مذبحة الزفاف والمرصد الأمريكي لجرائم الحرب في أوكرانيا
هيفاء زنكنة
مذبحة الزفاف والمرصد الأمريكي لجرائم الحرب في أوكرانيا
أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، في 18 أيار/ مايو الحالي، عن إنشاء مرصد لتوثيق الجرائم التي ترتكبها روسيا بأوكرانيا، واستخدام المعطيات « لمحاسبة المسؤولين عن الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان والضرر الذي يلحق بالبنية التحتية المدنية، بما في ذلك التراث الثقافي الأوكراني «. مبينا أن ذلك لن يقتصر على المحاكم المحلية بأوكرانيا بل المحاكم الأمريكية وغيرها من دول العالم.
وهي خطوة ضرورية. فغزو واحتلال البلدان، أمر مرفوض حسب القوانين الدولية والإنسانية، وتطبيقاتهما في حماية حياة الناس والبنية التحتية والتراث الثقافي في البلدان الخاضعة للاحتلال. وإدانة الاحتلال، وتوثيق جرائمه، ومحاسبة المسؤولين أمر مفروغ منه ويجب أن يتم بلا تردد، عالميا، لئلا يُمنح البلد المعتدي مساحة لتبرير عدوانه غير الشرعي وطمس جرائمه. وهو ما يُفترض القيام به، عالميا أيضا، مهما كانت طبيعة وقوة الدولة المُعتدية، منعا لإعطاء الضوء الأخضر للدول القوية عسكريا في حق غزو واحتلال الدول الأضعف للاستيلاء على مواردها الطبيعية أو لدوافع جيوسياسية.
ولكن، هل هذا ما يحدث فعلا إزاء كل البلدان أم أن مقولة « كل الحيوانات متساوية لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها» حسب الكاتب الانكليزي جورج أورويل، هي السائدة، مهما كان إقتناعنا بأهمية القانون الدولي وما يتمخض عن تطبيقه من عدالة تطمح الشعوب إلى تحقيقها؟ فزيف ما يُعاش، أوصل معظم الشعوب إلى القناعة بأن الإيمان بالقانون الدولي يماثل محاولة الإمساك بسراب. مادامت آلية تطبيقه تمر عبر المنظمات الدولية، الخاضعة في النهاية، وإن بدرجات متفاوتة، للولايات المتحدة الأمريكية وقوتها العسكرية. مما يوفر لأمريكا حصانة من المساءلة، تكاد تكون مطلقة، بينما تستقوي ذات المنظمات على دول أخرى تُصنف بأنها مارقة أو إرهابية، ويجب محاسبتها لارتكابها انتهاكات جسيمة ترقى الى مستوى جرائم حرب. الأمر الذي أدى، تدريجيا، إلى خلق نظام عنصري في مجال تطبيق القانون الدولي، يتناسب مع القوة العسكرية والهيمنة الاقتصادية للدولة أو الدول التي تروم تفعيله.
من هذا المنطلق، تقودنا المفارقة السوداء في توقيت الإعلان الأمريكي، عن تأسيس مرصد لتوثيق جرائم روسيا في أوكرانيا ومحاسبة المسؤولين، بعد إحتلال ثلاثة أشهر فقط، إلى الغزو والاحتلال الانكلو أمريكي للعراق، الذي سيبقى مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين، حيا في وجدان وذاكرة الشعوب عن الزيف والعنصرية. ليس لأن أمريكا تعامت عن غزو واحتلال العراق، كما تفعل بعض الدول حماية لنفسها عادة بل لكونها البلد الذي هدم البنية التحتية، وحبس مئات الآلاف بشكل غير قانوني، في ظروف لاإنسانية مهينة ( ولنتذكر أبو غريب كمثال) وسبّب قتل مايقارب المليون عراقي، أما بشكل مباشر أو غير مباشر، ونهب الآثار وحرق الموروث الثقافي فضلا عن مأسسة الفساد والارهاب على مدى عشرين عاما.
ولا يمكن المرور على توقيت الإعلان الأمريكي عن إنشاء مرصد للجرائم الروسية بدون التوقف عند مجزرة حفل الزفاف التي إرتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي بذات التاريخ، تقريبا، أي يوم 19 أيار/ مايو من عام 2004. حيث قامت مروحية أمريكية باطلاق النار على حفل زفاف في قرية مقر الذيب، قرب بلدة القائم، غربي العراق. مما أسفر عن مقتل أكثر من 40 شخصًا، من بينهم العديد من الأطفال. خلال ساعات أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بيانا إدّعت فيه بأنه لم يكن هناك حفل زفاف بل « مخبأ مقاتلين أجانب» وأنهم « كانوا معادين لقوات التحالف وأطلقوا النار أولاً، وأن القوات الأمريكية ردت على النيران ودمرت عدة سيارات وقتلت عددًا منها». تثير قراءة هذه البيانات الأمريكية لتسويغ جرائم قتل المدنيين الغثيان لفرط تكرارها وشبهها، إلى حد أدق التفاصيل، تبرير الكيان الصهيوني لجرائمه بفلسطين بحجة «حق الدفاع عن نفسه وأمنه». حيث يبرر الجنرال الأمريكي المذبحة بلا لحظة تفكير أو ندم. وهو يرى أن قتل العراقيين ضروري وهم يستحقون الموت. ولا يجد في المذبحة ما يدعوه إلى التشكيك بصحة قراره وأخلاقيته على الرغم من وجود شهود عيان، أكدوا أن الضيوف كانوا يطلقون النيران في الهواء وهو تقليد محلي إحتفالا بالزفاف، حين هجمت المروحية الأمريكية فهدمت دارين وقتلت الموجودين. وأكد نائب رئيس شرطة الرمادي، لوكالة « أسوشيتد برس» أن القتلى بينهم 15 طفلاً و10 نساء. وقال صلاح العاني، الطبيب في مستشفى الرمادي، أن عدد القتلى كان 45 شخصا.
وإذا اخذنا في الحسبان نظرة المحتل الدونية لشهود العيان العراقيين، ماذا عن وكالة « أسوشيتد برس» وروري مكارثي، مراسل صحيفة « الغارديان» البريطانية، الذي كتب بالتفصيل عن المجزرة يوم 20 أيار/ مايو، أثناء وجوده ببغداد؟ قائلا « وأظهرت لقطات تلفزيونية شاحنة تحمل جثث القتلى وهي تصل إلى الرمادي أقرب بلدة كبيرة. من الواضح أن العديد من القتلى كانوا من الأطفال». مذكرا بأن للهجوم « بصمات حادثة مماثلة في أفغانستان، قبل عامين، أطلقت خلالها طائرة أمريكية النار على حفل زفاف في إقليم أوروزغان في الجنوب، مما أسفر عن مقتل 48 مدنيا أفغانيا وإصابة أكثر من 100 آخرين. تم استهداف حفل الزفاف لأن الضيوف كانوا يطلقون النار في الهواء كتقليد احتفالي».
أليس هذا كله توثيقا لجريمة يجب أن تستخدم معطياتها لمحاكمة المسؤولين عن إرتكابها كما تفعل أمريكا، حاليا، في رصدها الجرائم الروسية ضد الأوكرانيين؟ لا يبدو ذلك. ففي حالتي العراق وأفغانستان، أعلنت القوات الأمريكية عن إجراء تحقيق، على غرار أن يقوم المتهم بالتحقيق في الجريمة التي إرتكبها. فكانت النتيجة تبرئة الطيارين تماشيا مع شهادة جنود أمريكيين قالوا إنهم تعرضوا لإطلاق النار. مما يترجم على أرض الواقع أن قتلهم المدنيين، وبينهم عشرات الأطفال، في العراق وأفغانستان، فعل ضروري للدفاع عن النفس في معركة بدأها إرهابيون ضد الحضارة. وهو منظور « يشمل كل من يطالب الغرب بالنظر في ماضيه» بكلمات المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد.