ما قاله اردوغان وفعلته حكومته أبلغ مما قالته الأعراب!
فيصل عبد الحسن
كانت تخيلات كل واحد عما سيقوله الرجل نابعة من ثقافته وتجربته، وقراءته للتأريخ، فالعرب من الصحافيين والمثقفين الذين كانوا ينتظرون الكلمة وضعوا مقياسا لما سيقوله الرجل بما سيقوله زعماؤنا العرب في مناسبة مشابهة، منهم من اعتقد انه سيعلن الحرب على إسرائيل، وخصوصا حين رأوه وأمارات تعب السفر وإرهاقه بادية على وجهه ( لطول الرحلة الجوية التي قطعها من تشيلي في أمريكا الجنوبية إلى تركيا) والتي فسرها الصحافيون العرب المنحدرون من دول عربية ثورية - على قلتها - وهم يتطلعون إلى شاشات التلفزيون، والقلق باد على وجوههم، أنها علامة واضحة باتخاذه قرار الحرب ضد إسرائيل، وبقياسهم العربي الصرف بالطبع ( !) قالوا انه بالفعل سيعلن عودة الطائرات القاصفة الرادعة، من مهمتها الوطنية الثأرية، التي أنجزتها على خير وجه، وتمت بإغراق كافة سفن الأسطول الإسرائيلي التي نفذت الجريمة، وأنها عادت سالمة إلا واحدة عانت من خلل ميكانيكي وهوت في البحر! العرب من دول عربية حكوماتها تعتبر محافظة، قالوا أنه سيقطع العلاقات التركية الإسرائيلية، ويمهل السفير الإسرائيلي عدة ساعات للعودة إلى فلسطين المحتلة.
نعم كان الجميع ينتظرون ما الذي سيقوله رئيس وزراء تركيا السيد رجب طيب أردوغان، بعد عودته من تشيلي، في مجلس البرلمان التركي، ودماء الأتراك إلى جانب دماء غيرهم من التي سفحت في المياه الدولية من البحر الأبيض المتوسط، في ست سفن مدنية وتبعد 72 ميلا عن المياه الإقليمية، في المياه الدولية في الأول من حزيران ( يونيو) 2010 لا تزال لم تجف بعد -أتضح أنهم كانوا تسعة شهداء أتراك أحدهم يحمل الجنسية الامريكية و17 جريحا - بعد المجزرة التي نفذها الإسرائيليون في عرض البحر لقافلة أسطول السلام.
وقد كان 600 ناشط إنساني على ظهر هذا الأسطول الذي سمي بـ 'أسطول الحرية'، وبصحبتهم 60 صحافيا من تركيا والعالم وقد استقلوا كشهود على الحدث متن سفن الأسطول الذي يحمل مساعدات إنسانية لأهل غزة المحاصرين.
ولمن لا يعرف رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا الحالي، فهو الرجل الذي كان أستاذه رئيس وزراء تركيا السابق والقطب الإسلامي المعروف، نجم الدين أربكان، والرجل من كان يؤم المصلين ويسحرهم بترتيله سور القرآن الكريم، في مدينته ( استانبول) أو ما تسمى قديما بـ ( القسطنطينية)؛ عندما كان يترأس مجلسها المحلي، وقد نقلها نقلة حضارية متميزة، لتفوز بجائزة أفضل وأجمل وأنظف مدينة عالمية! والذي استطاع طيلة فترة رئاسته للوزارة التركية أن يطبع علاقة وتوجهات حزبه الراديكالية، والمؤسسة العسكرية الأتاتوركية المسيطرة على الحكومات السابقة، وهو أيضا صاحب الموقف الذي أثار إعجابنا، كعرب حين دافع عن فلسطين، وأهلها ورد الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريس في منتدى دافوس، بينما كان المسؤولون العرب الحاضرون صامتين لا يتحدثون ولا يدافعون عن قضية فلسطين في محفل دولي مهم، وقبل أكثر من سنة حمل لنا البريد الالكتروني صورا لحفل خطوبة كريمته ظهر فيها أردوغان وظهرت زوجته وابنتها، ونساء عائلته فكن جميعا من المحجبات، وأدهشتنا تلك القبلة الحانية التي وضعها أردوغان على جبهة كريمته وقبلة البنت لظاهر كف أبيها.
