منظومة الحشد الشعبي.. محاولة لقراءة هذا الملفد. مثنى عبدالله
November 24, 2014
لم تعد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في العراق، إن كانت حقا موجودة بهذا الوصف، قادرة على الإقناع، وهذه من أكبر المعضلات التي تواجه المنظومات السياسية المصطنعة، حتى في حالة الرغبة في التغيير، من خلال دفع وجوه جديدة إلى الواجهة السياسية، لتغيير البنية الهيكيلية للنظام بنيات حسنة أو لمجرد التضليل. سيبقى الوصول إلى حالة الاقناع بعيد المنال، لأن العامل الأساس في بناء هذه الرابطة، وهو الثقة باتت مفقودة بين الحاكم والمحكوم، إلى الحد الذي قد تواجه الشعوب فيه حالات اضطراب أمني كبير يهدد مستقبل وجودها، أو انسداد حقيقي في الافق السياسي يعطل مصالحها، وقد تسعى السلطات للتغلب على هذه الحالات بإيجاد منظومات سياسية أو أمنية جديدة لمواجهة هذه الحالات، لكنها تصطدم بأن هذه جميعها غير قادرة على إنتاج الحل، فتجنح إلى تحويل هذه المعالجات أو المنظومات إلى أدوات قسرية لتحقيق حالة الإجماع، التي باتت بعيدة في ظل الانقسام المجتمعي الحاد.
في ظل هذا السياق يمكننا قراءة ظاهرة ما يسمى في العراق اليوم «قوات الحشد الشعبي»، التي ولدت بعد الاجتياح الشهير للموصل وصلاح الدين ومدن أخرى، على يد عناصر «الدولة الإسلامية». نعم كان الحدث يمثل تهديدا حقيقيا للعراقيين في كل المحافظات وليس في تلك المناطق فقط، لأن منظومة الحياة التي اعتاد عليها الناس باتت في خطر حاسم، وتتناقض بصورة حادة مع ما يرسمه «تنظيم الدولة» من مسارات حياتية للناس، لكن التهديد الأكبر الذي حمله ذاك الاجتياح كان أكبر للمنظومة السياسية الحاكمة، لأنها لأول مرة منذ أحد عشر عاما تواجه تهديدا خارجيا حقيقيا، تزامن مع فقدانها حالة الإقناع والتأثير على المستوى الداخلي. كانت السلطة على علم تام بأن المجتمع في حالة انقسام خطير إلى طوائف ومذاهب وقوميات، إلى الحد الذي باتت الخريطة الإدارية في العراق ذات تسميات تشير إلى الطوائف، ولانهم يعلمون أيضا بأن المشكلة في العراق سياسية وليست أمنية، سببها التهميش والإقصاء وتخوين الآخرين، ولأن المحافظات التي استولى عليها «تنظيم الدولة» هي مناطق ذات لون طائفي معين، وكانت تغلي بالاعتصامات ضد السلطة الحاكمة، التي اتهمتهم بأنهم «دواعش» حتى قبل الاجتياح، عندها تفتقت عبقرية صُنّاع القرار بأن الحل الأمثل هو الاستغلال السياسي للوضع العام في البلاد، وتشكيل ما سُميّ بالحشد الشعبي بأهداف سياسية طائفية وليست وطنية. فإذا كانت أربع فرق عسكرية مدربة من قبل الأمريكان وحلف الناتو ومسلحة بأحدث الأسلحة قد انهارت خلال ساعات أمام عناصر «تنظيم الدولة»، فهل يُعقل أن تُحرر المناطق التي احتُلت بمجاميع من متطوعين شعبيين؟ هذا يجافي العقل والمنطق تماما.
إذن فالأهداف السياسية المتوخاة من إنشاء الحشد الشعبي هي أولا، إعطاء صورة بأن هنالك خيانة قد حدثت وأبوابا قد فتحت لعناصر «تنظيم الدولة»، من قبل مجموعة من العراقيين معروفين بلون طائفي معين، وبالتالي فإن الاقصاء والاجتثاث والتهميش الذي حدث بحقهم سابقا كان بنظرة استباقية قائمة على أساس أنهم معادون وليسوا موالين.
