في سبيل البعث: مقتطفات من " البعث أصالة عربية وعقل ثوري"
زيد احمد الربيعي
نعيش في ظروف في منتهى الخطورة والجدة، ظروف خطيرة ولكنها غنية فيها خلق وفيها إمكانات غزيرة وآمال واسعة.
في ظروف كهذه يصل فيها الخطر على الوجود القومي وعلى وجود الأمة ذروته، تبرهن الأمة عن مقومات الحياة فيها ومقومات البقاء وعن استعداداتها الحضارية الغنية، فتتيح هكذا لأبنائها على مختلف مستوياتهم أن يتأكدوا مرة جديدة من هذه الحقيقة التي يؤمن بها المناضلون بأن الأمة العربية أمة حية فيها قابلية للتجدد المستمر وللانبعاث المبدع وإنها في هذا العصر تبدأ نهضة حضارية جديدة هي بداية تاريخ لها وللإنسانية أيضا.
هكذا يتاح للمؤمنين بأمتهم وللمناضلين في سبيل حقوقها وأهدافها بين فترة وأخرى أن يسعدوا بهذه الرؤية، بهذه اللحظات الخالدة التي تعزز فيهم الإيمان والثقة بالمستقبل.
المبدعين لا يظهرون عبثا ولا يظهرون بدون تهيئة في المجتمع، في تجارب المجتمع، في حاجات المجتمع، وإن ظهورهم الذي يبدو أحياناً وكأنه صدفة ومعجزة إنما له تفسير اجتماعي، بل الحاجات والتجارب والانتصارات والنكسات كلها تساهم في خلق هؤلاء الأفراد الذين تكتمل فيهم الشروط ويتحقق فيهم التجاوب والانسجام بين تطلعاتهم وتطلعات مجتمعهم وشعبهم وعندها يقومون بتمثيل إرادة هذا الشعب على أقوى شكل لتمثيل إرادته العميقة بتحقيق القفزات في طريق تحرره وتقدمه معتمدين على هذا التجاوب، معتمدين على تجربتهم التي هي تجربة الشعب والأمة، التي تلخصت فيها تجارب الشعب والأمة، فيأتون ليحققوا انعطافاً حاسماً تكون أسبابه قد نضجت وتهيأت في المجتمع. ولكن ليس أي فرد يستطيع أن يمثل إرادة الأمة ويحقق مثل هذا الانعطاف، إذ لا بد من شروط خاصة، صعبة التوافق تتهيأ في المراحل التاريخية الفاصلة ويكون فيها هذا الانسجام الفائق بين عمل القائد وبين إرادة الشعب والأمة. لقد توفر لهذا الحزب بعد تجارب مضنية برهن فيها الحزب أنه مستمسك برسالته لا يتخلى عنها مهما تكون العقبات والنكسات، مهما تبلغ مؤامرة الأعداء عليه، هذا الإيمان وهذا الإصرار رغم تبدل الظروف وقسوة الظروف هو الذي يسمح أخيراً بأن تظهر القيادة الفذة التي تستند إلى هذا الإيمان، إلى هذا الاطمئنان بأن وراءها حركة تاريخية لا بد أن تشق طريقها وتتابع مسيرتها رغم كل شيء، عندها ينطلق هؤلاء الأفراد مستندين إلى هذا الشعور والى هذا اليقين وتتحقق على أيديهم الإنجازات التي تأتي لتعوض عن كل فترات الجمود والتراجع التي أصابت الحزب في بعض الأوقات.. ولتظهر في يوم واحد جوهر هذا الحزب وما يكمن فيه وما ينطوي عليه من أصالة ومن إمكانات ومن تصور صادق لأبعاد المهمة الثورية الحضارية التي تقدم لحملها.
دبر العقل الاستعماري مكيدة، العقل الاستعماري والعقل الصهيوني دبرا مكيدة كبيرة للأمة العربية، عملا للوصول إليها زمنا طويلاً وإن بدت كأنها من صنع الأشهر الأخيرة، هذه المكيدة هي التآمر على وحدة الأمة العربية، على تماسكها العضوي بإخراج مصر من المعركة، ومن المصير العربي لو أمكنهم ذلك، فكان لابد أن يأتي الجواب بهذه القوة، بهذا الصدق، في تلبية نداء الأمة من أعماق الحاجة وأعماق الضرورة بأن نفتح من جديد طريق الوحدة العربية واسعاً مشرعاً وأن تعود الآمال فتنتعش في صدر كل عربي وأن يستهين عند ذلك بمؤامرات الأعداء ومكائدهم، لا ليغفو وينام بل يتجند ويجاهد لأن الوحدة وحدها تجعل النضال مثمرا ومضمون النجاح بالنصر، وعندما يكون الرد رداً وحدوياً بهذا المستوى فإن المؤامرة التي دبرت لمصر تفشل فشلاً كاملاً لأنها بنيت بالأصل على اليأس، على حالة اليأس، وحين تعيد الوحدة الأمل إلى الجماهير العربية، فإن مصر بجماهيرها المناضلة الأصلية تكون قادرة على كشف المؤامرة وعلى الرد عليها وهكذا نكون قد كسبنا الوحدة وكسبنا مصر في آن واحد.
