بين حداثة التعذيب الأمريكي وأصالته العربية
هيفاء زنكنة
December 15, 2014
هناك في
الغرب من يرى جانبا إيجابيا في عودة ملف التعذيب إلى الواجهة في أمريكا هذا الإسبوع. يرون فيه بداية لمراجعة صريحة مع النفس وبداية لاسترجاع المصداقية أمام بقية العالم. أما بالنسبة لشعوبنا فالأمر فيه نظر. إذ طالما ذاقت الشعوب العربية، ولاتزال، التعذيب بأنواعه ومن قبل الحكام العرب والغربيين معا، خاصة بعد ان باتت سياسة «الحرب على الإرهاب» الزي الموحد الذي يجب ان يرتديه الجميع، حتى من كان يدعي الوطنية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ناهيك عن الحكام الملكيين أوالجمهوريين. إلا أن التقرير يبقى مهما، على معرفتنا بمساره، لأنه يوثق بشكل رسمي سجل التعذيب المنهجي لحكومة لديها، في معظم الدول العربية، دكاكين ووكلاء لبيع شعارات حقوق الإنسان بالكيلو.
ففي الوقت الذي وافق فيه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بعد هجوم 11 أيلول/سبتمبر 2001 على تشريع التعذيب ليمارسه محققو وكالة الاستخبارات الأمريكية (السي آي أيه) كانت تصريحاته المتتالية تؤكد للشعب الأمريكي والعالم أجمع «هذه الحكومة لا تعذب الناس». ترى كم مرة سمعنا هذه الجملة، ذاتها، تقريبا، ترمى علينا من أفواه الحكام والمسؤولين، العرب كما الغربيين، بينما يمارسون التعذيب الجسدي والعقلي، بأنواعه، يوميا، ضدنا بحصانة قانونية لايخترقها صراخ وامتهان كرامة الضحايا؟ فنغضب، ونثور، فيتم اعتقالنا، ونٌعذب ثم يٌطلق سراحنا بعد « تأديبنا»، إنْ بقينا أحياء، لنصغي من جديد إلى أكذوبة الحكام والمسؤولين عن نظافة أيديهم من دماء أبناء الشعب قتلا وتعذيبا.
مناسبة الحديث عن «إنسانية» حكامنا من ملوك ورؤساء ومسؤولين، هو صدور ملخص تنفيذي لتقرير لجنة لاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي عن برنامج التعذيب المنهجي الذي مارسته وكالة الاستخبارات الأمريكية ( ألسي آي أيه) ضد المعتقلين المتهمين بالإرهاب (
القاعدة) فترة حكم جورج بوش، والتي لا يزال بعضها مطبقا تحت إدارة الرئيس باراك أوباما، على الرغم من تنصله منها واعتبارها فعلا مسيئا لسمعة أمريكا. يتكون موجز التقرير من 525 صفحة، من أصل 6700 صفحة، حجبت الإشارة إلى الكثير منها حرصا على «الأمن القومي» لأمريكا وبريطانيا وحماية للدول المشاركة الأخرى ومنها الدول العربية. يتضمن الموجز، وهو حصيلة تحقيق دام خمس سنوات، تفاصيل تعذيب بعضها مبتكر في وحشيته (فالأمريكيون هم أهل الحداثة والأبتكار) مثل أدخال الأطعمة عن طريق الشرج، وبعضها الآخر أصيل أصالة زنزانات التعذيب العربية مثل التهديد باغتصاب القريبات. ساعد الوكالة في تسريع وتنويع طرق التعذيب علماء نفس تم التعاقد معهم ومع شركات خاصة لايزال بعضها يمارس ذات الافعال الوحشية بالعراق. يركز التقرير في أمثلته عن أساليب التعذيب، التي يزيد عددها على 17 طريقة، على معتقلي «الأرهاب» تحت سيطرة الحكومة الأمريكية، الذين تم استنطاقهم بأمرة السي آي أيه، في معتقلات متعددة موزعة على أرجاء المعمورة. وبطبيعة الحال، للدول العربية والإسلامية حصة لايستهان بها، بتعذيب المعتقلين في معتقلاتها التي يتم توفيرها كاملة مع الجلادين، مجانا، استرضاء للسيد الأمريكي وحماية لمصالح حكامها وملوكها. هناك إشارة إلى تعاون 13 دولة عربية مع البرنامج الأمريكي، وتؤكد منظمة «هيومان رايتس ووتش» الدولية أن
مصر والاردن والمغرب بالإضافة إلى
العراق طبعا، هي من بين الدول التي استقبلت وعذبت المعتقلين. وهل هناك ما هو أكثر نفعا للحكام المستبدين، أينما كانوا، هذه الأيام، من استرضاء الغرب، برئاسة أمريكا،عبر الانضمام إلى جوقة الحرب على الأرهاب والديمقراطية؟
يصف علي القيسي، الذي صارت وقفته مشدودا بالكهرباء ورأسه مغطى بكيس من الخيش في معتقل أبو غريب، رمزا لكل ضحايا التعذيب الوحشي الأمريكي، في مقابلة تلفزيونية، التقرير بأنه عبارة عن تجزئة للتعذيب وتقديمه، مع ما سبقه من تقارير مبتسرة، مقتصرا على عدد محدد من الضحايا فقط، حتى لا يمثل صدمة كبيرة ولكي يتم نسيان الأمر تدريجيا. كما ان تركيز التقرير على مسؤولية السي آي أيه، فقط، يعني إعفاء مسؤولي الإدارة الأمريكية، بضمنهم الرئيس جورج بوش، من المسؤولية، على الرغم من صدور العديد من التقارير والشهادات المؤكدة على معرفة الإدارة بتفاصيل طرق التعذيب واختيارها والتعامي عن معرفتها.
من الأمور التي تسترعي الانتباه حول أصدار التقرير، انه لا يشير إلى ضحايا التعذيب الأمريكي – البريطاني في العراق على الرغم من انه المجال الأوسع والأبشع فيما ارتكبته الإدارة الأمريكية، أما مباشرة بواسطة جلادي السي آي أيه أو المتعاقدين الأمنيين أو جلادي النظام العراقي ذوي الخبرة المحلية، ولم يحدث وعوقب أحد جراء تعذيبه للمعتقلين أو إشرافه على التعذيب، بل، غالبا، ما تسارع الحكومات لنفي «التهمة» وحماية الجلادين لكونهم جزءا لا يتجزأ من منظومة الحكم. المعروف، بالنسبة إلى العراق، ان المحققين الأمريكيين، كانوا يتجنبون « تلويث» أيديهم بتعذيب المعتقلين بل يسلمونهم إلى القوات الأمنية العراقية، أي القوات التي قاموا والبريطانيين بتدريبهم على «حقوق الإنسان»، أي ممارسة التعذيب بالنيابة عنهم.
ومفهوم « بالنيابة» أو بالوكالة هو ما يحدد علاقة ساسة النظام بسيدهم حيث يصبح للتفاحة الفاسدة مفعول واحد وهو تحويل سلة التفاح كله إلى خميرة عفنة. فما حدث في معتقل أبو غريب من قبل «بضع تفاحات فاسدة» حسب التعبير الرسمي الأمريكي، ما هو إلا نموذج لسياسة منهجية في امتهان كرامة الإنسان وكسر إرادته. نموذج تم تطبيقه، أيضا، في معتقلات بوكا والاستخبارات والكاظمية والمثنى، من بين العديد من معتقلات الميليشيات وفرق الموت المنتشرة في مدن العراق كله. كل هذه جرائم يجب ان يحاسب مرتكبوها أفرادا وحكومات، وإلا استمرت روح الانتقام في التجذر لتنتج نوعا من البشر اليائسين، غير القادرين على معايشة الآخرين، بل يسعون إلى الحاق الضرر بأنفسهم والآخرين، نتيجة ما تعرضوا له من ممارسات وحشية وظلم.
ويبقى الحل واضحا، تكرره المنظمات الحقوقية والإنسانية، المرة تلو المرة، وهو ان يحاسب ويعاقب الجلاد، مهما كانت مكانته، ومهما كان فردا أو حكومة، أمريكية أو عربية، وتطبيق القانون الدولي والمحلي، على الجميع، بلا استثناء، لكي لا يفقد الناس الأمل في وجود العدالة، ولكي لا يواصل المجتمع الدولي إنتاج «الإرهابيين» من صلبه ليتغذى على دمائنا.
٭ كاتبة من العراق
هيفاء زنكنة