كم من حاجة قضيناها بــ .... تركيا
أحمد السنوسي
6/15/2010
سيتبارى المتبارون من خبراء ومحللين من المتشبثين بأهداب السلطة، ومن كتبة الافتتاحيات في الصحف 'المباركة' في وضع الغضب الشعبي العارم ضد ما اقترف من جرائم اسرائيلية ضد ' اسطول الحرية'، تحت مجهر التمحيص والتعليل، وسيستنجدون بـ ' سيغموند فرويد' و' ويليام رايخ' وكافة فقهاء علم النفس بوكالات الاتصال الجماهيري حتى يتبين لهم الخيط الابيض من الخيط الاسود لتبرير انتفاضة كانت الانظمة العربية المرهقة والمرعوبة والتي تحاصر شعوبها منذ عقود طويلة في غنى عنها.
سيقول الذين 'يعلمون'، ويتلقون اجرا مجزيا على ذلك، للذين لا يعلمون، ان جماهير العرب تعاني من عقدة 'اوديب' مزمنة، وعوض ان يقتلوا الاب، كما في الاسطورة، فانهم يطالبون بأب قوي حازم ومقدام في صورة زعيم كاريزماتي له الكلمة الفصل حسب زعم المتعالمين. ومادام ان المنطقة العربية اصبحت عاجزة تماما عن انتاج هذا النوع من الزعامات، فان الجماهير اتجهت بعفوية الى 'حضارات' وقوى اقليمية اخرى غير عربية لتقترض منها هذه الهيبة والبطولة المفقودة، فوجدت في تركيا على سبيل المثال وفي الرجل الطيب اردوغان ضالتها المنشودة، ونصبته زعيما للعرب منذ وقفته المشهودة ضد اسرائيل ورئيسها جزار قانا وغيرها من المجازر شمعون بيريس في دافوس، وحتى ان تم تعميد البطولة التركية بالدماء على متن بواخر اسطول الحرية التي كسرت الحصار النفسي واخترقت الصمت العربي اولا قبل الصمت العالمي اذ ان صمت ذوي القربى اشد مضاضة من صمت ذوي البعد العالمي المفروض على غزة.
وسيرى المحللون و'المحرمون' الرسميون ان البطولة التركية ما هي الا استراتيجية محكمة الاعــــــــداد والتنفيذ من اجل خطف الادوار التي كانت تلعبها بعض الدول العربية والتي احتكرت التعاطي مع القضية الفلسطينية لحوالي نصف قرن الزمن، ونصبت نفسها على 'المحجورين' من العرب والفلسطينيين بدعوى انهم لم يبلغوا بعد سن الرشد الذي يؤهلهم لتدبير مصيرهم بايديهم دون تفويض او توكيل هذا النوع من 'التحاليل' رائج بقوة في صالونات السلطة مكيفة الهواء من بينها ان لتركيا اتفاقيات سرية لكنها علنية مع اسرائيل، كما ان لمصر والاردن وغيرها من البلدان العربية 'الشقيقة' اتفاقيات عسكرية ومخابراتية مع اسرائيل وهو وضع مريح منعهم من ان ينتبهوا الى انه في الوقت الذي كان فيه اسطول الحرية يبحر الى ضفاف غزة، كانت ثلاث غواصات اسرائيلية مجهزة بصواريخ 'كروز' النووية تبحر في مياه الخليج العربي متجهة نحو السواحل الايرانية، فيما عين اسرائيل المشتعلة شررا تركز على سورية ولبنان بدعوى ان المقاومة اللبنانية طورت بدعم من دمشق وطهران صواريخ باليستية قادرة على ان تضرب اهدافا في العمق الاسرائيلي، فيما حلفاء اسرائيل من الحكام العرب المفروضين على شعوبهم يطلب من الفلسطينيين ان 'يعوموا في بحر' مأساتهم.
لم ينبس 'حكماء' العرب باي كلمة حول هذا الانتشار الخطير للسلاح النووي الاسرائيلي في مياه الخليج مادام ان الامر يتعلق في نظرهم بـ 'نوويات' اسرائيلية حسنة، فيما هم احتج هؤلاء الحكام ضد شعوبهم التي احتجت على الجريمة الاسرائيلية الموصوفة لم يترددوا في الاحتجاج ضد كل من احتج على الجريمة الاسرائيلية الموصوفة ضد نشطاء مسالمين يحملون مساعدات غذائية وطبية ولعب اطفال وكتب وادوات مدرسية ومواد بناء وبيوت جاهزة للفلسطينيين الذين دمر 'الجيش الصهيوني' بيوتهم في غزة ... ولا يحملون سلاحا ولا مدافع ولا رؤوس نووية فيما كانوا رافعين رؤوسهم بكرامة. وكانت اسرائيل على علم تام بكل ذلك لكنها اصرت على ان تدمر الرمز الذي يحمله الاسطول الانساني المتمثل في مشاركة ممثلي اكثر من اربعين دولة من بينهم اوروبيون ومن بينهم ايضا نواب في الكونغرس الامريكي، فهل هم ارهابيون ايضا وكذا برلمانيون غربيون، بعد ان خرج التضامن من غزة ومع الشعب الفلسطيني من نطاقه العربي الشعبي المحض الى تضامن كوني أي ان الانسانية وقفت كلها الى جانب الحق الفلسطيني ومحاكمة دولية للجريمة الاسرائيلية الممتدة عبر عقود، ومنذ ان تم اقحام السكين الصهيوني في قلب المنطقة العربية بواسطة كيان وهمي اسمه منظمة الامم المتحدة... ضد القضية الفلسطينية مادامت هذه المنظمة مستوطنة اسرائيلية بحماية غربية فيما الامم المتحدة الحقيقية هي تلك التي تواجد احرارها على متن سفن اسطول الحرية، وكشفوا للانسانية جمعاء ما كان مغيبا عنها من طرف اعلام غربي متصهين اختار معسكر الجريمة ضد معسكر الحق والشرف.
