوحدة النفسية التي تصدر عن نفس الشاعر وتصطبغ بها الموجودات من حوله، وقد استطاع الشاعر أن يحققها ببراعة.
بين القبيلة والوطن
إذا تمثّلنا الدوائر التي تتحرك في أفلاكها قصائد الديوان، فسنرصد أكثر من دائرةٍ تبدأ من الذات، ثم تخرج منها إلى المكان، بما يحويه من عناصر البيئة/ الطبيعة، ثم ننتقل إلى دائرة القبيلة بمفهومها القديم، ولحظتها الحضارية المتسارعة، ثم دائرة الخليج/ الصحراء، قبل أن نصل إلى الدائرة الأوسع : الوطن. ففي الديوان أكثر من قصيدةٍ تناولت الوطن بشكله المباشر وصيغته المحددة- إلى جانب مفهوم الانتماء والأرض والإخلاص لهوية المكان الذي يتردد في معظم القصائد- ومن العناوين التي تمثَّل هذا النموذج/ الدائرة الأوسع: (ما بينَ النخلةِ والزيتونةِ قلبي) و(قُبلةٌ إلى بغداد) و(ورقةٌ متأخرةٌ إلى شرمِ الشيخ) وغيرها.
وعند تناول إبراهيم محمد إبراهيم الوطن في هذه القصائد، فإنه لا يمر عليه متغنياً بتاريخٍ وأمجادٍ بصورةٍ تقليدية، إنما يطرح إشكالياته، ويصوّر الكثير من معضلاته التي مرَّ بها، وهو يُثبِت موقفه الذاتي ويبث قناعاته في النص بين ثناياه بصورةٍ بليغة.
يقول الشاعر في قصيدة (ما بين النخلةِ والزيتونة قلبي):
‘إلامَ الحزنُ يا بن العمِ
قد أسرفتَ في الشوقِ
فما خنتُ وما خان التراب
ما الكويتيون إلا خصلةٌ من شعرِ ليلى
بعثرتها الريحُ في كلِّ الشعاب
ما الكويتيون إلا نبضةٌ في القلبِ ..
والقلبُ مصاب
ما الكويتيون إلا برعمٌ
قد شابَ من فرطِ الشباب
أين تمضي أيها العاشق في قيظِ الظهيرةِ
تملأُ الجرَّةَ من هذا السراب’
والقصيدة تعزف على وتر الجرح العربي الغائر بين العراق والكويت في نهايات القرن المنصرم، وما أسست له من تداعياتٍ ومن وضعٍ عربيٍّ لم نألفه من قبل في مثل هذه الأزمة التي أطاحت بكثيرٍ من المسلمات، في أبيات القصيدة يبدو صوت العقل مسيطراً، حين يخرج الشاعر من ذاتهِ إلى حيث يحتكم للتاريخ والهوية والعقيدة، بل وحتى الحِكمة، وهو يخاطب الأخَ المعتدي:
‘لو نذرتَ الأرضَ والأحلامَ قبراً
وتربعتَ عليها لاكتفيت
لو قرنت الحبَّ بالعصيانِ يومَ الزحفِ يوماً
وتسلَّحتَ بأدنى ما تريد الحرب صبراً لعصيت
لو دعوت النهر في بغداد أن يصنع شيئاً
لاستثرتَ الطوزَ في قلبِ الكويت’
وتستمر الصورة في رصد المشهد العربي الغارق في غرائبيته، فكل ما فيه وحدةٌ واكتمالٌ وتنادٍ، وكل ما يُصنع فيه نقيض ذلك بعدما وحّدتنا الجغرافيا ففرقنا صانعو التاريخ.
في هذه القصيدة تتجلَّى الاستعانة بالرمز بما يحمله من دلالات، والرمز قد يُستمد من التراث الديني أو التاريخي أو الشعري، وفي كل الحالات يمنحه توظيفه في النص قيمته الجديدة، وفقاً لمطابقة دلالته مع ما استُحضِر لأجله. ومن الرموز التي وردت في القصيدة: (شعرِ ليلى- خيول الروم- أرض الياسمين) وغيرها، وقد وضعت في سياقها الدلالي المناسب للنص.
ولأن الصورة في الأدب كما تولد تنمو، فإن صور القصيدة المتتابعة هنا استمرت في إنتاج خِطاب يركّز على فكرة العروبة بتعقيدات أوضاعها، وهذا الخطاب لم يستخدم شفراتٍ مُلغزة، إنما تناول بعد قضية غزو العراق للكويت- قضية فلسطين والعجز عن تحريرها، ثم الاستعانة بالغرباء لتحرير الأخ من أخيه، إلى آخر هذه المعضلات التي أظلت تاريخنا العربي. ولعل الخاتمة القرآنية التي أنهى بها الشاعر قصيدته، لم تأتِ من سياق الإبداع الشعري، أو كان معينها مُحددات هذا الفن- رغم أن هذه الخاتمة تتسق في تكوينها البنائي مع القصيدة، ولكن الشاعر في تصوري، أنهى قصيدته بالذكر الحكيم رامياً إلى تصوير عجز الشعر والأبيات عن تمثُّل حلٍّ وانعتاق يمكن أن نلجأ إليه أمام كل هذه الكوارث المتعاقبة على تاريخنا الذي تفسخت أواصر تواشجه، فلم يعد سوى اللجوء للدين بما تحمله العقيدة من رسوخٍ وصدقٍ وحقيقة، انعتاقاً أخيراً وحلاً لكل هذا الاغتراب والتيه.
‘هتف الداعي ونادى
أيها العربُ
فلا الماضون في تسبيحهم للسلمِ لبُّوا صرخة القدسِ
ولا البعثُ اتقد
ويحَ ذاك العقد ما أبخسهُ
نثرَ الدُّرَّ تباعاً
بلداً بعد بلد
أيها الشعبُ إذا وافاك شيطانُ السلاطينِ
وقال النصرَ بالرومانِ يعلو ..
‘قل هو الله أحد’
‘ شاعر وناقد من مصر