لقد خيب أردوغان بعض توقعات اخواننا العرب، حين لم تصدق توقعاتهم، فلم يهدد ويتوعد ويزبد ويرعد، ويرسل جيوشه لتسوية الأمر- بعض هؤلاء من أصحاب التوقعات الدراماتيكية ادعى أن أردوغان اجتمع بالقيادة العسكرية التركية، وأنها حذرته من أي فعل يتخذه ضد إسرائيل، والكلام كلام غير مسؤول وعار عن الصحة - فما قاله اردوغان أبلغ من كل ما قاله الأعراب، وما قاله وما أنجزته حكومته خلال وقت قصير منذ بداية المجزرة وحتى اليوم، هو أكثر من أي فعل آخر قد يقلب المعادلة فيصير المعتدي معتدى عليه، حيث يجيد الإسرائيليون خلط أوراق اللعبة، فيصير اللوم على الضحية، كما كانت إسرائيل تلعبها مع حكامنا العرب، وتنجح فيها أيما نجاح، وتكسب المزيد من الأرض والمزيد من التعاطف الدولي.
لقد قال في خطابه ما لم يقله رئيس وزراء تركي سابق بخصوص حكومة إسرائيلية على الإطلاق، قال جملا تعتبر سبة لمن اقترفوا الجريمة، وستبقى خالدة في الضمير الإنساني إلى الأبد، أسمعه يردد: 'إن الأحداث التي جرت أمس قد شكلت لطخة سوداء من منظور الحضارة والثقافة الإنسانية، لقد سجلت باعتبارها عيبا كبيرا في تاريخ الإنسانية'. وقوله 'لقد أصيب السلام العالمي بجرح كبير'. و' قد داسوا الإنسانية وجعلوها تحت أقدامهم وقد خرجوا من الإنسانية... 'و 'إن تركيا ليست دولة بنيت أمس لا جذور لها، وهي قطعا ليست بالدولة القبلية. يجب ألا يحاول أحد اختبار صبر تركيا أو مواكبتها'، و' وبالقدر الذي تعتبر صداقة تركيا غالية فإن معاداتها قاسية بالقدر نفسه. إن فقدان صداقة تركيا في حد ذاته يعتبر ثمنا باهظا'، و' الإدارة الإسرائيلية تنسف السلام الإقليمي بنشرها الكراهية في الشرق الأوسط وتتحول إلى بؤرة تنشر الاضطراب حولها'. وقوله الأهم الذي ينبغي أن نتعلم منه، وهو يخاطب الحكومة الإسرائيلية: 'بقدر ما تقفون وراء ( اللاقانونية) فإننا نقف وراء القانون، وبقدر ما تقفون وراء هذه العملية الدموية والاعتداء والإرهاب فإننا نقف وراء السلام والعدل'.
أما نتائج مساعي الحكومة التركية لإدانة العدوان والمطالبة بمعاقبته، فقد كانت سريعة ومؤثرة، وعلينا أن نتعلم منها الكثير من الدروس، فقد بدأت الحكومة التركية في الساعة السادسة والنصف من صباح 1 حزيران ( يونيو)، يوم العدوان على 'أسطول الحرية' باجتماع وزاري ترأسه بولنت أرينج بوصفه نائبا لرئيس الوزراء التركي، وحضره ممثلو المؤسسات المعنيون بالموضوع من كافة الجوانب في تركيا، وتابعت وزارة الخارجية التركية، ووحدات الاستخبارات والإدارات المعنية بالإضافة إلى القوات المسلحة التركية التطورات عن كثب.
وقد نتج عنها إجراءات سريعة شملت استدعاء السفير التركي لدى تل أبيب.
ألغيت ثلاث مناورات عسكرية مبرمجة مشتركة مع إسرائيل.
ذهب وزير خارجية تركيا إلى نيويورك، ودعا مجلس الأمن إلى اجتماع طارئ، وفعلا تم عقد الاجتماع الطارئ، ولأول مرة في تاريخ مجلس الأمن يعقد بهذه السرعة في واقعة ترتكبها إسرائيل!
أعلن مجلس الأمن بيانا ندد فيه بإسرائيل، وطلب في بيانه فتح تحقيق بشأن الحادث ودعا إسرائيل إلى إطلاق سراح المدنيين والمصابين فورا.
ألغيت المباريات التي كان من المفروض أن يشترك فيها المنتخب الوطني التركي للشباب لكرة القدم والموجود حاليا في إسرائيل.
دعي مجلس حلف الناتو إلى اجتماع طارئ اليوم.
بالإضافة إلى ذلك فإن الاتصالات التركية مستمرة مع كل من منظمة المؤتمر الإسلامي، والجامعة العربية، والاتحاد الأوروبي كما دعيت كافة المؤسسات الدولية للقيام بواجبها.
وفي هذا السياق فإن منظمة المؤتمر الإسلامي ستعقد اجتماعها يوم الاثنين القادم. وعلى الرغم من القراءات الخاطئة لبعض المحللين العرب والأجانب للخطوات التي اتبعت في إدارة الأزمة من قبل الأتراك، إلا أنها فاقت التوقعات و أن ما حدث سيؤدي بإذن الله إلى رفع الحصار عن غزة قريبا.
* كاتب وصحافي عراقي يقيم في المغرب
faisal53hasan@yahoo.com