لم يكن ضرب اسطول الحرية مجرد حدث عابر او خطوة مرتجلة، اذ قبل وصول بواخر المساعدات الانسانية، كانت اسرائيل قد اعدت خطة تدميرية كعادتها اطلقت عليها اسم 'رياح السماء' شاركت فيها كل الاجهزة العسكرية والامنية الاسرائيلية، وكانت تنوي تنفيذ الجريمة بعيدا عن الاضواء واعين الرأي العام الدولي، فعمدت الى التشويش على وسائل الاتصال وكذا على البث التلفزي الفضائي.
فشلت 'رياح السماء' في ارتكاب جريمة تحت جنح الظلام، وتحولت الى عاصفة جرفت كل الاوهام الاسرائيلية ولم يعد امام اسرائيل سوى تجنيد مخابراتها، ديبلوماسيتها، وديبلوماسية اصدقائها المبثوثين في كل مكان وعلى رأسها البلدان العربية من اجل تطويق الآثار والتبعات وهي عملية ترميم فضحت زيف خطاب القاهرة الذي القاه الرئيس اوباما في بداية ولايته من اجل تنويم الشعوب العربية والاسلامية، حيث زود اسرائيل بالاسلحة والمساعدات المالية وحال دون ادانتها على جرائمها واكتفى بتزويد العرب بالخطابات والكلام المعسول.
لكن 'رياح السماء' عصفت بما تبقى بصورة الرئيس الامريكي المنقذ التي اسبغها على نفسه او اسبغها عليه خبراء 'الماركتينغ' السياسي في دقائق معدودة، بعد ان عمل على تأسيسها لمدة شهور، وهي عبارة عن مصداقية هشة سقطت في امتحان غوانتانامو، وامتحان العراق وافغانستان وغيرهما من مناطق العالم، وكانت هذه الامتحانات - يا للصدفة! - تمر عبر القناة الفلسطينية، اذ ما ان تعتزم الولايات المتحدة وحلفاؤها ضرب دولة عربية واسلامية حتى تعد العرب بايجاد حل نهائي عادل ودائم للقضية الفلسطينية، بل واقامة دولة فلسطين المستقلة.
وما ان يصل المارينز الى اهدافهم المرسومة، حتى تتبخر الوعود وتظل دار فلسطين على حالها. لذا من الطبيعي ان يرى الوعي الشعبي العربي ضوءا في نهاية النفق المظلم في مبادرات ذات دلالة صادرة عن تركيا التي لبت حاجة العرب الى دول تقرن القول بالفعل، ومن ثم ليس مدهشا ان يجمع الشعب العربي على انه كم من حاجة قضيناها بـ ... تركيا الديمقراطية التي لها الحق المشروع في الدفاع عن مصالحها الاقليمية والدولية بعد ان استقال المستبدون العرب ونفضوا ايديهم من قضية اسمها فلسطين وعاصمتها القدس ولا افهم لماذا يسر البعض على تسميتها بالقدس الشرقية، وجهز هؤلاء المستبدون من الحكم بالدول العربية الجيوش الجرارة للهجوم على شعوبهم بصفتهم 'الاعداء الحقيقيين' فيما المطبعون العرب يدعون الشعوب العربية وعلى رأسها الشعب الفلسطيني الى نهج سياسة 'المقاومة السلمية' للكيان الاسرائيلي، وهي مقاومة تمنع على العربي ان يوجه حتى مجرد نظرة شزراء لاسرائيلي حتى لا يتعكر صفو مزاجه! وماهو ما يعني التطبيع مع الاجرام وهذا ما ترفضه الشعوب العربية والعالم.
وفيما كان 'اسطول الحرية' يبحر نحو ضفاف غزة، كانت بواخر ويخوت الحكام العرب راسية في الساحل الذهبي بــ 'ماربيا' تضامنا مع الاقتصاد الاسباني المنهار وفك الحصار على 'ماربيا' والاندلس الجديدة عوض الشعب المقهور في غزة ولعلهم يعتزمون بعد ان يفرغوا من الغواني الحسان وطاولات القمار ان يعيدوا فتح الاندلس المفقود، وان يشيدوا به المراقص والكازينوهات والمواخير الذهبية لتبقى اثارهم تدل عليهم يتركوا مهمة فك الحصار عن غزة للاخوة الاتراك، في عملية اقتسام للمهام 'الجهادية' ... وكم من حاجة عربية قضاها الاتراك في انتظار أن يفيق بعض العرب من غيبوبتهم الاندلسية الحمراء ولتسلم لنا نيكاراغوا.
' كاتب وفنان مغربي