في سبيل البعث : مقتطفات من " عصر الوحدة"
زيد احمد الربيعي
نحن أمام ظرف خطير لا يجوز أن نستهين به أو نخفف من خطورته، ولكننا في الوقت نفسه نشعر أننا اقدر وأقوى من أي وقت مضى على مواجهة الظروف الخطيرة وأننا مهما تبلغ خطورتها نستطيع بل يجب ان نحيلها إلى قوة جديدة تضاف الى ثورتنا العربية الصاعدة، نبحث عن العارض الوقتي المصطنع في المؤامرة الكبيرة التي دبرها أعداء الأمة لكي نكشف اصطناعه وضعفه ولكي نسهل على جماهيرنا العربية والمناضلين الثوريين في سائر أرجاء وطننا الكبير ان يتغلبوا على هذا الخطر عندما يعرفون ما ينطوي عليه من خدعة، ونكشف أيضا عن الجدية والعوامل الحقيقية التي ما كانت المؤامرة لتقوم ولتكبر إلى هذا الحد لولا ثغرات وأمراض ونواقص ما زالت قائمة في مجتمعنا، في بنياننا القومي، في تكوين ثورتنا المعاصرة. تأتي التحديات لتزيدنا تنبها ولتزيد خطانا سرعة في معالجتها لكي يصبح البنيان متينا وأكثر منعة وصلابة.
قلما عرفنا ظرفا في حياتنا القومية، في مسيرة حزبنا العظيم كانت فيه الأمور واضحة إلى هذا الحد. وهذه علامة ايجابية مشجعة لان هذا الوضوح في الظرف وفي تصرفات الأعداء وعملائهم ليس مقصودا من قبلهم بقدر ما هو نتيجة لتقدم الثورة العربية ولكونها لم تعد تترك للأعداء وأدواتهم فسحة واسعة للتستر والمغالطة والالتواء..
فقد عرفنا عهودا رجعية مفرطة في رجعيتها فاسدة ومفرطة في فسادها مرتبطة بالأجنبي تأتمر بتوجيهاته، ولكننا لم نعرف بعد مثل هذه الظاهرة خاصة عندما تظهر في اكبر قطر عربي، في قطر كانت له دوما القيادة والريادة والثقل الأكبر في التاريخ العربي، في الحضارة العربية، في مواجهة الغزوات التي دبرها الغرب منذ العصور الوسطى ضد الأمة العربية.
هذه الظاهرة إذا توقفنا عندها قليلا، فلكي لا تأخذ في تصورنا حجما اكبر مما تستحق ولكي لا تدخل أي اثر للوهن في عزيمتنا. فالسادات إذا نظرنا إلى الوقت والى الظروف التي جاء فيها إلى الحكم في هذا القطر الكبير الذي يعادل كما يردد السادات وأبواق إعلامه نصف الأمة العربية من حيث العدد ومن حيث الإمكانات، في أي ظرف جاء السادات؟ بعد أن قضى ما يقرب من العشرين عاما في زوايا الإهمال في عهد عبد الناصر وفي "الحياة التافهة"، تساعده لعبة الأقدار بان يصل إلى السلطة، فلا تتحمل شخصيته العادية تغيرا مفاجئا مثل هذا، فيجعل من السلطة متنفسا لعقده المكبوتة، جاء بعد عهد من البطولة وجاء بعد ملحمة من الأعمال لم تكن مقتصرة على مصر بل شاركت فيها جماهير الأمة العربية بكاملها، سواء أكانت المشاركة بالفعل أم بالفكر والعاطفة، وبالرغم من إن ذلك العهد كان أيضا يعاني من نواقص فادحة لم تتح له أن يتوج تلك الملحمة بالنصر المبين بل انتهت كما نعرف جميعا بشكل مؤلم فاجع وتحملت الأمة العربية كلها نتائج تلك المغامرة ولكن ذلك كله لا يمحو حقيقة مغروسة في قلوب الجماهير العربية وقلوب جماهير مصر بان محاولة صادقة جرت، محاولة بطولية، جرت في عهد عبد الناصر من اجل توحيد القوة العربية في وجه أعداء الأمة الاستعماريين ومحاولة لتثوير الجماهير ولاستخراج القوى الثورية والنضالية في عدة ساحات عربية. ولست بحاجة إلى أن اذكر وأنا أخاطب مناضلين بعثيين بأنه كان للبعث فضل وسبق وإسهام كبير في خلق تلك الأرضية الثورية في الوطن العربي وفي تمكين عبد الناصر من ان يتجاوب مع أماني الشعب العربي وان يقف تلك المواقف الجريئة الشجاعة في وجه الاستعماريين. هذا الجو قد تغير واختلف بعد الهزيمة ثم بعد غياب عبد الناصر وآلت الأمور الى شخص السادات فلم يستطع ان يكتشف لنفسه دورا تاريخيا الا بحالة غير معقولة من الاستسلام والتبعية والذوبان في جسم الأعداء حتى عبر عن حصيلة ذلك في الخيانة السافرة التي أوصلته الى توقيع معاهدة الخيانة..
