نصف قرن على رحيل الشاعر العراقي الكبير بدرشاكر السياب / بقلم الشاعروالاعلامي رمزي عقراوي - كوردستان — العراق
--------------------------------------------------------------------------------------------
نبدأ مقالنا بسطور محزنة جاءت بقلم الاستاذ ناجي علوش حول الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب الذي ظلمته الحياة والناس جميعا حيث يقول:
(ذات يوم اخبرني الشاعر علي السبتي ان بدرا سيأتي الى الكويت للعلاج بعد مرض عضال اصابه فاتفقنا على ان نستقبله في المطار. وذهبنا في الموعد المحدد لوصوله الى المطار! علي السبتي و فاروق شوشه وانا كان الوقت حوالي التاسعة صباحا على ما اذكر وصعدنا سلم الطائرة وكان بدر مازال جالسا.وجه اسمر معروق،. انف طويل حاد .عينان براقتان.جسم هزيل تلفه دشداشه حريريه وسترة ميالة الى الخضرة الفاهية.كان اللقاء حارا ولكن بدر الذي كان يبتسم وكان يبدو مرحا لم يكن يستطيع المشي …ساعدناه على الوصول الى الأرض حملا وانطلقنا به الى المستشفى.
وفي المستشفى عاش بدر اياما محزنة.. كانت صحته تتدهور وقروحه تتسع وكان يعيش وحيدا على الرغم من عشرات الأصدقاء الذين كانوا يأتون اليه يوميا.
وهناك في المستشفى عرفت الكثير عن بدر …كان يتكلم أحيانا وفي احيان اخرى يهذي ولكن خلال هذا كله كان يكشف تاريخه وذكرياته وهناك عرفت منه شيئا كثيرا عن جيكور وبويب وابي الخصيب وعن ابيه وامه وزوجة ابيه والجن وبيت جده والنخيل لقد كان يصارع الموت وهو يعرف انه يموت ولقد جئت اليه مرة فحدثني كيف انه راى عملاقين من الجن يتصارعان عند شباكه فارتعب وكان طيلة صراعهما يفكر بعضلاته الهزيلة وجسمه المنهار.
اصبح بدر خلال اقامته بالكويت جزءا من حياتنا اليومية وعلى الرغم من احساسنا بانه كان يذوي فقد اخذنا نحس بان علاقتنا به تزداد و توثق.
واخبرنا يوم 24/12/1964 ان الشاعر قد مات!))
وهنا ناتي على المقاطع المميزة من بعض قصائده الشعرية الخالدة نود من الاعماق ان تحظى باعجاب عشاق بدر شاكر السياب ومحبيه:
- من قصيدته (كيف لم احبك؟!)
كيف ضيعتك في زحمة ايامي الطويلة ؟
لم احل الثوب عن نهديك في ليلة صيف مقمرة؟
يا عبير التوت من طوقيهما…مرغت وجهي في خميلة
من شذى العذراء في نهديك –
ضيعتك ، آه ” يا جميلة!
انه ذنبي الذي لن اغفره!
كيف احبك! يا لهفة ما بعد الاوان
في فؤاد لم تكوني فيه الا جذوة في مجمره!
شعرك الاشقر شعّ اليوم شمسا في جنابي
يتراءى تحتها ساقاك ، يا للزنبق
رفّ من ساقيك!
آه كيف ضيعتك يا سرحة خوخ مزهرة؟
آه لو عندي بساط الريح!!
لو عندي الحصان الطائر !!
آه لو رجلاي كالامس تطيقان المسيرا !!
لطويت الارض بحثا عنك .
لكن الجسورا
قطعتها بيننا الاقدار ،مات الشاعر
فيّ وانسدّت كوى الاحلام
آه يا جميلة !
البصرة 8/11/1963
- من قصيدته (نسيم من القبر):
اما حملت اليك الريح عبر سكينة الليل
بكاء حفيدتيك من الطوى و حفيدك الجوعان؟
لقد جعنا و في صمت حملنا الجوع والحرمان
ويهتك سرنا الاطفال ينتحبون من ويل
افي الوطن الذي آواك جوع؟ ايما أحزان
تؤرق أعين الأموات؟
لا ظلم ولا جور
عيونهما زجاج للنوافذ يخنق الالوان
هناك لكل ميت منزل بالصمت مستور
ولكنا هنا عصفت بنا الاقدار من ظل
الى ظل ومن شمس الى شمس يغيب النور
على شرفات بيت ضاحكات ثم يشرق وهي أطلال
ويخفق حيث كركر أمس أطفال!
البصرة 18/4/1963
اشمّ عبيرك الليلي في نبراتك الكسلى
يناديني ويدعوني…
الى نهدين يرتعشان تحت يدي وقد حلا ّ
عرى الأزرار من ذاك القميص ويملأ الليلا
مشاعل في زوارق، في عرائش، في بساتين
شذى الليمون يصرع كل ظل في دواليها
اراك على السرير وانت بين الليل والفجر !
يكاد النجم في الشباك والمصباح في الخدر
يمسها النعاس وانت زنبقة حواشيها
ينبهها هتاف الديك يعبر ضفة النهر
ويهمس بي صدى : (سلوى…
تغني: (كل سلوى في خيالي تكشف الأضواء عنها
وهي تبتسم:
صديقة كل فحل في سدوم ، في يد قلم
يسطر في الجريدة انها تهوى ولا تهوى
هي امرأتان في امرأة ويسري في دمي الضرم
وجارتنا الصبية في حرير النوم تنسرب
يشف الثوب عن نهدين طوديين كم رجفا
من الأحلام تحت يد تعصر بردها لهب
لها من فورة العذراء عطر يرتخي، يثب!
يمازج نفخ مانفح الحشيش، يسيل مرتجفا
وكم عبر الخليج الي والأنهار ، والترعا
يدغدغ بيض أشرعة يهيم وراءها القمر
وينشج بينها المطر…
ليحمل من قرارة قلبك الآلام والفزعا.
- من قصيدته (عكاز في الجحيم):
وبقيت ادور
حول الطاحونة من ألمي
ثورا معصوبا، كالصخرة، هيهات تثور
والناس تسير الى القمم
لكني اعجز عن سير- ويلاه – على قدمي
وسريري سجني، تابوتي، منفاي الى الألم
والى العدم!
وأقول سيأتيني يوم بعد شهور
او بعد سنين من السقم
او بعد دهور!
فأسير …أسير على قدمي
عكاز في يدي اليمنى
عكاز؟ بل عكازان
تحت الإبطين يعينان
جسما من أوجاع . يغنى
طللا يغشاه مسيل دم
وأسير …أسير على قدمي!
لو كان الدرب الى القبر.
لم تترك بابك مسدودا ؟
ولتدع شياطين النار
تقتص من الجسد الهاري
تقتص من الجرح العاري
ولتأت صقورك تفترس العينين وتنهش القلبا
فهنا لا يشمت بي جاري
او تهتف عاهرة مرت في نصف الليل على داري
(بيت المشلول هنا، أمسى لا يملك أكلا ولا شربا
وسيرمون غدا بنتيه و زوجته دربا
وفتاه الطفل اذا لم يدفع متراكم إيجار
انثرني، ويك، اباديدا
وافتح بابك لا تتركه امام شقائي مسدودا
ولتطعم جسمي للنار !!
- من قصيدته (ليلة انتظار) :
يد القمر الندية بالشذى مرت على جرحي
يد القمر الندية مثل اعشاب الربيع لها الى الصبح
خفوق فوق وجهي كف طفلتي الصغيرة ، كف آلاء!
وهمس حول جرحي: كف طفلتي الكبيرة، كف غيداء!
تدغدغني ونحن على السرير معا، على السطح
هناك! وآه من ذاك المدى النائي
لاقرب منه جمرة الثريا وهي تلتهب
بعيد بعد يوم فيه امشي دون عكاز على قدمي
يئست من الشفاء، يئست منه وهدني التعب
وحل الليل ما اطويه من سهر الى سهر ومن ظلم الى ظلم
ولكن اليد النديانة الكسلى ترش سنابل القمح
على درب من الهمسات في حلم
بلا نوم يرفّ على جفوني ثم يحشوهن بالملح!
غدا تأتين يا اقبال ، يا بعثي من العدم
ويا موتي ولا موت.
ويا مرسى سفينتي التي عادت ولا لوح على لوح
ويا قلبي الذي ان مت اتركه على الدنيا ليبكي
ويجأر بالرثاء على ضريحي وهو لا دمع ولا صوت
أحبيني! اذا أدرجت في كفني- أحبيني!
ستبقى – حين يبلى كل وجهي كل أضلاعي
وتأكل قلبي الديدان ، تشربه الى القاع
قصائد …كنت اكتبها لأجلك في دواويني
أحبيها تحبيني!!
الكويت – المستشفى الأميري 5/8/1964
- من قصيدته (اقبال و الليل):
احن الى دار بعيد مزارها
وزغب جياع يصرخون على بعد!
واشفق من صبح سيأتي وارتجي
مجيئا له يجلو من اليأس والوجد!
يا ليل ضمّخك العراق
بعبير تربته وهدأة مائه بين النخيل!
اني احسك في الكويت وانت تثقل بالأغاني والهديل
اغصانك الكسلى و (يا ليل) طويل
يا ليل اين هو العراق؟
اين الاحبة؟ اين أطفالي؟ وزوجي والرفاق؟
يا ام غيلان الحبيبة صوبي في الليل نظره
نحو الخليج: تصوريني اقطع الظلماء وحدي
لولاك ما رمت الحياة ولا حننت الى الديار
حبّبت لي سدف الحياة مسحتها بسنى النهار
لم توصدين الباب دوني؟ بالجوّاب القفار
وصل المدينة حين اطبقت الدجى ومضى النهار
والباب اغلق فهو يسعى في الظلام بدون قصد!
وخوّض في الظلماء سمعي تشده
بجيكور آهات تحدرن في المد
بكاء وفلاحون جوعى صغارهم
تصبرهم اساها خافق النجم بالاسى
وتروي هواها نسمة الليل بالورد
اين الهوى مما ألاقي والأسى مما ألاقي؟
يا ليتني طفل يجوع، يئن في ليل العراق؟
انا ميت ما زال يحتضر الحياة..
ويخاف من غده المهدد بالمجاعة والفراق
إقبال مدّي لي يديك من الدجى ومن الفلاه!
جسّي جراحي وامسحيها بالمحبة والحنان
بك ما افكر لا بنفسي: مات حبك في ضحاه
وطوى الزمان بساط عرسك والصبا في العنفوان!
(لم تؤرخ هذه القصيدة المؤثرة جدا ويحتمل انها آخر قصيدة كتبها الشاعر الراحل)
وخير ما نختتم بها دراستنا هذه بعض المقاطع الشعرية من قصيدته الرائعة (حطمت قيدا من قيود)
حررت بالدم كل جيل ناء
أت سيذكر منة الآباء
ورقيت من جثث الضحايا سلما
يفضي الى الحرية الشماء!
وجعلت احجار القبور صحائفا
وملأتهن برائع الانباء!
فتلفيت التاريخ يلقي نظرة
عجلى، ويومئ باليد الحمراء!
(ان الضحايا قصرت أعمارها
في الموت عمر (السادة) الأحياء!
وعصابة جمع الشراب لصوصها
في مخدع الآثام ذات مساء
آلت تبيعك للغريب وأقسمت
بالليل والخمار، والصهباء!
الا يذوب الصبح في أقداحها
الا وأنت مكبل الأعضاء!
وتسلمت عن كل جرح مثله
- ذهبا – فأثرت من دم الاشلاء
قال (الحليف) كما يشاء ووقـّعت
باسم الجياع (صحائف) الارزاء!
في كل سطر آهة من ايّم
ولهى، وكفا سائل بكـّاء!
قذف (الأجير) برائديه وصحبه
في جانبيه فغصّ بالعملاء!!
النائمين على الحرير وحولهم
شعب مراقده على الغبراء!
التاركين لكل كوخ آهة
ولكل قصر ضحكة استهزاء!
السارقين من الرضيع وامه
(لبنا) لكلب نابح وجراء!!
السالبين من العذارى بسمة
ذابت فكانت (لمعة) لحذاء!!
والصانعين (قياثرا) اوتارها
اعراق هذي الامة (الخرساء) !!
ومشت لتفرض بالحديد قيودها
والنار (شرذمة) من الاجراء!
ان (الحليف) هو الحليف وان صفا
لا تخدعنك صبغة الحرباء!!!
حيث التفت رأيت شعبا جائعا
عريان، يملأ جوفه بالهواء!
يسقي الزروع دما لتثري (طغمة)
تبني سعادتها على الاشقاء
واذا تضجر (أطعمته) رصاصها
و(كسته) بالأكفان والبوغاء!!
عاد (الحليف) بباليات عهوده
فرقا يحجبها عن (الالغاء)!
يلتمس (التعديل) من اعوان
ويحوك ألف دسيسة عمياء!
ويبث في الظلماء من أذناب
زمرا تنافق جهرة وترائي
واستيقظ الإرهاب يفرك مقلة
رغم النعاس دقيقة الاحصاء
عدت على الأحرار آثار الخطى
والاهة الحرّى على السجناء!
قل للحيلفة ان شعبا واعيا
هيهات ان يرضى بغير جلاء!
=================
بقلم الشاعروالاعلامي رمزي عقراوي
من كوردستان — العراق