لم نصدق في يوم من الأيام أن شعبنا في مصر يمكن أن ينفصل عن جسم الأمة العربية أو يرضى لنفسه مصيراً غير مصير أمته، ولكنها ظروف وقتية وخدع محبوكة استطاعت أن توجد وضعاً مفروضاً مزيفاً يتنافى استمراره مع طبيعة شعبنا العربي في مصر ومع تاريخه ومع حاضره المليء بالتضحيات من أجل المصير العربي. فان شعبنا في مصر يدفع ثمن عروبته باهظاً من دماء عشرات الألوف من الشهداء، ويدفع من قوت يومه، ولكن التجزئة الراهنة جعلت هذا الشعب العظيم في أوضاع اقتصادية متردية بينما هناك أقطار ترتع في البحبوحة بعدد ضئيل من السكان.. هذه المفارقات في وضعنا القومي لو رضينا بالتجزئة وأحكامها لأوصلت إلى شرور وويلات كالتي نشاهدها في قطرنا العربي الكبير "مصر" وفي غير مصر من الأقطار إذا لم نتمرد على التجزئة، حتى ولو لم نستطع أن نحقق الوحدة الكاملة التي تتطلب زمناً وطريقها ما تزال طويلة، إنما علينا أن نبني المستقبل بالإرادة وبالوعي وبالرؤية الموضوعية، ننظر إلى هذه الفوارق بين الأقطار، وننظر إلى ما يمكن للاستعمار والصهيونية أن يستفيدوا وأن بينوا عليه من تلك الفوارق لكي نجعل النضال العربي أكثر استيعاباً لحاجات المجتمع العربي ولأمراض الواقع العربي، لكي نجد لها العلاجات الناجعة، لكي نسهل عملية الوحدة، لكي تكون الوحدة في الشعور وفي التجاوب الشعوري مع أبناء شعبنا وقومنا في أي قطر كان، قبل أن تصبح الوحدة وحدة سياسية، يجب أن تكون وحدة شعورية صادقة حتى تتحول إلى وحدة نضالية وحتى تثمر فيها ما بعد الوحدة السياسية.
إن ما يستغله الاستعماريون والصهاينة من ثغرات في أوضاع شعبنا العربي في مصر-أوضاعه الاقتصادية- أيضاً يجدون ما يستغلونه في أوضاع شعبنا في فلسطين سواء الباقي في الأرض المحتلة الذي يعاني من مظالم الاحتلال أو الذي شرد من وطنه ويعاني أيضاً من نتائج هذا التشريد. فقد كان جواب الشعب العربي الفلسطيني ثورة فريدة في هذا العصر فرضت احترامها على العالم فإننا كعرب وحدويين لا يجوز أن نهمل بعض الحقائق فإن وراء العقلية الوسطية التي تتمثل في بعض القيادات الفلسطينية هذه العقلية التي تريد للنضال أن ينتهي في وقت، وللثورة أن تتحول إلى دولة ونظام بالتسويات من دون انتزاع ذلك بالثورة والنضال. هذه العقلية تستند للأسف إلى ثغرات في أوضاع الشعب الذي أُخرج من وطنه والشعب الذي يعاني من ويلات الاحتلال وهذا يوصلنا إلى عبرة ودرس بأن قضية فلسطين، إن لم تتحول إلى قضية كل قطر عربي، وإلى قضية كل مناضل عربي في نضاله اليومي، وإذا لم نمض في طريق العمل الوحدوي لكي نعطي البرهان الساطع على أن القضية القومية وحدة لا تتجزأ وأن الثورة الفلسطينية إذا لم تكن جزءاً عضوياً من الثورة العربية وإن لم تتفاعل معها ومع جماهيرها، فإننا معرضون لمثل ما نشاهده أحياناً من ركض أو سعي وراء التسويات التي تتنافى مع حقوق أمتنا في أرضها ومع أهداف ثورتنا العربية في التحرر الكامل.
هذا ما يرتب على سيرنا في المستقبل أن نكون أكثر استيعاباً لأوضاع أقطارنا وألا نرتاح في الأجزاء التي نعمل فيها متناسين ما يعاني منه شعبنا على الساحات الساخنة.
هذه الظروف الأخيرة أعطت تأكيداً لتصور الحزب بأن الأمة العربية تعيش مرحلة انبعاث وأنها في تنام وصعود رغم المظاهر التي قد تخدع بين الحين والآخر عن رؤية هذه الحقيقة.. هذا التصور هو أثمن ما يمكن المناضلين أن يتسلحوا به لأنه يضعهم دوماً في حركة التاريخ، في انسجام مع حركة التاريخ.. قد لا يجنبهم الأخطاء الصغيرة ولكنه بالتأكيد يضمن لهم الانتصارات المهمة وفي الظروف العصيبة الحاسمة مثلما حدث في هذا الظرف.