نريد ان نخلص من هذا الى ان شيئا من شخصية السادات ساعد على إبراز موقف التبعية والاستسلام إلى هذا الحد من الخيانة، ولكن تبقى الحقائق هي هي إذا صرفنا النظر عما أضافه شذوذ السادات من مبالغة في الموقف، فان هناك حقائق لا تتغير تتلخص في إن الأمة العربية وثورتها المعاصرة ستجد نفسها والى أمد طويل أمام طريقين، طريق التخلي والمساومة والضعف والحرص على المنافع الخاصة وطريق الرؤية الثورية والتجرد الثوري والانطلاق من مصلحة الأمة ومن صورة مستقبلها كما يجب ان تكون، وبالتالي من موقف الصمود والنضال والتضحية والمثابرة، تغذيها بإيمان متجدد وتعززها الانتصارات وخطوات التقدم المحتومة لان الأمة العربية دخلت ومنذ زمن في طور النهضة والصعود، في طور الانبعاث الحقيقي، ويبقى إن هذا الانبعاث لا يستطيع أن يواكبه أو يشعر به أو يؤمن به كل الحكام وكل الطبقات الحاكمة فلا بد من رؤية ثورية ولا بد من انحياز عميق إلى مصلحة الجماهير الكادحة وارتباط مصيري بها وإيمان لا يتزعزع بإمكاناتها وبأنها هي صانعة التاريخ. أما الحكام والطبقات التي تثقلها وطأة مصالحها الخاصة من طبقية وفردية وتعمي أبصارها وتبلد حسها، فهذه لم تكن في يوم من الأيام ممن يصنعون التاريخ بل كانت هي العقبات في طريق الثورة وفي طريق التجدد ولا بد لحركة الانبعاث حتى تنمو وتتفتح وتكبر وتتصلب من ان تعارك العقبات ومن ان تعيش الواقع العربي بكل أمراضه لتحسن وضع العلاج له ولكي تتغلب على الأمراض والعقبات واحدة تلو الأخرى.
إن جماهير مصر العربية لئن كانت حتى الآن لم تثر ثورتها لتسقط الخائن ونظامه فلن يكون هذا ببعيد وقد أعطت جماهير شعبنا في مصر البراهين الكثيرة على ثورتها وروح التضحية عندها بما فيه الكفاية لكي لا يداخلنا ريب فيما سيكون موقفها وفيما هي حقيقتها وحقيقة معاناتها، ونحن نعرف ان أعداءنا الذين يملكون الوسائل الرهيبة، وسائل العلم الحديث المنصرف الى الشر والجريمة، كيف يتوصلون في فترات مؤقتة الى كبت حرية الشعوب وحصارها ولكن ذلك يبقى إلى زمن محدود حتى تختمر الثورة وتؤذن بالانفجار..
هذا المنطلق الوحدوي هو المنطلق الثوري، وثورية البعث وأخلاقية البعث حيث تلتقي الثورية بالأخلاقية ويندمجان معا لأن الوحدة تتطلب التجرد، تتطلب التضحية بمصالح آنية كثيرة، تتطلب النظر البعيد والصبر والعمل الدؤوب حتى تخرج الأمة إلى حيز الواقع، لأن الأمة بدون وحدة هي مشروع أمة فقط. هذه النظرة التي ابتدأ بها البعث هي التي يجب أن نعود إليها دوما لكي نقوى على مواجهة الصعاب، نقوى على مواجهة الظروف الخطيرة، أي ان البعث هو دوما للأمام وللمستقبل وللأمة، للآخرين من شعبنا، لتأريخنا، لأجيالنا. هذه النظرة هي التي تستطيع أن تجمع الأجيال المناضلة من البعثيين قديمها بحديثها، لأن الأجيال الحديثة إذا لم تعش في ذلك الجو الذي بدأ منه البعث، فان المبادئ التي تعمل لها قد تفقد شيئا من حيويتها. في كل ظرف خطير هذه الرؤية الصافية الصادقة هي التي وضعتنا على طريق النضال والتضحية والسعادة الفائقة لخدمة امتنا والسلام...