نزهة في ضمير الاستعمار: اغتيال فرحات حشاد
فؤاد ابو حجلة
بثّت قناة 'الجزيرة الوثائقية' يوم 18 كانون الاول/ديسمبر 2009 تصريحات للمدعو أنطوان ميليرو يعترف فيها ليس فقط بتورط 'اليد الحمراء' في مقتل الزعيم الوطني والنقابي التونسي فرحات حشاد في كانون الاول/ديسمبر 1952 بل بالتغطية على الجريمة من قبل الحكومة الفرنسية آنذاك وتهريب القتلة بمساعدة وزير الداخلية الفرنسية حينها: فرانسوا ميتيران!.
فجأة تقفز صورة ميتران (البريئة) إلى المُخيلة، صورة الرجل الأديب، والفيلسوف وراعي الفن، وباني هرم متحف اللوفر، فهل يُعقل أن يكون قاتلاً في الصباح وعابداً في محراب الفن والأدب بعد الظهر؟!، أم أن هناكَ خللا ما في البُنية النفسية والعقلية لدى المُستعمِر؟، وهل هناك تجلٍ وعبقرية للإجرام يُصاحبه روحانية وطُهرانية غامرة تطرد الأرواح الشريرة غِبَّ الجريمة مُباشرةً؟!
يُحيلنا هذا المشهد إلى مقولة صارخة في وصف الإستعمار حاكها فرانز فانون 'إن الاستعمار ليس آلة مُـفكرة، ليس جسماً مزوداً بعقل، إنما هو عنف هائجٌ لا يُمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى' واجترء على الإضافة أنه لا خلاق ولا أخلاق، وما يدفعه منذ تحلل الدول الإستعمارية من الأخلاق المسيحية هي غريزة المنفعة، ولنا في رحلة كريستوفر كولومبس خير دليل على جشع الملوك للإستعمار ونهمهم لجمع الثروات من أجل المزيد من الحروب، والمزيد من الذهب، حين أوعزت، وموّلت الملكة إيزابيلا ملكة قشتالة وزوجها الملك فرناندو ملك أراغون الرحلة الإستكشافية لكولومبوس بحثا عن المال والعالم الجديد!، وحشرت من ضمن جوقته رجال دين مسيحيين ذراً للرماد في ضمائر الغافلين، وحين تم اكتشاف العالم الجديد بدأت الحملة المسعورة لاحتلاله، وحلب وجلب كل ثرواته، وتقديمها بين قدمي الملكة، ويحكي التاريخ المدون أن الرحلة الإستكشافية قد عادت إلى إسبانيا وقد جمعت في أقفاص كبيرة العديد من الحيوانات، والطيور، والنباتات، وأيضاً (عيّنة) من سكان العالم الجديد، وهم بشر.. في أقفاص ليشاهدهم الناس في شوارع غرناطة في موكب جليل!!
هل ساوى الإستعمار في نظرته بين الإنسان والحيوان؟! وهل العين المُجردة لا تُدرك الفرق بين الآدمي والمخلوقات الأخرى، إنها عينٌ أخرى تلك التي تُبصر وترى، وهي عين زرقاء.. زجاجية.. متوحشة، مغرقة في نرجسيتها، ولذا لا ترى إلا ذاتها في مرآة الماء!، ونتساءل: هل أدرك ساكنة العالم الجديد الخطر المُحدق بهم لحظة رؤيتهم تلك السفن كالأعلام ترسو على شواطئهم، من المؤكد أنهم لم يستشعروا الخطر، حتى وإن استشعروه فقد كان المُستَعمِر يمتلك القوة والعتاد المتطور بمراحل كثيرة عن السكان الأصليين، والقوة لها الكلمة الفصل من منظور العقلية الإستعمارية: هي التي تفتك، وتقتل ببرود كل ما يعترض طريق ازدهارها، وهي التي تغتال حشاد، وعمر المختار، والشيخ ياسين، والدكتور الرنتيسي، وتصنع أقفاصا كبيرة جدا ً بحجم غوانتانامو وأبي غريب والنقب لتزج في داخلها رجالاً أحرارَ رفضوا الإحتلال وناصبوه العداء.
وكما لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار، ويعاكسه في رؤيته واتجاهه يجدر بنا أن نطلع على كيفية التفكير والشعور لدى القوي، وما هي المُحركات والدوافع التي تُبرر له الفعل والوسيلة: إن القوة بحد ذاتها تُفرزُ شهوة السيطرة، فقد كان الإنسان الأول يحتال كثيراً للإيقاع بفريسته، وهي فريسة مسوغة للأكل فقط واستعمال جلودها لحماية جسده من القر، وغالباً ما كان يرجع الإنسان الأول بخفي حنين من رحلة صيده، وغالباً ما كان يفر بروحه من وحشية الحيوان، ولكنه ما فتئ يبحث ويفتش عن القوة حتى استطاع ووصل إلى مرحلة اختراع السلاح، ومع كل تطور كان يشعر الإنسان بالزهو والقدرة على تطويع البيئة لخدمة احتياجاته، ومع كل مرحلة كان يزداد ثقةً أو حتى غروراً بقوته وجبروته، وهكذا فالإنسان المجرّد من المُثل والنوازع الداخلية يحتال حتى على القوانين واللوائح التي وضعها أو حتى ورثها عن ذاكرة العالم الجمعية للحضارات السالفة، هنا أنا أتحدث عن الموروث الإنساني فقط، وليس عن الشرائع السماوية لأنني أحاول فهم الطبيعة الحيوانية لدى الإنسان، والتي لا تميل إلى اتخاذ الناموس الإلهي طريقاً لها، وإنما جعلت في عصرنا الحالي من المنفعة واللذة أنموذجين قادرين على تسويغ وتبرير أي فعل من أجل الوصول إليهما، والإنسان العملي العلمي بامتياز والمدجج بتكنولوجيا طاغية وقر في يقينه أن العقل المحض هو الإله، وأن العقل في ذروة انفعاله لا يقر له قرار إلا إذا سخر كل الطاقات والماديات لخدمة مبدأي المنفعة واللذة، وهنا ينضوي الحال عن صورة سريالية لحيوان يلبس ربطة عنق.. حيوان أنيق ونظيف، ومنغمس في ذاته بقوة الغريزة، ومندفع لاستجلاب المزيد من القوة...
والقوة تُختزل في السلاح والمال والسيطرة على الإعلام، وهي كما نلاحظ نفس الأدوات في الماضي والحاضر، مع نزوع فطري لتحييد العواطف، وترك العواطف للبغال فقط من جنس البشر!!
مما تقدّم ذكره نخلص بأن إنسان الإستعمار الجديد أينما وجِدَ لا يحتمل وجود أقوياء بنفس الدرجة أو أقل ضمن نطاق سيطرته، وهو يعتبر أي نقطة في الكون خاضعة لإرادته (أفغانستان، العراق، فلسطين، الصومال...إلخ)، وأن أي اتجاه للتخفيف من غلوائه هو اتجاةٌ معادٍ (بعض دول أمريكا اللاتينية، كوريا الشمالية، سورية، إيران...)، وأي فئة تقاوم أفعاله هي فئة إرهابية (حماس، حزب الله، طالبان...) يجب سحقها بكل السبل، وأي وسيلة هي وسيلة مباحة، وكل أرض مستباحة لخدمة أغراضه ومنفعته ولذته..
* كاتب فلسطيني
fuadabuhijleh@hotmail.com