ثانيا، الدفع بعناصر الحشد الشعبي إلى تلك المناطق لتحريرها للتدليل على أن من يحتكر السلطة والقرار السياسي هو الجهة الوحيدة المؤهلة للحكم، وهو المدافع الحقيقي عن استقلال البلد وسيادته، وكأن لسان حالهم يقول، أنظروا أولئك خانوا ونحن من تصدوا.
ثالثا، استغلال الحالة السياسية والعسكرية الناتجة من جراء سقوط المحافظات، لتقديم إيران على أنها هي المنقذ الوحيد والحقيقي للعراق وشعبه، من خلال نشر الكثير من صور الجنرال قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني في العديد من المدن العراقية، متقدما قادة وعناصر الحشد الشعبي، خصوصا في المناطق التي دخلها الحشد. كما أنها أيضا رسالة تهديد للخارج للتأكيد على أن الحرس الثوري قادر على القتال في أكثر من جبهة، فكما هو يقاتل في سوريا فها هو اليوم في العراق أيضا.
رابعا، تعزيز الفعل السياسي والعسكري للميليشيات العراقية في الدولة، من خلال إبراز دورها في الحشد الشعبي وظهور زعاماتها في مقدمة صفوف المتطوعين، وبالتالي استثمار ذلك على شكل استحقاقات سياسية في مناصب سيادية في الدولة، خاصة وقد ظهرت معارضة واضحة لإسناد بعض المناصب المهمة لقادة وزعماء ميليشيات في التشكيلة الوزارية الأخيرة. فهل يكون الحشد الشعبي هو من يحقق حالة الإقناع الشعبي بالسلطة؟ يقينا لا يمكن أن تكون هذه المنظومة قادرة على تحقيق ذلك، لأنها بُنيت بذات الصيغة التي بُني بها الجيش الذي انهار وهُزم قادته وضباطه خلال ساعات قليلة. فمشكلة النظام السياسي العراقي الحالي أنه بُني وفق وهم يقول، إن الأغلبية الطائفية هي بالضرورة تكون الاغلبية السياسية، لذلك لن يتحقق الرضى والإقناع مهما فعلت السلطات الحاكمة، لانهم يدافعون بلا هوادة عن كل منتج طائفي مهما كانت أفعاله جرمية. وفي هذا السياق نجد الرفض الحاد لانتقادات المفوضية السامية لحقوق الانسان لقوات الحشد الشعبي والجيش، الذي صدر عن وزارة حقوق الإنسان العراقية مؤخرا. فقد أوردت يونامي في إفادتها أمام مجلس الأمن في الجلسة المخصصة لبحث الأوضاع في العراق، من أن الانتهاكات التي ترتكبها قوات الأمن والميليشيات التي تدخل المدن، لا تقل خطرا عن الجرائم التي يرتكبها تنظيم «داعش»، وأنها تتلقى يوميا شكاوى عن انتهاكات وممارسات خطيرة يتعرض لها السكان الآمنون من قبل هذه المجاميع المسلحة الحكومية. كما أدانت منظمة «هيومن رايتس ووتش» هذه الأفعال أيضا، لكن السلطة اعتبرت كل هذه الحقائق التي أوردتها المنظمتان الدوليتان غير منطقية، وأنها تمثل استفزاز لمشاعر الشعب العراقي، بينما كان من المفروض أن يتم التحقيق بها والأخذ بالدلائل لتحقيق التغيير الذي يتحدثون عنه منذ وصول رئيس الوزراء الجديد إلى سدة الحكم. فهل بعد كل ذلك مازال من يعتقد بأن السلطة الحالية قادرة على تحقيق الإجماع والفوز بالرضى الشعبي؟ قد يقول قائل بأن «الحشد الشعبي» حالة راهنة أوجبتها الظروف العسكرية والسياسية، وأنها ستنتهي بانتهائها، وهذا محال لأن من يعتمد على الميليشيات يصبح أسيرا لها. هذه هي انحرافات العمل السياسي عندما يغادر الوسائل الطبيعية والقانونية لتحقيق حالة الإقناع والرضى والإجماع الشعبي، وهي أزمة باتت مستديمة في الحالة العراقية.
٭باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله